الباحث خالد غزال
بعد مرور أربع سنوات على انطلاق الحراك العربي، بدءاً من تونس، تحت شعار مركزي “الشعب يريد
إسقاط النظام”، تحولت الانتفاضات انفجاراً في المجتمعات العربية وفي بناها ومنظوماتها القائمة. أبرز مظاهر الانفجار، الحروب الأهلية الساخنة، وصعود الإرهاب بشكله الواسع في المنطقة العربية وخارجها، وتجلببه برداء الدين الاسلامي والسعي الى إقامة دولته الدينية على تراب العالم العربي.
حملت الكتابات والسجالات التي تناولت الموضوع آراء متناقضة ومتضاربة في فهم ما يحصل، منها ما كان خارج الموضوع، ومنها ما لامسه الى هذا الحد او ذاك. لكن الناقص هو الدخول في عمق الأزمة الانفجارية ببناها السياسية والثقافية والفكرية والدينية، وتجاوز محرّمات النقاش، واقتحام كل المناطق التي كانت تعتبر من غير المسموح التفكير فيها ومساءلة مضمونها. لماذا تحولت الانتفاضات التي بدت بارقة أمل عربي الى كابوس رهيب ترتعب منه اليوم الشعوب العربية نفسها؟ هل هذا المصير قدر دائم لا فكاك من شباكه؟ إنه سؤال الأسئلة.
لم يكن لا ربيعا ولا ثورات
عندما اندلع الحراك في تونس ثم امتد لاحقاً الى مصر، ونزلت الجماهير، بمختلف فئاتها وطبقاتها ونخبها، الى الشوارع، تطالب بإسقاط الأنظمة، رافعةً شعار الديموقراطية والدولة المدنية، ساد شعور مليء بالفرح لدى معظم الشعوب العربية، فهي ترى مشهداً لم تألفه منذ هيمنة أنظمة الاستبداد السياسي. سقط جدار الخوف المادي والمعنوي والنفسي، وخرجت الشعوب من سجنها الموصود عليها، واستعادت حقها في السياسة والتعبير. ترافق هذا الحراك مع نقاشات النخب الثقافية والإعلامية، التي وصفت الحدث بأنه ثورة بكل معنى الكلمة، وبأن الربيع العربي آت، تشبيهاً بربيع براغ 1968. في العودة الى السنة الأولى للانتفاضات، غلبت الاحتفالية الشكلية عليها من دون النظر الى معضلاتها وتناقضاتها وما يمكن أن تفرزه من نتائج، وخصوصا أنها تقع على مجتمعات عربية ذات تكوين بنيوي معوق، وعلى دول كات قد بدأت تتفكك لصالح البنى العشائرية والقبلية والطائفية.
ساد نقاش كاريكاتوري يتهم كل من يرفض توصيف الحراك بالثورة بأنه انهزامي. كما سادت نظريات كثيرة من نوع أن الثورة تنبع اليوم من وسائل التواصل الاجتماعي التي تحشد على صفحاتها الملايين، وأن منطق التنظيمات الحزبية قد سقط لأن الجماهير لا تحتاج الى مثل هذه الأطر، فهي قادرة على إسقاط من تريد بحشودها المليونية. وارتفعت أصوات تصف ما يجري بالثورات الناعمة التي أنتجها الـ”فايسبوك”، في وقت كانت الدماء تسيل في كل بلد من بلدان الانتفاضات.
هذا السلوك الذي انخرطت فيه النخب العربية تهليلا لما حصل، وتحميل الحراك القائم ما لا يمكنه تحمله من مهمات سياسية وفكرية وتغييرية، لا يستعصيان على الفهم والتفسير. فهذه النخب كانت مصابة، بحق، بالإحباط واليأس من إمكان التغيير في العالم العربي في ظل أنظمة عاتية في استبدادها استطاعت أن تبيد المعارضات، سجناً وتهجيراً وقتلاً، فما إن لاحت بادرة تمرد على هذه الأنظمة، حتى ضخّمتها وأعطتها توصيفات لا أساس لها، من قبيل “الربيع العربي” أو الثورات المتواصلة.
