كلود أبو شقرا
“آثوس هذا، هو ميناء العذراء في لجة هذه الدنيا ومن يرسو عند العذراء تنكسر أمامه أمواج الزمن العاتي. لقد عرفت هذه الأرض المباركة منذ أكثر من ثلاثين عاماً. عرفتها وعرفت فيها اللاهوت المصلّي. عرفتها كليّة للاهوت تذوب فيها النظريات في واقع الحياة. في هذه الديار ينعجن اللاهوت بحياة الصلاة. هنا، كما في أكثر من مكان، يمتزج العلم اللاهوتي بالتقى وبالورع. ويلتقي كلّ هؤلاء في الليتورجيا الحية البهية”…
هذه الكلمات ليوحنا العاشر يازجي، بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثذوكس، ردد صداها جبل آثوس لدى زيارته الجبل المقدس، في خطوة هي الأولى لبطريرك أنطاكيا في التاريخ الحديث، بهدف توطيد العلاقات الروحية القائمة أصلا بين انطاكيا ورهبان الجبل المقدّس الذين يشكلون قلب العالم الأرثذوكسي. تخليداً لزيارته التاريخية إلى الجبل المقدس (آثوس)، غرس البطريرك شجرة أرز في حديقة دير الفاتوبيدي حملت اسمه.
مسبحة صلاة
المحطة الأولى للبطريرك كانت “كارياس” عاصمة الجبل المقدس، وكان في استقباله المتروبوليت ماليتو أبوستولوس ممثلا رئيس أساقفة القسطنطينية والبطريرك المسكوني بارثلماوس الأول والبروتوس (الأول) والحكام المدنيون وممثلو الأديار الذين احتشدوا لتحيته، وعلى مدى أسبوع تنقل يوحنا العاشر في أرجاء الجبل الذي يعتبره “مسبحة صلاة لكلّ المسكونة، وهو في الوقت نفسه واحةٌ تنهل منها الأرثوذكسية من كلّ الدنيا”.
للجبل المقدّس، في العصر الحديث، أثر في البطريركية الأنطاكية، وقد نهل فيه بطاركة وكهنة ومطارنة من معين الأرثذوكسية الآثوسية، من بينهم يوحنا العاشر الذي تلقى علومه في دير القدّيس بولس الآثوسي، وأبرز نذوره الرهبانية فيه، وتنقل بين أدياره وأساقيطه ومناسكه وقلاياته… في سبعينيات القرن الماضي قصده الأب اسحق عطالله اللبناني، ناقلاً أوجاع لبنان الذي كان يئن تحت وطأة حربٍ هجرت أبناءه.
توّج البطريرك يوحنّا العاشر زيارته إلى الجبل المقدس بالاحتفال بالقداس الإلهي في الكنيسة المركزية لدير القديس بولس. في خطوة غير مسبوقة في التاريخ الكنسي لبطريرك إنطاكي أرثذوكسي، وضع البطريرك يوحنّا العاشر حجر الأساس لمبنى المكتبة والمتحف في دير القديس بولس في الجبل المقدس (آثوس) في اليونان. وقد كتب على حجر الزاوية ما يلي: “لمجد الهنا القدوس المثلث الأقانيم، وضع حجر الأساس لهذا البناء بيد غبطة بطريرك انطاكية السيد يوحنّا العاشر، اخينا في هذا الدير، في عهد رئاسة الارشمندريت بارتانيوس”.
الجبل المقدس
“آثوس”، أي حديقة والدة الإله، مكان نسكي يقطنه رهبان من الكنائس الأرثوذكسية، يقع في شمال اليونان، عاصمته كارياس (البلدة الوحيدة فيه). يحتل أقصى شرق النتوءات الثلاثة لشبه جزيرة كالسيديس التي تقع بدورها ضمن مقاطعة مقدونيا المطلة على بحر إيجة. تبلغ مساحته 390 كم²، أعلى قمّة فيه 2030م وهي قمّة أثوس وفيها صليب حديدي كبير. يخضع الجبل روحياً لسلطة بطريرك القسطنطينية المسكوني.. وقد أدرج ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو عام 1988.
