المفكر محمد نور الدين أفاية (*)
يبدو العالم العربي وكأنه انخرط في معارك لا حدود ولا تسمية لها. وهي معارك انتقلت، بفعل ما يجري أمامنا من انتفاضات، وحروب أهلية جليّة ومقنّعة، إلى معارك حقيقية استنفرت كلّ وسائل الحرب المادية والرمزية، والصراع على التموقع، وفرض شروط التفاوض عند إتيان وقته، أو فرض إرادة القوّة، بحسب التوازنات، تارة باسم هويّة تدّعي تجسيد الثوابت والأصول و”روح الأمّة“، و طوراً باسم تعِلاّت وحسابات لا دخل لاعتبارات هذه الروح فيها.
الاقتراب من سؤال الهويّة – وهو سؤال صعب المعالجة- كان يفترض، في وقت سابق، استدعاء ثنائيات من قبيل أنا/آخر، شرق/غرب، ماضٍ/حاضر، أصالة/حداثة، هويّة/استلاب..أما اليوم فتبدو هذه الثنائيات وكأنّها لم تعد مُحدِّدة للنظر بحكم تفجُّر تناقضات كانت مطمورة داخل الجسم العربي.
لقد قدّم المثقّفون العرب، باختلاف حساسياتهم الفكرية ومدارسهم الإيديولوجية، أجوبة كثيرة عن سؤال الهويّة، في خضمّ الأحداث الكبرى التي تشهدها البلدان العربية. ولا تحرّكنا الرغبة هنا في ”إلصاق“ تعريف آخر للهويّة في سياق سيرورات الخروج الملتبس من الاستبداد السياسي، أو الحروب المباشرة أو بالوكالة. ذلك أن معنى أن تكون عربياً اليوم، يتجدّد، وبخاصة أن الانتفاضات وحركات الاحتجاج التي تشهدها ساحات عربية، تحمل معها مطالب من طبيعة هويّاتية، بحكم أن بنيات الاستبداد أخضعت أصحابها لواقع قهري يلغي فيه كلّ تعبير مغاير للخطاب السائد.
إن طرح سؤال معنى أن تكون عربياً، في السياق الراهن، قد يبدو سهلاً في صياغته، لكنّه، في العمق، يفترض قضية إشكالية بالغة التعقيد، بل واستفزازية حتّى. إذ ما المسوغ الوجودي – أو السياسي والثقافي- للتساؤل عن ”معنى“ أن تتقدّم إلى ذاتك وإلى العالم بوصفك عربياً؟ كيف تكون – أو تعبّر عن وجودك – بمعنى ما من معاني العروبة؟ بل وكيف تكون عربياً اليوم في زمان مُتفجّر، وفي سياق إعادة النظر في كثير من ”بديهيات“ الخطاب الذي كرّسته عقود من التسلّطية، وفرض الهوية الواحدة؟ ثم هل يمكن انتظار جواب ما عن مثل هذا السؤال الإشكالي الكثيف؟
وأيّ ”جواب“ ممكن قد يكشف عن الالتباسات الرائجة أو الأشكال المختلفة للتردّد واللايقين، والأنماط المتنوّعة للهويّات ”الفرعية“ التي تحاول انتزاع حرية الحديث عن ذاتها؟ كيف يمكن للإنسان العربي أن يعبّر عن فرديّته أو صفته كمواطن، علماً بأن الاستبداد والتسلّطية، التي لا تكفّ عن التجدّد، هي بدورها، جعلته سجين “هوية هلامية” تحكمها سطوة الجماعة والمتخيّل الديني والثقافي التقليدي؟
لا مجال، مرّة أخرى، لاستحضار الأبعاد المأسوية، الجارية أو المتوقَّعة، لانفجار الهويات. لقد تمكّنت السطوة التسلّطية من مقدّرات الدولة القطرية العربية، سواء باسم مرجعية إسلامية أم مذهب قومي، أم باسم خصوصية وطنية مميّزة، وفرض رواية واحدة على المجتمع والجماعة الوطنية، وإنكار الاختلافات والعمل المستمرّ على إلغائها حتىّ من اللغة، شأن ما كان يقوم به العقيد القذافي للأمازيغية، حيث حرّض باحثين لاختزالها وحصرها في التراث العربي، وذهب به الأمر إلى إطلاق صفة ”الفينيقيين“ لتجنّب الإقرار بالتميّز الثقافي واللغوي لمناطق ليبيا الأمازيغية.