لذلك احتفت بالحدث من دون أن تناقش تناقضاته واحتمالاته المقبلة. لكن الزمن لم يتأخر في انكشاف حدود هذه الانتفاضات ومآزقها البنيوية، بعدما أنجزت شيئاً محدوداً من شعاراتها على صعيد إسقاط رأس النظام في بعض الدول، من دون التمكن من تغيير مؤسساته ومنظوماته البنيوية. ما إن استقرت الأمور وبدأت الانتفاضات تأخذ مجرى إعادة تكوين السلطة، حتى تبخرت الشعارات والأحلام الوردية التي توهمتها هذه النخب، فتحولت خطب كثيرة الى نقيضها.
بات الربيع العربي خريفاً وشتاءً، وارتدّت نخب كثيرة عن مواقفها المعارضة للأنظمة نحو إعادة الالتحاق بها تحت حجة خطر الإرهاب الذي فجّرته الانتفاضات، والذي يفوق في نظرها قمع الأنظمة القائمة التي يظل بقاؤها أضمن للحد من هذا الإرهاب.
إن عدم تعيين حدود الحراك والانتفاضات، والغوص في تناقضات البنى العربية التي يسقط عليها هذا الحراك، والإصرار على ان ما جرى هو ثورات، أدت الى التخبط في قراءة التحولات والتطورات الجارية في العالم العربي، وتسببت في إصدار أحكام عدمية في كثير من الأحيان حول الراهن والمستقبل. فالمنطلق الخاطئ في تحميل الانتفاضات مهمات تغيير ثوري، هو الوجه الآخر للإحباط الذي أصاب النخب العربية من استحالة التغيير في ظل الأنظمة القائمة. وهو سيصل حكماً الى نتائج خاطئة في التحليل والخلاصات. هذا ما وقعت فيه نخب كثيرة خلال السنوات الأخيرة، ومنها مقاربة مشير باسيل عون في عدد 10 كانون الثاني من “الملحق” تحت عنوان “الاستحالة الفلسفية للربيع العربي”، حيث افترض أن ما يجري هو ثورات، فأسقط عليها أنماط الثورات التي قامت قي انكلترا وأميركا وفرنسا وروسيا والصين، مغيّباً الواقع الذي جرت فيه كل ثورة وظروفها وطبيعتها، مما يفرض الابتعاد عن مقولة الربيع أو الثورة في وصف ما جرى كشرط ضروري لفهم الأسباب التي جعلت الحراك العربي يتوقف عند حدود في التغيير، ولفهم أسباب تحول هذا الحراك الى حروب أهلية في أكثر من مكان.
في بعض العوامل الموضوعية والذاتية لاندلاع الانتفاضات
تتعدد العوامل والأسباب التي أدت إلى اندلاع الإنتفاضات العربية، وتتفاوت بين بلد وآخر، لكنّ القاسم المشترك في ما بينها أنها انفجار الإحتقان السياسي والاجتماعي، الناجم عن انسداد آفاق التطور وعن تفاقم التناقضات. تحت هذا السقف يمكن قراءة خصوصية كل انتفاضة قامت أو ستقوم لاحقاً. يمكن تعداد بعض العوامل التي أدت إلى الإنفجار، والتي تشترك فيها جميع البلدان العربية عموماً.