ورد ذكر جبل آثوس في إلياذة هوميروس، وفي القرن الخامس قبل الميلاد شقّ الملك الفارسي خشایارشا الأول قناة في أكتي طولها 2.4 كم، لتأمين حركة أسطوله وحمايته من الالتفاف حوله والإيقاع به، ما زالت آثار تلك القناة واضحة للعيان لغاية اليوم.
استوطن الرهبان هذا الجبل بدءاً من عام 850، لكن الحياة الرهبانية المنظمة بدأت عام 963، عندما أسس القديس أثناسيوس الطرابزوني، بمساعدة الإمبراطور نقفور الثاني فوكاس، أول دير في آثوس. في القرن الحادي عشر، وبفضل هبات الأباطرة البيزنطيين والروس، بنيت الأديار وسمي بعضها بأسمائهم. مع حلول 1400 بلغ عددها 40 ديراً بقي نصفها اليوم. ستافرونيكيتا آخر دير بني في الجبل، تأذى من الحرائق مرات عدة، وأعيد بناؤه للمرة الأخيرة في القرن السادس عشر.
في القرن الخامس عشر تخلت بعض الأديرة عن النظام الإداري الصارم للجماعات الرهبانية، والقاضي بوجود راهب رئيس، له سلطات واسعة في الدير، وتبنت منهجاً أكثر انفتاحاً وتحرراً، يسمح للرهبان بأن تكون لهم ممتلكاتهم الشخصية، وأقامت نظاماً رئاسياً يجيز إجراء انتخابات سنوية لراهبين يتمتعان بقثقة الجميع لإدارة شؤون الجماعة…
عندما استولت الإمبراطورية العثمانية على تسالونيكي عام 1430، خضع رهبان جبل آثوس للأتراك، ما أدى إلى خلل في تنظيم الأديرة وإفقارها، فازدادت القلالي المتقشّفة في القرن السادس عشر. في عام 1783 شهد جبل آثوس إصلاحات قام بها البطريرك غبريال الرابع. خلال حرب استقلال اليونان (1821-1832) نهب الأتراك الجبل وأحرقوا مكتبات بأكملها.
وفي القرن التاسع عشر وبرعاية من القيصر الروسي، اتسعت الأديرة الروسيّة، في الجبل، والممتلكات التابعة لها، ودخلت إليه الأيقونات والجدارّيات. في عام 1924 وُضع دستور الجماعات الرهبانية في جبل آثوس، وينص على وجود حاكم يمثّل الحكومة اليونانية في المنطقة، تعينه وزارة الخارجية، لكن الإدارة الفعلية تكون بيد المجمع المقدّس (Ierá Sýnaxis) في عاصمة الجبل كارياس، الذي يضم أعضاءً يمثّلون جميع أديرة الجبل. وقد أقرّه الدستور اليوناني عام 1975،
كنوز…
عشرون ديراً، أساقيط (مفردها إسقيط، يعيش فيه رهبان يتراوح عددهم بين عشرة وثلاثين راهباً من جنسيات مختلفة)، مئة من القلالي (مفردها قلاّية، يعيش فيها رهبان لا يتعدّى عددهم خمسة تحت إشراف أبٍ روحيّ). يختلف نظام القلالي بين قلايّة وأخرى، وهي تابعة لديرٍ محدد. يندرج هذا النظام من الحياة النسكية ضمن مبدأ أنه لا مكان لحياة انعزالية في اللاهوت الأرثوذكسي، وحياة الشركة هي الأساس والجوهر، من بينها قلاية القيامة حيث يرقد الأبِ إسحق عطا الله، أول راهب لبناني لمع في النسك في الجبل المقدس.
تزخر كنائس الجبل وأديرته بكنوز من المخطوطات ترجع إلى العصور الوسطى. ففي ديرَ اللافرا الكبير الذي أسسه القديس أثناسيوس الآثوسي في القرن العاشر، ذخائر للقديسين، ويحتضن دير الإيفيرون (تأسس حوالي سنةِ 979)، رئيسه الأب المتوحد باسيليوس، أيقونة البوابة العجائبية ومتحفاً.
يحتوي دير الفاتوبيذي، إضافة إلى الكنيسة المركزية، أكثر من 35 كنيسةٍ ضمن أسواره. بين أرجائه، تمنى الأب يوسف الفاتوبيذيني يوماً، عندما التقى الشماسَ يوحنا يازجي، أن يرتقي هذا الشماسُ عرشَ أنطاكية. يذكر أن البطريرك الأنطاكي سيلفستروس (1724- 1764)، القبرصي الأصل الذي ترهب في دير الفاتوبيذي، كانت تربطه علاقةٌ مع الدير. يخبئ في حناياه زنار السيدة العذراء وجمجمة القديس يوحنا الذهبي الفم وما زالت أذنه اليسرى كما هي. يضم متحف الدير الكبير كنوزاً كنسيةً وافرة، محفوظة بشكل تقني عالٍ، منها أناجيل ومخطوطات وأيقونات وأوان كنسية وألبسة ليتورجية. من أبرز الأديرة أيضاً، دير السيمونوس بيتراس، والأكاديمية الآثوسية.
ورد في كتاب “الجبل المقدس” للراهب الكاهن جيراسميوس سميرناكس من دير الاسفيغمينو، (أثينا، 1903)، أن معظم الأجزاء الباقية من صليب المسيح الحقيقي تعود إلى جبل آثوس، ويصل مجموعها معا إلى 870.760 ملليمتر مكعب، بينما في روما 537.587، بروكسل 516.090، البندقية 445.582، غنت (المنطقة الفلمنكية من بلجيكا في فلاندرز الشرقية) 436.456، باريس 237.731 مليمتر مكعب، وأقل كمية في انكلترا وهي بحوزة أيدي أعضاء الكنيسة الرومانية “.
منع دخول النساء
بحسب التقليد الآثوسي أنّه في إحدى رحلات والدة الإله من أورشليم إلى روما، توقّفت السفينة مقابل الجبل، فأعجبت السيّدة العذراء بجمال المكان والطبيعة الخلابة فيه، وقالت إن هذا الجبل سيكون بستاناً لها للعبادة وخلاص نفوسٍ كثيرة. من هنا يُدعى جبل آثوس حديقة والدة الإله، وثمة أيقونة تُظهرها واقفة فوق الجبل وتلاله. من هنا لا يجوز لأي امرأة انتهاك حرمة الحديقة، وفي حال تم تكون العقوبة بالسجن من سنة واحدة إلى سنتين. وقد طالب برلمان الاتحاد الاوروبى اليونان مرتين لتغيير هذا القانون، ولكنه رُفض.
رغم ذلك أوى جبل آثوس اللاجئين، بمن فيهم النساء، مرتين في تاريخه، في أعقاب ثورة 1770 (المعروفة في اليونان بـ ورلوفيكا)، وثورة 1821، كذلك لجأ إليه بعض اليهود من مدينة تسالونيكي، إبّان الحرب العالميّة الثانيّة، مع أن هتلر وضع جندياً على كلّ دير من دون التعرّض للحياة الرهبانيّة.
الصلوات والأعياد
يبدأ يوم الرهبان في الجبل عند الثانية صباحاً كمعدّل عام لتلاوة القانون الشخصي لكل راهب.
عند الرابعة صباحاً يجتمع الرهبان في الكنيسة الأساسية الخاصة بكل دير لصلاة الساعات والسنكسار اليومي إستعداداً للقداس الإلهي. لا وجود للكهرباء داخل الكنيسة بل تجري الصلوات على ضوء الشموع.