انتفضت بعض المجتمعات العربية ضدّ الاستبداد والقهر، وفجّرت الاحتجاجات التي انطلقت في أكثر من بلد عربي كلّ السياسات، أو هدّدت اطمئنان البعض منها إلى صواب اختياراتها. وبرزت مع هذه الانتفاضات تعبيرات ثقافية لم تكن تجرؤ على الجهر بتميّزها واختلافها، حتى تلك التي تحمل بين ثنايا شعاراتها نزعة إلغائية واضحة مدّعية شرعية تمثيل ”إرادة الأمة الإسلامية“. وحرّر هذا الحراك طاقات حيوية اختلط فيها السياسي (المطالب الديمقراطية، أو الاستبداد المطلق باسم الدين) بالاجتماعي (العدالة الاجتماعية) بالاقتصادي (التوزيع العادل للخيرات ومحاربة الفساد والريع)، بالثقافي (فردانية محتشمة وذاتية مجروحة..).
غير أن المرء، أمام ما يجري في العالم العربي، يجد نفسه محاصراً بقدرية مستعصية التفسير، وبغلبة نوع من الحِداد على بعض المبادئ، أو حتى القناعات الماضية. لكن استبداد المال وسطوة الإعلام والأشكال الجديدة للعنف والموت، تدفع بالمرء، إما إلى تحويل الشكّ إلى اختيار، أو السقوط في فخّ الدوغمائيات.
والظاهر أن من بين مشكلاتنا الكبرى في العالم العربي هو كوننا ننسى، أو لا نعرف أن العمل التحرّري الطويل للفرد – وهو ما بشّرت به الأزمنة الحديثة – عملٌ مُكلِف جدًّا، وهو ما لا يظهر أن كثيراً من المعالجات والتعاليق التي تتخذ من الانتفاضات العربية موضوعاً لها قد أدركته أو انتبهت إلى مقتضياته التاريخية وشروطه السياسية، ولاسيّما الثقافية. لذلك يتقدّم ”هوس الهوية“ ليعبّر عن عَرَض من أعراض الفشل السياسي في مجتمعاتنا. فهو يعبّر عن ذاته من خلال الخوف الدفين على أن نصبح ما لسنا نحن. أي أن العربي، أو المسلم يجد نفسه أمام مأزق مزدوج: فهو مقتنع بأنه يتعيّن عليه أن يحافظ على مقوّمات الذات، ولكنّه، في الآن عينه، مضطر إلى أن يتغيّر.
إلّا أنه إذا رغب في المحافظة على ذاته، كما هو، فإنه مُرغم على الفقدان، وإذا تغيّر، فإنه يخاطر، أيضاً، بضياع تفاصيل مكوّناته، ولاسيّما أن التحدّيات أصبحت تنبعث من داخله. يتعلّق الأمر بـ”قلق عربي – إسلامي“. وهو قلق راجع إلى المحاولات الدائمة والمتجدّدة للانتقاص من العقل، التي تعمل، باستمرار، على تمرير آليات الانسداد والتشذّر التي تشوّش على تمثّل الأشياء.
يشعر المرء بالأسى والألم لما بلغته دعوات التكفير والقتل من فوضى غير مسبوقة، سواء ضدّ المثقّفين التنويريين أم السياسيين الداعين إلى الأخذ بأسباب الديمقراطية والعصر، أو ضدّ جماعات مختلفة في الملّة والمذهب. إذ إن بيانات بعض ”علماء الأمة“ كرّست، باسم الذود عن الإسلام، قاموس ”القاعدة“ بشكل مباشر ومن دون تردّد، من قبيل النفير، والنصرة، ومقاتلة الروافض، و”أفتت“ بضرورة الجهاد ضدّ الروافض الشيعة، وغيرهم ممّن يختلفون معهم في الرأي أو في المذهب، مستحضرين بذلك لغة لم يشهدها العالم العربي – الإسلامي منذ قرون، ومحرّضين الناس على قتل كلّ مَن هو مخالف للمذهب، من دون تمييز أو وعي بما تجرّ وستجرّ إليه مثل هذه الدعوات من محن وحروب وموت. لا شكّ أن عقلاء اهتدوا إلى هذا المنزلق وحذّروا من عواقبه، لكنّ ”العلماء الأفاضل“ والخلفاء الجدد، يحرّكهم ”متخيّل“ دموي ومشروع يرونه التعبير الأسمى والمطلق للإسلام الصحيح.