بعيدًا من النظرات التشكيكية التي أطلقت حول توقيت انطلاق الحراك الجماهيري في العالم العربي، واتصالها بمنطق المؤامرة الدائمة التي تقودها الدول الغربية وإسرئيل في إطار بناء الشرق الأوسط الجديد، وتقسيم العالم العربي وتحويله دويلات طائفية ومذهبية ومنع توحده، للهيمنة على ثرواته، من واجب القوى السياسية والنخب والمثقفين طرح السؤال الفعلي والمنطقي: لماذا تأخر حراك الشارع العربي إلى هذه الفترة المديدة جدًا من عهود الظلم والقهر؟ ولماذا ظلّ العجز عن كسر جدار الخوف قائماً وصلباً إلى هذا الحد، فيما تقدم وقائع التناقضات والإختلالات المتعددة الجوانب أكثر من حافز للثورة على الأوضاع السائدة؟ لم تتكوّن الأنظمة العربية استنادًا إلى عملية ديموقراطية قائمة على انتخابات عامة، وعلى تداول سلمي للسلطة، بل على أساس انقلابات عسكرية قادتها نخب من العسكريتاريا العربية،
أطاحت الأنظمة السائدة. اتسمت توجهات هذه النخب منذ البداية نحو احتكار السلطة، وإزاحة القوى السياسية القائمة بقرارات كان أهمها منع الأحزاب السياسية، باستثناء ما هو تحت إدارة العسكر. لم تكن الحياة السياسية فارغة من القوى قبل الإنقلابات، بل كانت تتضمن تيارات ليبيرالية ويسارية ذات وزن ودور في كل من مصر والعراق وسوريا. أسست النخب العسكرية أنظمة سياسية تقوم الشرعية فيها على القبضة الأمنية المغلفة بإيديولوجيا تعلن انتسابها إلى الجماهير وتنوب عنها في القرار والمصير. هكذا وبعد نحو ستة عقود من سياسات ممعنة في إلغاء مشاركة الشعوب العربية في الحياة السياسية وتهميش القوى المعارضة، وجدت الشعوب نفسها أمام حالة من الاحتقان والكبت، محجوزةً في قالب حديدي. وفي ظل عالم مفتوح على التأثر والتواصل، وانتشار قيم الحقوق الإنسانية، كان لا مفرّ أن يكون تصريف الإحتقان عبر “انفجارات” شعبية اتخذت في كل مكان شكلاً متوافقاً مع واقع البلد.
تشكل الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والمعيشية التي آلت إليها المجتمعات العربية، عنصرًا وازناً من عناصر الحراك الاجتماعي. منذ الإستقلالات، وفي سياق التغيرات السياسية التي شهدتها معظم الدول العربية، قدمت النخب الحاكمة برامج اقتصادية واجتماعية واعدة، عمادها الإصلاح الزراعي وتسليم الأراضي إلى الفلاحين، وتحسين مستوى الصناعة والخدمات، والحد من استغلال الإقطاع والرأسمالية لجموع الشعوب العربية. هكذا، وعلى امتداد عقود من السياسات الإقتصادية والإجتماعية، تحولت الوعود بالتنمية الشاملة، إلى تعميق الإختلالات الإجتماعية وإلى المزيد من القهر. اقترن شعار المحاسبة ومعاقبة المفسدين بشعارات الحرية والكرامة والخبز، وصولاً إلى الشعار المركزي، إسقاط النظام، في وصفه العامل الحاسم الذي يمكن أن يضع حدًا للفساد والمفسدين.
شهدت المجتمعات العربية خلال العقود الأخيرة نوعاً من الإنفجار السكاني نتيجة تزايد عدد الولادات. أنتجت هذه الزيادات أعدادًا من الشباب مثّلوا أكثر من نصف السكان، بحيث تحولت هذه المجتمعات عملياً إلى مجتمعات شابة. اقتصرت الإفادة من فرص العمل على عدد محدود من متخرجي الجامعات، وعلى أصحاب الإنتماءات الحزبية إلى النظام الحاكم، أو على من توجهت ولاءاتهم الفئوية ومحاباتهم للفئات الحاكمة، بحيث لم يكن مقياس الكفاءة هو الأساس في الحصول على الوظيفة. هكذا شعرت أعداد واسعة من الشباب بحجم الثمن الذي يجب أن يدفعه المتخرج الجامعي للحصول على الوظيفة، فسادت مشاعر الإحباط واليأس من أنظمة تعجز عن تأمين فرص العمل لأبنائها. فمنهم من هاجر إلى خارج بلده سعياً للقمة العيش، فيما آخرون كانوا مضطرين للعمل في ما لا يتناسب مع تحصيلهم العلمي، بينما قبع معظمهم في البطالة والإستعانة بالأهل لتأمين معيشتهم.
لم يكن انخراط أجيال الشباب في التعليم والتحصيل الثقافي معزولاً عن التطورات العلمية التي أنتجتها ثورة التكنولوجيا وخصوصاً في مجال الإتصالات. لم يكن هذا الإحتكاك بحاجة إلى تخصصات عالية غير متوفرة، مما أعطى جيل الشباب فرصة التعرّف إلى العالم بمختلف جوانبه، بل والتفاعل مع مختلف الشعوب وشبابها في بلدان العالم، بما فيها من تبادل الهموم، ومعرفة مشكلات المجتمعات المتنوعة. سمحت وسائل الإتصال الحديثة، بتكوّن ثقافة سياسية عالمية، وباطلاع الشباب على الفكر السياسي خصوصا في مجال الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان.
كان لكسر هذا القيد الإعلامي والمعرفي أثر كبير في نجاح الإنتفاضات التي حصلت في أكثر من دولة عربية، حيث يسجل لأجيال الشباب استخدام ثورة الإتصالات ووضعها في خدمة الحراك السياسي الجاري، وربط المناطق بعضها بالبعض الآخر، وتأمين التواصل غير المحدود بين فئات الشعب، وإلغاء أنظمة الرقابة وتقييد حرية الفكر التي كانت عماد سياسات الأنظمة ضد الحياة السياسية. هكذا لعبت الميديا بكل منوعاتها دورًا مركزياً في الحراك السياسي الشعبي الذي اندلع في الأماكن الساخنة. ولا بدّ من الإعتراف بأنه ما كان للإنتفاضات التي قامت، أن تشهد هذا النجاح، لو لم تؤدّ وسائل الإعلام والإتصال دورها في إيصال الخبر والصورة والتعليق السياسي والتحريض وترويج الشعارات إلى كل مكان.
ساهمت الميديا الرقمية في إطلاق نظريات على الإنتفاضات أو “الثورات” بوصفها صنيعة هذه الميديا، أو ثورة الإنترنت والـ”فايسبوك”. تستحق هذه النظرية نقاشاً موضوعياً، بعيداً من العدمية أو التضخيم. لا شكّ أنّ الدور الذي لعبه الشباب الحاصل على تقنية المعلومات والقادر على استخدامها في الآن ذاته، كان أساسياً في إطلاق الحراك الشعبي وإيصاله إلى مختلف الأنحاء، وتأمين التفاعل معه من أوسع الفئات الإجتماعية. لكن التكنولوجيا، مهما كان تطورها، لا تصنع وحدها حراكاً شعبياً واسعاً بالشكل الذي شهدناه ونشهده. فهي عنصر دافع ومكمّل، وشرط ضروري، لكنه غير كافٍ. ذلك لأنّ الأساس الذي سمح للتكنولوجيا بأن تفعل فعلها، هو الإحتقان الشعبي الناجم عن الإستبداد السياسي والبؤس الإجتماعي وتهميش الفئات الواسعة من المجتمع، وحجم الفساد المستشري، وهذه عوامل تشكل القاعدة الموضوعية للإنفجارات الحاصلة. إنّ اقتران هذا الإحتقان باستخدام التكنولوجيا هو الذي جعل الحراك الشعبي يأخذ طابعاً إنفجارياً وشاملاً، ما يؤكد العلاقة الجدلية بين تطور العلم، والتقدم الإجتماعي والسياسي، ومدى القدرة على توظيف منتجات العلم في خدمة التغيير السياسي والإجتماعي.
في مأزق الانتفاضات ومعضلاتها
لماذا أدت الانتفاضات الى تفجير المجتمعات العربية، ولماذا كان مستحيلا ان تتحقق الديموقراطية المنشودة والمطالب التغييرية الشاملة، ولماذا كانت هذه الانتفاضات محكومة بأن تتحول حروبا اهلية طاحنة تدمر ما راكمته هذه المجتمعات من تحديث وحداثة؟ أسئلة ضرورية لفهم التطورات الجارية، بعيداً من التبسيط والاختزال.
لا يحتاج المشهد العربي الراهن إلى كثير من التخمين حول مآل الدول العربية. فالإنفجارات الساخنة والباردة تسكنها، ولا يكاد ينجو بلدٌ من اضطرابات تهدد كيانه بالخطر. فعوامل الإنفجار الأساسية كامنة في داخل المجتمعات، التي كأنها تقذف اليوم ما في جوفها بعدما رفع الغطاء والضغط عن المكنونات المتراكمة.
أول العوامل الموضوعية التي تفسر الإنفجار في بنى المجتمعات العربية، يعود إلى العناصر التي تتكوّن منها هذه البنى، وعجز الدولة عن التكوّن على حساب هذه البنى، على غرار ما عرفته البلدان الحديثة.
تكوّنت معظم الدول العربية خلال فترة زمنية لا تزيد على القرن (باستثناء الدولة المصرية)، وأتى تكوّنها نتيجة عوامل خارجية في مرحلة تفكك الأمبراطورية العثمانية وسيطرة الاستعمار الأوروبي على المنطقة. أنتج الإستعمار كيانات ركّبها على البنى السائدة، القبلية والعشائرية والطائفية، وأخذ في الإعتبار الأدوار التي تعطى لكل كيان في سياق خطة السيطرة الأمبريالية على المنطقة.
هكذا قامت كيانات معظمها يحوي ألغاما بنيوية قابلة للتفجر في كل لحظة، مما وسم هذه الدول بطابع الضعف في مواجهة مكوّنات ما قبل الدولة. نشأت الدول الحديثة في العالم على قاعدة مصالح الجماعات والأفراد، وخضعت مجتمعاتها لحوار مديد بين مكوّنات المجتمع، يأخذ في الإعتبار الاختلافات والمصالح المشتركة، بما يؤدي الى إنتاج تسويات في كل محطة من محطات تطور المجتمع. لم يأت تركيب الدول العربية في هذا السياق، بل أتى استجابة للمصالح الغربية أولاً وأساساً.
على امتداد العقود السابقة، تكوّنت مجتمعات تقوم على مصالح الجماعات والأفراد، مع تكيّف هذه الدول مع البنى الموجودة والموروثة. لكنّ تكوّنها لم يسلك الطريق الديموقراطي الذي يراعي مصالح المجموعات والمكوّنات الموجودة، بل اتى التوحيد والاندماج قسرياً عبر نظام الاستبداد في معظم العالم العربي، الذي مارس التمييز في المعاملة والمشاركة بين المكوّنات المجتمعية، مما أضاف ألغاما على ألغام البنى السائدة، ووضع المجتمعات على شفير الإنهيار كلما اهتز هذا الاستبداد، وكذلك خلال النضال من أجل الديموقراطية.
تحوي الدول العربية أقليات وأكثريات، جرى استخدامها في تغليب السلطة بين طرف وآخر، مما زاد من حدة الإحتقان بين هذه المكونّات، التي باتت تنتظر فرصة ارتخاء قبضة القمع لتصعد إلى السطح وتحاول تعويض الحرمان المتراكم بسيطرة مقابلة. اقترن الفشل الاجتماعي والاقتصادي وما رافقهما من قمع، بهزائم أمام العدوّ القومي وخسارة المزيد من الأراضي. لم تكن الهزائم عسكرية الطابع فقط، بل هزائم اجتماعية وفكرية وسياسية، سرّعت في خلخلة البنى الاجتماعية التي تعاني في الأصل من معضلة الإنقسام والتقسيم.
إذا كانت قراءة انفجار البنى العربية محكومة في الأصل بأن تنطلق من الأسباب الداخلية والتناقضات التي تعتمل داخلها، فإن العوامل الخارجية لعبت دوراً، ولا تزال، في تفاقم هذه التناقضات، ووضع معوقات كثيرة في وجه بناء الدولة. يشكل الصراع العربي – الصهيوني عنصراً مركزياً في خلخلة بنى المجتمعات العربية. تقوم السياسة الصهيونية على منع تكوّن دول عربية قوية، وتسعى إلى تغذية التناقضات والعصبيات القائمة. خاضت اسرائيل حروبها ضد المجتمعات العربية، وتسببت هذه الحروب في استنزاف الموارد الاقتصادية والبشرية، الذي أتى على حساب التنمية وتحسين مستوى التطور الاقتصادي. لذا شكّل هذا الصراع عنصرًا دائماً في تغذية التناقضات الداخلية، وصاعقاً مفجرًا لها، وهي سياسة اسرائيلية مستمرة تمارسها اسرائيل ضد الدول المناهضة لها، أو الدول التي وقّعت معها معاهدات سلام.
سيادة أنظمة الاستبداد
نذ تكوّن دول الاستقلال، قامت أنظمة سياسية على قاعدة الانقلابات العسكرية أو الملكيات الوراثية، وانحكمت بمعضلة انها لم تأت نتيجة عملية ديموقراطية. بنت السلطات أنظمتها على قاعدة القهر والاستبداد وقمع الحريات وضرب قوى المعارضة، وسلّطت أجهزة الأمن على الشعوب. في كل محطة من فشل سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والقومية، كانت الأنظمة تشدد من قبضة الاستبداد، كما كانت تتلاعب بالمكوّنات البنيوية لمجتمعاتها عبر تسعير التناقضات الفئوية والجهوية، بما يمنع الشعوب من تعيين عدوها الرئيسي، الذي هو النظام وأجهزته الامنية.
لكن أخطر ما تحولت اليه الأنظمة أنها جعلت شرعيتها مستقاة إما من الإله وإما من قوى غيبية ساهمت مؤسسات دينية في إسباغ المشروعية عليها. قدّم الحكام أنفسهم ضماناً لعدم انفجار البنى القائمة. هكذا تحولت كل دعوة للتغيير الى خطر انفجار مكوّنات المجتمع العشائرية والطائفية والقبلية التي كان النظام يغذي تناقضاتها ويسعّر الخلافات في ما بينها.
عشية الانتفاضات، ساد خطاب مشترك بأن الذهاب الى النهاية في إسقاط الأنظمة سيعني انفجار الحروب الأهلية، فبات كل رئيس يصرّح علناً: أنا أو الانهيار الشامل. كلما اشتدت وتيرة الصراع والحشد الجماهيري في الشوارع، زاد الحكّام تشبثهم بالسلطة، بل ان نظاما كالنظام السوري كان يرى أن تفجير حرب أهلية في سوريا خير ضامن لبقائه في السلطة. لم يكن غريباً أن تتحول التظاهرات السلمية في بلدان الانتفاضات الى صراع دموي. فنحن أمام أنظمة ترفض كلّ تسوية أو حل يودي بسلطتها. جوابها كان دوماً، أن ما يجري هو مؤامرة خارجية تستخم الإرهاب لإسقاط الأنظمة. باستثناء تونس الى حد ما، وبسبب خصوصية مجتمعها السياسي والمدني، تحولت الانتفاضات في سوريا ومصر وليبيا واليمن الى حروب طاحنة، وباستثناء مصر التي لعب الجيش فيها دوراً خاصاً، ها هي سائر الدول تعيش في مطحنة الحروب الدموية بعدما انفجرت مكوّناتها البنيوية، ولم تنج مصر حتى الآن من هذا العنف.
معضلة غياب قوى التغيير
سقطت الانتفاضات العربية على مجتمعات كانت قوى المعارضة فيها منهكة أو مُبادة تحت وطأة سياسة ممنهجة لضرب القوى التي ترى فيها الأنظمة خطراً عليها. فالقوى الديموقراطية، يسارية أو ليبيرالية، كانت متلاشية وعاجزة عن استقبال التطورات الجديدة والدفع بها الى الأمام. كان الافتقار إلى القدرة لدى هذه القوى نابعاً من سياسة الأنظمة، ومن شيخوخة هذه القوى وعجزها عن تجديد منظومتها الفكرية والسياسية والتنظيمية، بما جعلها وبرامجها خارج السياق الجديد.
أما القوى الشبابية التي اعتبرت أنها هي التي أطلقت الانتفاضات، فقد كانت تفتقر الى الخبرة في النشاط السياسي والى التنظيم في أطر ومؤسسات تمكّنها من مواصلة التأطير والفعل داخل المجتمع، كما كانت تفتقر أيضاً الى الرؤية السياسية ووضوح الأهداف والبرامج. لم يكن للفورات الأولى أن تستمر الى الأبد، لذا سرعان ما تقلصت الحشود، ولم تعد الحشود المليونية على مواقع التواصل الاجتماعي تجد ترجمة لها على الأرض، مع العلم ان وجود مئة مواطن يتصدون لأجهزة السلطة على الأرض يوازي، بل يفوق في الأهمية، ملايين التوقيعات على الانترنت، التي لا تعني سوى الدعم المعنوي. مع تعثر مسار الانتفاضات، عادت القوى التقليدية لتحتل الصدارة في بعض الدول، وتحولت الانتفاضات الى العنف المسلح بقرار من الحاكم العربي، مما ضاعف من هامشية القوى الشبابية وأوقعها في تخبط كبير.