في خلال النهار يهتم كل راهب بالخدمة الموكلة إليه، ويجتمعون ساعة الغداء في صالة الطعام الجماعية المزيّنة بالجداريات وتتخللها قراءة آبائية وكتب روحية. يسبق الغذاء صلاة في الكنيسة الأساسيّة. عند الخامسة تتم صلاة الغروب والمديح حوالي الساعة.وبعد وجبة طعام خفيفة عودة إلى الكنيسة لصلاة النوم والسجود لذخائر القدّيسين. عند الثامنة يدق جرس الصمت ليدخل كل راهب قلايته ويُقفل باب الدير الخارجي.
يدعى رئيس الدير بالييروندا أي الشيخ الحكيم. الضيافة المعهودة في الأديار هي راحة الحلقوم مع فنجان من العرق شغل الدير وهو مقوّ للدورة الدمويّة. الكلمة المتبادلة بين الرهبان هي “إفلوييتي” (باركوا) و”كيريوس” (السيّد المسيح يبارك)، ” كالي إيباكوّي” (طاعة حسنة).
يستيقظ الرهبان إلى الصلاة ومن ثم الدخول إلى الكنيسة على صوت الـ Talando، قطعة خشب طويلة يحملها راهب ويدور بها في الممرات، وهو يطرق عليها بمطرقة خشبية على نغم معيّن. ترمز هذه القطعة إلى نوح في العهد القديم، عندما طرق على خشبة لدخول السفينة التي تشير اليوم إلى الكنيسة، ولجأ إليها المسيحيون في بعض الحقبات عوض الجرس لظروف مضادة، بالإضافة إلى الناقوس الحديدي المتعدد الأجزاء الذي يُدق عليه بنغم معيّن.
الروزنامة الكنسيّة في الجبل المقدّس متأخرة 13 يوماً باستثناء عيد الفصح – إبتداءً من الصوم الكبير – الذي يتطابق مع الفصح الأرثوذكسي العالمي. إذ يحتفل بعيد الميلاد المجيد في 6 كانون الثاني.
عشق إلهي
خبرة آثوس الروحيّة وحالة النفس البشرية التي يطير بها عشقها الإلهيّ، يصفهما البطريرك يوحنا اليازجي مستشهداً بصلاة القدّيس اسحق السوري:
“في الليل عندما تلبس أصوات الإنسان وحركاته وقلاقله وشاح السكينة. أنر نفسنا بك بكلّ اختلاجاتها يا يسوع يا نور الأبرار. وفي الساعة التي فيها تهب الراحة للمتعبين يا سيّدي، فلتنتشِ، بالحلم الأحلى، أفكارنا بك يا حلاوة القدّيسين. في وقت الخلود إلى النوم، عندما يرقد الثملون بصنّاع الوقتي الزائل، أيقظ يا ربنا، فينا تلك المعرفة التي لا تزول.
وفي بدء النهار، عندما يهتم الجميع بالأشياء الأرضية، أهلّنا أيا ربنا، أن نتنعم بسلوكنا الدرب السموي. وفي الساعة التي فيها ينزع الجميع ثوب الليل، انزع أيا ربنا من قلبنا ذكرى العالم الذي يمضي. وفي الشروق عندما يمخر البحارون بحر العالم، أرح يا رّبي، النفوس في مينائك. نحن في أسرارك نحتضنك كلّ يوم ونستقبلك في جسدنا؛ اجعلنا أهلاً لأن نشعر في نفوسنا بالرجاء الذي لنا بالقيامة. كن يارب جناحاً لفكرنا فيطير في النسيم العليل، حتى نبلغ بهذا الجناح خدرنا الحقيقي”.
كلام الصور
1- دير سيمونوبيترا، من أديرة جبل آثوس
2- قطعة من صليب المسيح محفوطة في هذه التحفة الفنية
3- جبل آثوس
4- أيقونة والدة الإله سيدة الجبل المقدس
5- من أديار الجبل
6- أيقونة آلام السيد المسيح
7- من داخل أحد الأديار