كلود أبو شقرا
منذ العصور الأولى للمسيحية، لجأ المسيحيون إلى المغاور للاحتماء من الاضطهادات، باعتبار أنها توفر شبكة دفاعية مهمة تقيهم من نيران الهجمات التي تشنها عليهم الجيوش المتعاقبة… وقد انتشرت هذه المغاور في البلاد التي تتوافر فيها الصخور والأراضي الكلسية، كما في فلسطين ولبنان، واللافت أن السكن في هذه المغاور لم يتوقف على مدى أزمنة التاريخ وصولا إلى اليوم، على غرار بعض اللاجئين الفلسطينيين الذين يقيمون في مغاور طبيعية قرب أريحا.
لم يكتف المسيحيون الأوائل بالسكن في المغاور بل نحتوا الصخر وبنوا فيه الكنائس، وحفروا عميقاً تحت الأرض وشيدوا مدناً،مستمدين قوتهم من إيمان لا يتزعزع وتصميم على دحر المعتدي، مهما عظمت أسلحته واشتدت نيرانه…
صمدت هذه المدن عبر التاريخ وما زالت جدرانها تردد صدى البطولات التي خطها المسيحيون بأحرف من نور، وخير دليل على ذلك مدينة كاملة تحت الأرض هي الأكبر في العالم، اكتُشفت أخيراً في منطقة كابادوكيا، في محافظة نوشهر وسط الأناضول، ويصل عمقها إلى ستين متراً. في هذا السياق أشار رئيس إدارة تطوير الإسكان التركي محمد طوران إلى أن الممرات أو الأنفاق المكتشفة التي تربط مناطق المستوطنة يصل طولها إلى سبعة كيلومترات. وقد أدى هذا الاكتشاف إلى إدراج المنطقة ضمن مناطق الثراث الوطني والثقافي التركي.
مركز إشعاع مسيحي
كبّادوكيّة إقليم في آسية الصُّغرى يقع غربي أرمينية كان محميّة رومانيّة في القرن الأول قبل الميلاد، ثمّ ولايةً رومانية في القرن الثاني؛ وفي ما بعد مركز إشعاع مسيحيّ أثر، في شكل كبير، في انتشار المسيحيّة. بحسب المؤرخين، تعود “كابادوكيا” إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وظل المسيحيون يقطنونها حتى سنة 1923، تاريخ قيام الدولة التركية.
تقع كبادوكيا في شرق هضبة الأناضول، في وسط تركيا المعاصرة. تتألف تضاريسها من سهل هضبي يرتفع ألف متر عن سطح البحر، تتخلله قمم بركانية، وجبل أرجييس، قرب قيصرية وهو أطول المرتفعات (3916 متراً).
لا تتضح معالم حدود كبادوكيا بشكل دقيق، خصوصاً نحو الغرب. أما من الجنوب، فتشكل سلسلة جبال طوروس الحدود مع قيليقيا وتفصلها عن البحر الأبيض المتوسط، وإلى الغرب يحدها إقليما لايكونيا من الجنوب الغربي وغلاطية من الشمال الغربي. تفصل سلسلة البحر الأسود الجبلية الساحلية كبادوكيا عن البنطس والبحر الأسود من الشمال، بينما يحدها من الشرق نهر الفرات الأعلى، قبل أن ينعطف إلى الجنوب الشرقي ليصب في بلاد الرافدين والمرتفعات الأرمنية. كونها داخلية وعلى ارتفاع عالٍ، تتميز كبادوكيا بمناخ قاري، حار وجاف صيفاً، وبارد ومثلج في الشتاء.
يعود ذكر كبادوكيا إلى نهاية القرن السادس ق م، عندما ظهر اسمها الفارسي كتباتوكا (أرض الخيول الجميلة) في نقوش اثنين من الملوك الأخمينيين، دارا الأول وخشایارشا الأول، كإحدى بلدان الإمبراطورية الفارسية، المعروفة بتربيتها للخيول.
في العصور المسيحية الأولى، استخدمت المدن تحت الأرض كأماكن للاختباء من الرومان قبل تحوّل المسيحية إلى ديانة مقبولة. تضمنت هذه المدن شبكات دفاعية وأشراكاً في طبقاتها السفلية، بعضها مكوّن من صخور دائرية لإغلاق الأبواب والمعابر، وبعضها مؤلف من ثقوب في الأسقف، بالإضافة إلى ممرات ضيقة، لمواجهة الأسلوب القتالي الروماني الذي اعتمد على القتال الجماعي.
في القرن الرابع الميلادي، شكل الآباء الكبادوكيون الركائز الأساسية للفلسفة المسيحية آنذاك. برز من بينهم رجال تبوأوا بطريركية القسطنطينية، منهم يوحنا الكابودوكي ( 517-520). في الفترة البيزنطية بقيت كبادوكيا في أمان نسبي عن منطقة المواجهات الدائرة بينها وبين الإمبراطورية الساسانية، لكنها شكلت منطقة حدودية مهمة خلال فترة الفتوحات الإسلامية. ومع القرن السابع الميلادي، قسمت كبادوكيا بين ثيمتا أناتوليك وأرمينياك.
على مر تاريخها، شاطرت كبادوكيا جارتها أرمينيا ( كانت إقليماً من الامبراطورية) في التاريخ والتبادل الحضاري. كتب المؤرّخ العربي أبو الفرج الأصفهاني في هذا السياق: “غلب الأرمن على سيواس في كبادوكيا، وقد تعاظمت أعدادهم فيها حتى أصبحوا جزءًا كبيراً يسود جيوش الروم. وقد استُخدم هؤلاء الأرمن كحاميات لاحتلال المعاقل المنتزعة من العرب. ميزوا أنفسهم كجنود مشاة محنكين متمرسين في الجيش الإمبراطوري، قاتلوا بشجاعة وإقدام إلى جانب الرومان أو بكلمات أخرى البيزنطيين”.
نتيجة للحملات العسكرية البيزنطية واحتلال السلاجقة لأرمينيا، انتشر الأرمن في كبادوكيا من قيليقية والمناطق الجبلية في سوريا وبلاد الرافدين، ومنها تشكلت المملكة الأرمنية القيليقية. وقد تضاعفت هجرتهم بعد تراجع نفوذ الإمبراطورية البيزنطية وتأسيس الممالك الصليبية بعد الحملة الصليبية الرابعة. بالنسبة إلى الصليبيين عرفت كبادوكيا بـ”بلاد الأرمن”، بسبب سعة استيطانهم فيها.
خلال العصور الوسطى، غزت القبائل التركية المنطقة واستوطنت فيها. ومنذ عام 1915، شكلت القوميات التركية الغالبية العظمى من سكان هذه المنطقة.
كنائس في الصخور
تعرف كبادوكيا بالأرض الساحرة. تتميّز بمناظرها الخلابة وتزيد من جمالها القلاع التاريخية والأعمدة الجيرية المسماة “الأعمدة الساحرة” المنتصبة منذ مئات السنين، وهي آهلة بالسكان منذ العصر الحجري.
من بين المدن التي تقع تحت الأرض، ديرينكويو، كايماكلي وغازي أمير وأوزكاناك. أفضل القصور التاريخية والبيوت الكهفية موجودة في أورغوپ وغوريم (كانت مركزاً رهبانياً بين عامي 300-1200) وغوزليورت وأوج حصار.
تشكلت الصخور الرسوبية، تحت كبادوكيا، في البحيرات والمجاري المائية ورواسب البرقعان (Ignimbrite) التي انفجرت من البراكين القديمة قبل حوالي 3 إلى 9 ملايين سنة. أما صخور كبادوكيا بالقرب من غوريم فقد تآكلت لتصبح مئات من الأعمدة العجيبة في أشكال المنارات. وقد نحت الذين استوطنوا كبادوكيا البيوت والكنائس والأديرة من رواسب الطوفة البركانية الخفيفة.
تعود الفترة الاستيطانية الأولى لغوريم إلى العهد الروماني، بيوتها وكنائسها محفورة في الصخور، ويعد متحفها المفتوح أحد أكثر المواقع استقطاباً للسياح. تضم غوريم أكثر من 30 كنيسة منحوتة في الصخور ومزارات صغيرة مزدانة برسوم تعود إلى القرنين التاسع والحادي عشر.
تشهد الزخرفات النادرة، التي لا تشمل أي عنصر متعلّق بالله أو الإنسان والمحفوظة في كبادوكيا وفي ناكسوس، على استمرار الرسوم التي تبتعد عن موضوع الصليب. في تجديد النهضة المقدونيّة المتجسّد بالأخص في الفنون الرفيعة والمنمنمات، احتلّت الجدرانيّات مرتبة ثانويّة. وتبعت كنائس كبادوكيا التي تضاعف عددها توجّهات مختلفة: إلى جانب الزخرفات التي تتميّز بأسلوب خطي وأوجه مسطّحة وألوان كثيفة، يمكن رصد التأثير القديم في بعض الزخرفات كما في كنيسة “توكالي كيليسي” الجديدة في كبادوكيا. وقد جُددت الزخرفات المرسومة بعد هرطقة تحطيم الصور، مع استقرار المنطقة تحت هيمنة السلاجقة، وازدهرت فيها الشعوب المسيحيّة.
يضم مثلث أقصراي ونوشهير وكبادوكيا التاريخي الواقع في قلب الأناضول التركي متحف المومياء أو المحنطات التي تعود إلى 11 ألف عام، وفيه محنطات أخرى تعود لرجال دين عاشوا بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، وتشير الأدوات المنزلية والأغراض الخاصة إلى ذلك.
أسماء لامعة
في القرن الرابع للميلاد لمعت أسماء ثلاثة في كنيسة كبادوكيا: باسيليوس الكبير، شقيقه الأصغر غريغوريوس النّيصيّ، زميله في الدراسة وصديقه غريغوريوس النازينازي، كان لهم أثر فريد في اللاهوت وفي الكنيسة. كانوا من النُّخبة الذين أداروا شؤون الكنيسة المتجدّدة في القرن الرابع، وتمتعوا بثقافة عالية وعميقة أهلتهم لمناصب الخطابة والمحاماة والحُكم. في ما بعد تخلّوا عن المناصب وانقطعوا إلى حياة النُّسك.
لكلّ واحد من هؤلاء أهميّته وميزته، فباسيليوس كان سياسيّاً كنسيّاً لامعاً، وغريغوريوس النازينازي خطيباً ولاهوتيّاً، وغريغوريوس النّيصيّ مفكّراً وفيلسوفاً. اعتبر الأول والثاني، مع أثناسيوس ويوحنّا الذهبيّ الفم، “أعظم ملافنة الكنيسة الشرقيّة الأربعة” منذ عهد بيوس الخامس، أي منذ سنة 1568.
كذلك برز فرمليانوس أسقف قيصرية كبادوكيا الذي تولي رعاية قيصرية كبادوكيا خمساً وثلاثين سنة ونيف (232 – 268 م). اشتهر بالتقوى والورع واستقامة الرأي. أعجب بعلم العلامة أوريجينوس، وزاره في قيصرية فلسطين. تعاون مع القديس غريغوريوس العجائبي في معالجة هرطقة بولس السومسطائي، فرأس مجمع إنطاكية الأول عام 264 م، وتوفي وهو في طريقه للاشتراك في أعمال مجمع إنطاكية الثاني.
زيارة حج
من أبرز الشخصيات التي زارت كبادوكيا في السنوات الأخيرة ، تحديداً في العاشر من حزيران 2010، البطريرك المسكونيّ بـرثـلماوس الأول، الذي احتفل بالقداس الإلهي في كنيسة أثرية في كبادوكيا اسمها مالاكوبي وبالتركية ديرينكويو، رافقه بطريرك الإسكندرية ثيوذوروس ورئيس أساقفة أثينا إيرونيموس والمتروبوليت إيلاريون رئيس دائرة العلاقات الخارجية في بطريركية موسكو. خدمت القداس جوقة رهبان دير كسينوفوندوس في جبل آثوس بحضور كهنة ومؤمنين.
بعد القداس تكلّم المتروبوليت إيلاريون قال: “نحن في روسيا نعتبر كبادوكيا أرضًا مقدسة، هنا لمع آباء الكنيسة العظام باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي وغريغوريوس النيصيّ. هنا في مغاور هذه الأرض نَسك الرهبان والراهبات. نور الإيمان المسيحيّ سينير من جديد هذه الأرض المباركة”.
بناء كنيسة للسريان في تركيا
في خطوة هي الأولى من نوعها منذ إعلان الجمهورية التركية ( 1923) سمحت الحكومة التركية ببناء كنيسة جديدة في اسطنبول للأقلية السريانية، فضلاً عن ترميم وإعادة فتح كنائس أمام الجمهور..
في هذا السياق أشار أحد المسؤولين في الحكومة التركية، إلى أن الأخيرة منحت ترخيصاً لبناء الكنيسة في منطقة يشيل كوي المطلة على بحر مرمرة على أرض قدمتها بلدية اسطنبول، في الجانب الأوروبي من المدينة العريقة وعاصمة الأمبراطورية البيزنطية سابقاً، ويعرفها الأوروبيون باسمها القديم سان ستيفانو، وتضم ثلاث كنائس للأرمن والأرثذوكس والكاثوليك.
من المقرر أن يبدأ بناء الكنيسة في غضون أشهر، وستموله مؤسسة تدافع عن حقوق السريان، من طائفتي الأرثذوكس والكاثوليك، الذين يعيشون جنوب شرق تركيا ويقدر عددهم بنحو 20 ألف شخص.
كلام الصور
1- بيوت في الصخر
2- ممر في المدينة تحت الأرض
3- غرف تحت الأرض
4- منازل تحت الأرض
5- كنائس في الصخر
6- باسيليوس الكبير