اما المجتمع المدني فلم يكن له دور فاعل، وهذا غير مستغرب بالنظر الى طبيعة تكوينه المتصل اتصالاً وثيقا بطبيعة البنى المجتمعية العربية. لعل هذا القول للمفكر الجزائري محمد أركون يختصر حال مجتمعاتنا المدنية: “في البلدان العربية والإسلامية لا يوجد مجتمع مدني أولاً، ولا يوجد ما يمكن ان ندعوه بالفرد – المواطن ثانياً (مفهوم المواطن غير موجود نظرياً أو عملياً). يوجد فقط جهاز دولة قسري يمارس سلطة استبدادية على المجتمع. وهذا المجتمع نفسه ليس منسجماً ولا موحداً كالمجتمعات الأوروبية الحديثة، وإنما هو متشكل من تجمع ناشز من القبائل والعشائر والعائلات والطوائف المتنافسة أو المتنافرة، وكلها تدافع عن مصالحها وتضامناتها وعصبياتها ضد العصبيات الأخرى. تالياً، فإن الولاء الحقيقي في هذه البلدان ليس للأمة أو للدولة بقدر ما هو للقبيلة او الطائفة أو العائلة”.
لماذا برزت القوى الإسلامية وتصدرت الانتفاضات بعد خفوت الموجات الأولى من الحشود المليونية؟ لا يدعو الى الإستغراب بروز هذه القوى بقوة. فإبادة قوى التقدم والديموقراطية التي مارستها الأنظمة وأجهزتها الأمنية لم تطل قوى التيارات الإسلامية. بل كانت سياسة الأنظمة متعددة الجانب، تستعين مرات بالتيارات الإسلامية ضد القوى الديموقراطية كما حصل مع السادات في مصر، وتسعى أحياناً الى الحد من نفوذ قيادات هذه التيارات عندما تتنطح للوصول الى السلطة. لكن الثابت ظل، منذ عقود، يقوم على سياسة التواطؤ بين المؤسسات الدينية والسلطة السياسية، بحيث تعطي المؤسسات مشروعية للسلطة مقابل إباحة هذه الأخيرة المجتمع وقواعده التحتية لثقافة المؤسسات الدينية وتنظيمات الإسلام السياسي.
وعندما اندلعت الانتفاضات، كانت تيارات الإسلام السياسي تتمتع بمقدرات تنظيمية ومواقع راسخة في قاع المجتمعات العربية وفي المؤسسات المهنية، مما جعلها تحقق مكاسب بدت مذهلة في الانتخابات النيابية. كان من الضروري أن تكشف تيارات الإسلام السياسي عن وجهها الحقيقي عندما أتيح لها أن تصل الى السلطة، بحيث ظهر برنامجها متخلفاً وخارج التاريخ، فئوياً، إقصائياً ومستخدماً العنف لفرض وحدانية سلطته، كما برز في تونس وفي مصر.
الثقافة الديموقراطية المنقوصة
رفعت الانتفاضات شعارَي الديموقراطية والدولة المدنية، وهما شعاران مترابطان. لكنهما كانا يسقطان على مجتمعات عربية تشبعت بهيمنة إيديولوجيات وثقافات فئوية وتقليدية، يجمع في ما بينها العداء للديموقراطية وعدم الاعتراف بالآخر، بل اقصاؤه واستئصاله. تحكمت بالعقلية العربية وبثقافاتها ايديولوجيات شمولية تمثلت في الفكر القومي العربي والتيارات الاشتراكية والشيوعية والثقافة الدينية المهيمنة. لم تكن هذه الإيديولوجيات الثلاث قادرة على نشر الديموقراطية لافتقارها الى قيمها في الفكر والممارسة.
هكذا تحكمت سياسة الإقصاء والنبذ في الفكر القومي العربي ضد الأقليات والمجموعات الإثنية غير العربية، وأقصت كل التيارات المعارضة للشوفينية القومية، بل نكّلت بها وأبادت بعضها جسدياً. واذا كانت التيارات الشيوعية والاشتراكية لم تتمكن من ممارسة الحكم على غرار الحركة القومية، الا انها تصرفت على النمط نفسه الذي مارسته الأحزاب القومية، عندما أتيح لها ان تكون شريكة في الحكم. أما الذهنية التي تحكمت بها العقلية الدينية، فهيمنت عليها الغيبيات والابتعاد عن العقلانية، واختلاط الأساطير والخرافات بالتراث الديني.