يبدو الإسلام، في زمننا العربي، وكأنّه مُحتجَز من طرف كلّ الأطياف الإسلاموية، كما من طرف الحروب المذهبية الجديدة. وأمام نزاع الصور، وصراع التأويلات، وأفعال العنف الآتية من جهات مختلفة الأهواء والأهداف، كيف يمكن التعبير عن الرجاء أو الشوق إلى إيجاد ”عيش مشترك“ ممكن في هذا العالم الذي من المفترض أن يتقاسمه الجميع، والعمل على إرساء نوع من ”التعالي الانفعالي“ لتحييد الانحرافات، وتجنّب الانتهاكات التي تمارَس باسم الدين؟
إن الأحداث والانتفاضات التي جرت وما تزال تجري في البلدان العربية، فجّرت من سوء التفاهم، ومظاهر حوار الطرشان، وأشكال عنف جديدة أكثر ممّا أنتجت من مقوّمات التأسيس للانتقال إلى الحوار العقلاني الذي، وحده، يضع مقوّمات ما هو مشترك ويحضنه، ويبني شروط إقامة سياسة مدنية عصرية. قد يُقال بأن الخروج من التسلّطية عملية شاقّة، وزحزحة مرتكزات الاستبداد تستدعي زمناً قد يطول أو يقصر بحسب نوعية الفاعلين السياسيين وكفاءتهم، ومدى امتلاكهم لتصوّرات وبرامج، وبحسب ما تسمح به السياسة من ممكنات. هذا صحيح، غير أن طرق خلخلة أسس الاستبداد فتحت باب جهنم لكلّ الهويات، أكانت فرعية، أم مقصيَّة أم كانت تشعر بالغبن، سواء باسم اللغة أم المذهب أم الطائفة أم القبيلة، وتحوّلت فيها بعض هذه النزوعات المنفلتة إلى ”هويّات قاتلة“، أو تحمل في أحشائها بذور حرب أهلية تنزع إلى فرض شروطها على الجماعة الوطنية، كيفما كانت الوسائل والادّعاءات.
وفي كلّ الأحوال، وفي ضوء المآسي التي نشهد على وقائعها تحت عناوين إقحام الدين في شؤون السياسة، وبأشكال فضائحية أحياناً، لا مناصّ من التأكيد على أن الدين يستعيد أبعاده الروحية والوجدانية، والاجتماعية، وقيمه المتعالية كلّما تمكَّنت المجتمعات من إنضاج تعاقد اجتماعي مبني على الحرية: حرية التعبير والتفكير والمعتقد، ومبني على قاعدة المواطنة التي تنبذ كلّ أشكال التمييز سواء باسم اللغة أم العرق أم الدين. وذلك بإقرار دستور ديمقراطي، والاعتراف بتعدّدية تيارات الفكر والرأي، وإقامة مؤسّسات تمثيلية بديلة تتمخّض عن انتخابات حرّة ونزيهة، وتأمين شروط تداول سلمي على السلطة، وتوفير أطر لتأمين التعايش الديمقراطي وحرية الرأي، وتعزيز القضاء وتطوير أدائه وحماية استقلاله، وفضّ النزاعات بالطرق الديمقراطية السلمية، ودعم هيئات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام المكتوبة، السمعية البصرية والإلكترونية، وتطوير المعرفة وتعزيز وظائف التعليم، والبحث الجامعي، وإصلاح الشأن الديني، بما يكرّس قيم الاعتراف والحوار والتسامح، وتشجيع المشاركة السياسية، وتمكين المرأة من الإسهام الجمعي.
لقد أثبتت الدولة الديمقراطية قدرتها على احتضان الاختلافات، وعلى التدبير المتوازن للمسألة الدينية، وعلى حصر مقتضيات النقاش في أطرها المناسبة حتى لا تنزلق إلى قضايا تؤجّج الانفعالات وتستنفر التمثّلات والأحكام الاخترالية. فالظاهرة الدينية من نوع ”البؤر الصراعية“ التي تحتاج إلى تدبير يُعلي من شأن المشترك للحفاظ على السلم المدني، بدل تركه في أيدي السياسيين يتلاعبون به بحسب المواقع والمصالح، ولعبة توازن القوى.
******
(*) مفكّر فلسفي من المغرب
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق