ممارسات رسمية تسيء إلى اللغة العربية

الكاتب والإعلامي بلال حسن التل

  أكثر من مرة ذكرنا بأن اللغة – أيّة لغة – ليست مجرد وسيلة للتخاطب، فهناك وسائل تخاطب كثيرة bilal talبين البشر، مثل لغة الإشارة، ولغة برل، ولغة الجسد.. الخ، فلغة اللسان بهذا المعنى وسيلة من وسائل التخاطب وان كانت أكثرها شيوعًا ووضوحًا وقدرة على التعبير.

 لكن التخاطب ليس هو الدور الأهم للغة اللسان. فهناك أدوار أهم من ذلك بكثير، في طليعتها: إن اللغة هي عنوان وجود الأمم وتمايزهم، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم عندما أكد في محكم آياته إلى وحدة خلق البشر، في الوقت الذي أكد فيه أيضًا على اختلاف الألسن بين البشر، بالرغم من وحدة أصلهم، مما يعني أن اللغة هي من علامات التمايز بين الأمم. بل لقد جعل علماء الاجتماع البشري اللغة سمة الأمة وشعارها وعنوان وجودها.. وذهبوا إلى «ان الأمة لا تزول إلا بزوال لغتها». من هنا كانت اللغة عنوان سيادة الأمة ومكانتها بين الأمم.

ولأن اللغة عنوان لوجود الأمة وسيادتها واستقلالها، فإن أعداء الأمم يعملون أول ما يعملون على إزالة لغة أعدائهم المهزومين، لتحل لغة المنتصر محل لغة المهزوم، رأينا ذلك مرارًا وتكرارًا ونراه الآن في فلسطين. لأن طمس اللغة وهزيمتها يعني طمس وجود الأمة. لذلك فإن اليابانيين وقعوا على كل شروط هزيمتهم التي فرضها عليهم الحلفاء في الحرب العالمية إلا الشرط المتعلق بلغتهم، لأنهم كانوا وما زالوا يؤمنون ان زوال لغتهم يعني زوالهم من الوجود.

ومن هنا أيضًا وافق الأوروبيون على الاندماج في كل شيء في إطار الاتحاد الأوروبي باستثناء الاندماج اللغوي، فقد حافظ كل شعب من شعوب أوروبا على لغته وسعى إلى نشرها وتعزيزها. لذلك فإن الأوروبيين يمنعون تعليم طلابهم أية لغة غير لغتهم الأم حتى ينهي المرحلة الإلزامية، ويزيد عمره عن الثلاثة عشر عامًا، لأنها المرحلة التي يتقن بها الطالب لغته الأم، وبعد ذلك تسمح كل دولة أوروبية لطلابها باختيار لغة أخرى من لغات دول الاتحاد الأوروبي ليتعلمها.

أكثر من ذلك فإن بعض الدول ثنائية اللغة، مثل كندا ترفض ولاياتها التحدث بغير لغتها الأم.. حتى ان بعض الولايات الكندية استحدثت شرطة لغوية للحفاظ على لغة تلك الولايات وضمان استخدامها باعتبار اللغة عنوان الشعب وهويته ورمز عزته واستقلاله ومكوّن ثقافته. لذلك تحرص الكثير من الدول على نشر لغاتها والدفاع عنها لأنها بذلك تنشر ثقافتها وتعزز حضورها على الساحة العالمية، ولعل الرابطة الفرانكفونية التي أقامتها وترعاها فرنسا، وتنفق عليها الملايين سنويًا أبرز مثال على احترام الأمم والشعوب للغاتها وحرصها على نشرها. فماذا يجري عندنا؟.

إن الإجابة عن هذا السؤال صادمة، وأول ذلك: إن الجهات التي يُناط به حماية اللغة العربية، والدفاع عنها هي أول الجهات التي تسيء إلى لغتنا العربية، حتى لقد وصل الأمر إلى ان بعض المؤسسات الرسمية ومنها الجامعات، صارت تستخدم لغة أجنبية إلى جانب لغتنا العربية على ورقها الرسمي المروس.. وكأننا أصبحنا دولة ثنائية القومية، ثنائية اللغة.

أكثر من ذلك فإن بعض مؤسساتنا الرسمية تستخدم اللغات الأجنبية في مراسلاتها الرسمية في مخالفة صريحة للدستور..

ليس هذا فحسب، بل إن الكثير من المواقع الإلكترونية للمؤسسات الرسمية ومنها مواقع جامعات أردنية لا تستخدم اللغة العربية، مكتفية باللغة الأجنبية في أبشع ممارسة رسمية ضد لغتنا العربية، وكل ما تمثله من قيم سياسية، وثقافية، وفكرية.

كثيرة هي الممارسات الرسمية المسيئة إلى اللغة العربية، من بينها سماح الجهات المعنية.. ومنها وزارات الصناعة والتجارة، والبلديات، والسياحة، وأمانة عمان باستخدام الأسماء واللوحات غير العربية للشركات والمتاجر، والمطاعم ضاربة بعرض الحائط بكل مستويات التشريع في بلدنا ابتداءً من الدستور الأردني، الذي ينص في مادته الثانية على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، مما يعني ان كل معاملات الدولة وخطاباتها ومراسلاتها يجب ان تتم باللغة العربية.

  كما ان هذه الممارسة مخالفة لقانون «الأسماء التجارية» الذي يحظر استخدام أسماء غير العربية وبغير اللغة العربية، وهو أيضًا مخالف لنظام الإعلان في أمانة عمان، أي ان الإساءة إلى اللغة العربية بهذا المعنى تتم من خلال الإساءة إلى منظومتنا التشريعية، فوق انها إساءة لثقافتنا ورمز من رموز سيادتنا واستقلالنا.. الأمر الذي يدفعنا إلى وضع هذه القضية بين يدي دولة رئيس الوزراء المثقف المحب للغته العربية المدافع عنها، الحريص على دفع العدوان عنها. فكيف إذا كان العدوان مزدوجًا على اللغة وعلى مفهوم دولة القانون؟!.

 ****

(*) رئيس المركز الأردني للدراسات والمعلومات وصاحب وناشر جريدة “اللواء” الأردنية 

اترك رد