لم تكن التيارات الدينية أقل شوفينية وتعصباً ونبذا للآخرين من سائر التيارات المهيمنة، ولقد تكشفت تصوراتها السلطوية مع الانتفاضات وطموحاتها الخرافية في إعادة التاريخ خمسة عشر قرنا الى الوراء، من طريق الدعوة الى دولة دينية وفق نموذج الخلافة الراشدية.
إن انفجار الإسلام على النحو السائد اليوم، ومصادرته من أكثر الفئات تخلفاً، والتعبير عن نفسه بالعنف والإرهاب، يطرح أسئلة مؤرّقة حول دور الدين في المجتمعات العربية وفي مستقبل تطورها، مما يجعل أسئلة مشير عون في مقاله المنشور في “الملحق” تقع في مكانها: “هل يستطيع التدين في الإسلام، على نحو ما تمارسه المجتمعات العربية أن ينقلب فعلاً حضارياً قابلاً لتحرير العقل العربي وإطلاق الفكر العربي الباحث الناقد البناء، وتعزيز الحرية الفردية العربية؟ وهل يقبل الإنسان العربي أن تكون شرعة حقوق الإنسان العالمية هي المرجع التاريخي الأضمن لبناء إنسانية الإنسان العربي؟”.
لا استحالات مطلقة
يضرب المنطقة العربية راهناً إعصار بنيوي، قابل للتمدد. لا أحد حتى الآن يمكنه ان يتنبأ بالمدى الذي ستصل اليه المنطقة بعد انفجار بناها ودخولها في حروب سياسية ودينية ومذهبية، لكن المؤكد أن فوضى كيانية ستلقي بثقلها على الكيانات العربية وشعوبها. يوحي المشهد العربي بالتشاؤم، وخصوصا أن الدمار الذي أصاب مجتمعاتنا، قد ارتد بها عقودا الى الوراء. كما ان حجم العنف والفوضى الذي تقذفه البنى العربية كل يوم، يدفع الى اليأس والإحباط من إمكان التغيير والخروج من النفق المظلم. هذه كلها حقائق تؤكدها الوقائع اليومية، ولعلها السبب وراء “ورقة النعي” التي تصدر عن نخب مثقفة حول استحالة تقدم العالم العربي وخروجه من التخلف والدخول في الحداثة والعصر.
على صحة هذا التوصيف السلبي، بدأت الحروب الدائرة أيضا تفرز معطيات جديدة تدخل في خانة التطور التاريخي المستقبلي غير المقفل. كسرت الانتفاضات محرّمات على مستويات متعددة كانت ممنوعة على الشعوب العربية. طرحت شعار تغيير الأنظمة السياسية الديكتاتورية التي تعتبر الأم الشرعية لكل التنظيمات الإرهابية القائمة، ونزلت الشعوب الى الشوارع تحت شعار إسقاط النظام وتحقيق الديموقراطية، وكسر التحريم الذي كان مفروضاً حول النقاش في الدين وعلاقته بالسياسة وصلته بتبرير العنف، وبات خطاب الإصلاح الديني أو خطاب التجديد فيه مشروعاً، وبذلك كسرت أيضا هيبة مؤسسات دينية، شكلت الوجه الآخر لسياسة الأنظمة في قهر الشعوب العربية وتشويه ثقافتها.
صحيح أن ما يجري، لم يرق بعد الى مستوى التوجه نحو بناء مشروع نهضوي متجدد، يحتاج قبل كل شيء الى قوى حاملة له، سياسيا وفكريا وثقافيا ودينيا، لكن الطريق الطويل والشاقّ للوصول الى المشروع النهضوي ينفي كل حديث عن الاستحالة في التغيير. منطق التطور التاريخي للمجتمعات لا يُقرّ بثبات مطلق، وتناقضات المجتمعات وبناها ليست قوالب حديدية لا يمكن اختراقها والفعل فيها.
ختاما، إن افتراض تصورات غير واقعية وغير صحيحة، وبناء عمارة من التحليل استناداً لها، سيوصل حتماً الى نتائج خاطئة، وهي تكون في السياسة عدمية ويائسة للمحلل نفسه، قبل كل شيء. هذه معضلة حقيقية تصيب شريحة واسعة من النخب العربية، منها ما عبّر عنه مشير عون في مقالته “الاستحالية”.
*****
(*) ملحق النهار- 24 يناير 2015