بقلم: د. ناتالي خوري غريب
كرّمت الحركة الثقافيّة أنطلياس في عيد المعلّم، الأستاذ المربّي أمين زيدان، ولأمثاله يليق التكريم. ولا أبالغُ إِنْ قلتُ، إنّي أشعرُ به طوباويًّا-أفي اعتلاءِ مِنبرٍ-أم في رقيِّ حضورٍ- هالةً تُذهلك خشوعًا، فيصيبُك منها نورُ تسبيحاتٍ من كلماتٍ، بها، يُمجّدُ خالقَه كلّ أوان، ويُشعركَ أنْ: “آن تجسيدها كلّ آن”.
فهو الأمين الذي لمّا يزل يلملم نثار رؤى من عالم المثال، فيقطف ثمارَه هدى طريقٍ، لها فوحُ شذا قيمٍ، ليعكسَ رفيفَ أجنحةِ الملائكِ صدى ترجماتِ أصواتٍ، تعلو من السماء :”أنْ هذا المتكلّم باسمي صلاح درب يعبّد، ابتهالًا وتسبيحًا”، محاولا تحويل الأرض إلى سماء، أو قلْ عيشَ الجنّة على الأرضِ مع العائلة وبين الأصدقاء، احتفاءً بالكلمة-الفعل، التي يشعرُ بقدسيّتِها في وجودِه وعالمه وأعماله.
وقد تمّ توزيعُ كتابٍ له على الحضور، بعنوان “العائلة جنّة”، احتفاءً بتكريمه، مطبوعًا بخطِّ يده، (جزءان في مجلّد)، على أمل أن يصدر لاحقًا ثلاثة أجزاء أخرى في مجلّد ثانٍ.
وتعود كتابة هذا العمل إلى السبعينات والثمانينات، هو أقرب إلى الدعوة لتألّه هذا الناسوت، وتقدّسِ عائلةٍ بالحبِّ، وعلى مذبحِ اللهِ الآبِ، تقديمُ حياتِها.
هو عالمُ المثال ينشده، “جنّةً” في عائلةٍ، بنى لها قصرًا من الحبّ، وبأنهارٍ من الحنان أحاطها، عوض اللبن والعسل، والشجرةُ، معرفةٌ، هو الجذعُ فيها، يشرب من “ماء الحياة”، كلمة الله التي بها يغتذي، فترتوي أغصانها، على أمل أنْ أوراقها تخضوضر، فتزهر وتثمر. وكأنّي به أراد في تكوين عائلةٍ، عيش جنّة على الأرض، وعد بها الله أبناءه ومن يسير بهديه، عودةً إلى ما جاء في الكتاب المقدّس: (تكوين2: 8-10)، وحزقيال( 28:13) : أن غرس الله للإنسان جنّة في عدن”، وتفرض هذه الحياة للإنسان وجوب العمل: (تكوين 2:15)، مع انطباعها بسعادة مثاليّة، تذكّر بالأوصاف الذهبيّة التقليديّة للعصر الذهبي في أكثر من وجه، كالألفة مع الله ، والوحدة المنسجمة بين الزوجين الأوّلين،( تكوين2: 19-20). والبراءة الخلقيّة التي لا تعرف الخجل،(تكوين 2: 25) . وعدم وجود الموت الذي لا يدخل هذه الدنيا إلّا على أثر خطيئة. ولم يكن كتابه هذا”العائلة جنّة”، أدبًا وجدانيًّا ذا نزعة مثاليّة فحسب، ، بل حياة وعيش حبّ وتضحية وفداء، يهديه إلى “أقانيم الروح من ثالوثه الأرضي”(أبنائه) وزوجه، حياة بها الإنجيل أوصى والمسيح علّم وأوحى.
يقول لزوجته: “هو الطّيف سميّا/اختصار السمّو/منّة الله عليّا،/فما بعد علوّ!!!/إن تبادلنا نَعَمْ”/أمطرَ الربُّ نِعَم”!!/وحياتنا أنموذجًا تغدو../وخلقٌ إثرَنا يعدو/124
ويقول في تدشين بيته في الحازميّة: “شئناه، مذ دخلناه، على اسمِ العذراء مريم”، مغارة،!/ليتها تكون مغارة بيت لحم جديدة، تكثر أخوة يسوع وأخواته./…لم تهتدِ العائلات المسيحيّة في الشرق، بعدُ،/ إلى إدراك أنّ كلّ بيت هو،/ قبل كلّ شيء، للربِّ كنيسة،/ ولروحه القدّوس هيكل./207.
وهكذا، في حنايا الكتاب، قصّة حبّ زوجين ، نذرا بيتهما للربّ مغارة تقوى يفوح منها طيب بخور الفضيلة، ومسيرتهما في انتظار ذرّيّة بها تكتمل فرحة الإنسان في سيرورة اسم وحياة، على مذبح الله الآب تقدّم آمالها وحياتها، فصّور هذا الكتاب تفاصيل مجيء ابنتين(جوليانا وإليسّا) وابن(طوني)، سبقتهم بشارة الحضور، مع كلّ ما يرافق تربية الأبناء من روعة آمال وأحلامٍ بغدٍ يحملُ وعدَ الفرح الآتي بحضرة الروح القدس ونعمته، وتعبير عن سكون النفس الطامحة إلى تحقيق هناءة وجودها، من دون أن تخلو من متاعب ومصاعب، وشاعرٌ يدوّن ما جادت به قريحة أبٍ أعطى نفسه وحبّه كلًّا بكلّ لكلّ ابن من أبنائه، كما أعطى الله ذاته كلّا بكلّ ، لكلّ إنسان من خليقته. فأصبح ألمه من ألم المسيح ومواجده من مواجد الربّ حين خاطبه بعد فقدان ابنه، أقنوم روحه الثاني، قائلًا: ” أيّها الإله الواحد/المثلّث الأقانيم/ عرفتَ أنتَ العليم، لمَ بابنِكَ الوحيد،/ثاني أقانيمكَ ضحّيت!/وعلمتَ أنت العارفُ السرمديّ،/من وما به افتديت!…/ليتك تجعلني أعرف،/أنا الجاهل،/لمَ بابني الوحيد أنتَ ضحّيت!..وعفوًا أن ظلّ يضايقني على صليبي التّسليم بما تشاء من ولدي ومنّا،/أمّه وأختيه وأنا..ص286
صفحات كتابه هذا “العائلة جنّة”، هي فصول كتاب حياته، تظهر كيف أنّ الله قد زرع في كينونته محبّته، وأرشده إلى سرّ الوجود اللاهوتي الأعظم، فرقّ إحساسُه، وشفّت طبيعتُه، وتجوهر في صفاء يقينِه، ما جعله يعانق الحقائقَ في مواقد الإلهام الإلهي الذي يتكوثر في وجدانه، فتقجّر أدبًا وإبداعًا.
وقد تجلّى هذا الإلهام كلمًا على روعة قلم، ينسكب بأسلوب متفرّد ، إذ تتميّز كتابات الأمين ، شعره والنثر، بتفرّد طريقة في التركيب، على بلاغة تقديم وتأخير، يتوازن فيها النحو والصرف مع رؤيته والرؤيا، لتصبح عباراته جملًا موسيقيّة ينسكب فيها الفكر إيقاعًا تتأهّب له الأذن، والعقل يتهيّب، ليسمع غير ما يتوقّع، فيبهرك بابتكار تركيبٍ، جاعلَا النعت المجرور دومًا سابقًا على المنعوت، وهذا ما لم يهتدِ العرب سابقًا إلى سرّه، وإلى جماليّة سحره، ففي كتب النحو والصرف والبلاغة، قديمها والحديث، كما في كتاب أحمد الهاشمي: “جواهر البلاغة”، والمغني اللبيب عن كتب الأعاريب،لابن هشام الأنصاري، وشرح قطر الندى وبلّ الصدى، للمؤلّف عينه، وتلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع، للخطيب القزويني، وغيرها….لم تذكر في فصولها (التقديم والتأخير) بالطريقة التي يستخدمها شاعرنا، واللافت، أنّ جملَه بصيغتها تلبس حلّة كاملة، وكأنّها تتنزّل بصيغتها الموشّاة فطرة فكر من غير نحتٍ و تصنّع .
أمّا صيغة المؤنّث التي يستخدمها، فهي إنْ في الجمع، على الدوام سالم، عالي المقام، والنسب إلى عائلة الأفكار والمخيّلات دائم، أمثال:” مخيّلاتي-ألفباءات الموسيقى والرسم-إطلالات الكلمات-سويعات-أُحكيات-أحدى العاشرات-…”، التي تصبح بعد تدليله لها:”أخيّات فكري-بنيّات عقلي..” وأيضًا لنسب الفكر عينه. وإن في غير الجمع، فهي مع القيم والفضيلة لها صلة أرحام و حبل وشائج.
هي مدرسة في الكتابة الأدبيّة أسّس لها الأستاذ أمين زيدان، ووضع أصولها بكلّ ما كتبه، شعرًا ونثرًا، ونحن وإن كنّا نحاول التماهي بأسلوب كتابته، نبقى تلك النسخة المقلّدة، وشرفها أنّها تحاول أن تحاكي الأصل، علّنا نتشرّف بأن نكون مريديه في مدرسة فكره ولاهوته وأسلوبه.
(*) أمين زيدان شاعر وأديب ومترجم، له ما يقارب مئة وخمسين كتابًا، منها ما نُشر أو ما زال مخطوطًا.
“نثار رؤى” هو عنوان مخطوط للشاعر.