الشاعر قزحيا ساسين
قد يكون الحبّ آخذاً من الشعر حصّة الأسد، لأنّ الإنسان يستوطن الآخر مثلما يكون له من الأرض وطن. وإذا دار الحديث حول وجود الحبّ أو عدم وجوده، صارت كثافة الشعر العاشق، من آدم التفّاحة إلى آدم الإنترنت، حجّة تثبت الحبّ أميراً على القلوب وتقول بوجوده مثلما الأبيض في الطحين والأزرق في السماء.
في جديدها الشّعريّ “إيقاعات متمرّدة” تعلن الشاعرة ليندا نصّار انتماء محبرتها إلى قلب لا يرغب في أن يكون المركب إلا حين يكون الحبّ الشّراع.
أوّل الإبحار في “إيقاعات متمرّدة” قصيدة “مرايا صُوَر” التي تقف فيها الشاعرة ليندا نصّار أمام مرآتها الممتلئة من فضّة الغدر: “ظننْتُ مراياي مُخلصة/ ولكنّ ضوء المرايا غَدَر”. غير أنّ النهاية في الحبِّ ليست شربة ماء، إذ إنّ الموج أسير ذاكرة السفينة كما هو أسير الشاطئ، وإذا انكسر أزرقُه الهدّار فإنّ له بعد الإنكسار ضجيجاً: “وللموج طبعٌ يعاينه صدرُ السفينة/ ويبقى يضجُّ إذا ما انكسَرْ”.
ومن المرآة الغادرة تمضي نصّار باحثة عن بوصلة ترعى خُطوَها وتُعتق بالَها من غابة أسئلة لا ترفُّ سحابة فوقها يحمل مطرُها فرح الجواب: “يا بوصلتي ماذا خلف التيار/ قولي ماذا خلف الأنهار…/ يا بوصلتي…/ بوصلتي تُقتل، تغتال…”.
وتبدو نصّار منتظرة أن تقودها بوصلتها إلى الوراء، إلى ماضٍ تريد أن تنقذه من عتم النسيان: “وإذا ماتت آمال القلب/ فالعمر محال/ لا ينفصل القلب عن الذكرى/ … وإذا أخصبت الذكرى فالموت محال”. ونصّار العاشقة تريد ولا تريد، تصل وتتخلّى، وتعترف بأنّها أنثى غرور، لكنَّ غرورها مقطوف من عَينَي حبيب، وفي الوقت نفسه، هي تواجه رجُل غرور: “وأنت الضعيف الملول/ لأنّك ممتلئ بالغرور”، ولا تجد حلّاً إلّا في الارتفاع، ولو كان ثمنه باهظاً، ولو كانت كلّ خطوة صعوداً خطوة في اتجاه العذاب، وفوق، حيث لا أحد مع نصّار إلّا هي، ستبكي محاولةً إطفاء غرورها بماء العيون: “وأيّ مطار سيفقد معناه يوماً/ إذا لم يكن في جناح النسور/ فتلك الأعالي تعذِّبني/ غير أنّي سأمضي/ وأخلق معنى جميلاً لهذا الغرور/ وفي قمّتي سوف أمسح هذا الغرور بدمع خجول/ فمن شيمة الدمع مسحُ الغرور”.
ظلام الحنين
ولا تحتاج نصّار إلى الشجاعة لتَشهر حُبّها المقيم في غمد الشوق، فهيَ تَنشُد حبيباً في ظلام الحنين “في عتمة المشتاق/ أحببتُ فيكَ الرّجل الأثير”، وتحاوله مطراً من سحابة منسوجة على نولٍ عاطفيٍّ جدّاً، وترمي شبكتها عميقاً في ماء الأشواق طمعاً بالصّيد الذي لا يعاد: “وها أنا اخترتك من سحابتي/ من غيبة الأشواق”. وكأن الرَّجل الآتي إلى زمن نصّار يأخذ الحبَّ منها: “أحضرت فيك الحبّ”. وتتفرّغ هي لمناداته: “ناديتُ فيك الحبّ”، وتعود إلى قفير سلامها وطمأنينتها بعد أن أيقنت أنّ قلبها التائق إلى المسير جادت عليه الدنيا بالدّرب المنتظَر: “لأنّ أنت أنت../ لأنّك الدرب الذي يسير فيه القلب”..
وصحيحٌ أنّ نصّار تكتب الحبَّ على امتداد ديوانها إلّا أنّها طالما بدت وحيدة في المشهد، فالماضي يمسك بها من يدٍ تؤلم، والحاضر بات زمناً مهجوراً لا ساعة فيها تحتضن دقائقها: “مهجورة لحظات عمري كلّها”، وهي موزّعة في ذاتها أشلاء أمام قناديل مكفّنة بالسواد: “وقفت قدّام قناديلي بلا ضياء/ أبحث عن أشلائي”، وما من سبيل للتخلُّص من الزمن المهجور إلّا في الرهان على غد ممتلئ من ذاته، غد يضجُّ صدره بالحبّ ويعتمر تاج الرجاء: “أبحث فيها عن غد يجيء/ بالحبِّ والرجاء”، وإلى أن يأتي هذا الغد تواصل الشاعرة تحدّي أسوار الجنون رغبة في أن تعبرها وصولاً إلى “ثورة مخبّأة”، فعلى من تريد أن تثور؟ أو، ممّن تريد أن تثأر؟ ومن الذي بسببه: “انفجر الطوفان… في عتمة الأشواق”؟
وإذا كان الانتصار مؤجّلاً، فإنّ نصّار تعيد ترتيب أشياء أمسها في ذاكرتها وتجد من الهزائم ما لا يقلّ عن الانتصار فرحاً فتمضي باحثة عن عسل العمر في صدر هزيمة: “ورحت أحسب الهزائم التي شهدتها/ وربّما هزيمة تحسّ فيها/ نشوة غريبة”… وفي قصيدة “إيقاعات متمرِّدة”، تشكو نصّار رجلاً لا يتمرّد ليطلع مارداً من قمقم الشوق، فهو ساحر مدائنها، ومغري أشرعتها بالإبحار، ومُحرِّض ما فيها من أنثى على الوصول: “سحرت موانئ شوقي/ وأيقظت فيَّ نقاط الوصول”، وهو، الذي لم يكن شيئاً، بنَته هي دنيا لا تصل إلى آخرها وأطلقت عليه اسم الحرب وفي ميدان مواجهتها العاطفيّة حاولت أن تقرأ سرّ وجودها على حدّ السيف: “نسجتك دنيا بلا حدود/ وسميّتك الحرب/ وكانت لغات حروبك/ إكسير كنْهي وسرّ وجودي”.
ورغم ذلك كله بقي رجُلُ نصّار حبيباً يصدّ، ويلتفّ بعباءة السكون: “ولكنّ بحاري مع الوقت/ ملَّت موانئك الساكنة”، لكنّ ملل البحار من الموانئ لن يكسر جرّة الحبّ، فالشاعرة تحرِّض بحّارها على التمرُّد ولا تريد استرجاع مفاتيح روحها منه: “تمرَّدْ/ أنا في النضال معك/ سأبقى معك/ مفاتيح روحي معك…”.
أنفاس مجروحة
وإذا كانت نصّار تطلب التمرُّد الذكوري فهي لا ترتاح لقساوة رجلٍ جريح وجارح في الوقت نفسه، رجل يعطي أنفاسه المجروحة لمزماره الآتي من قصب الجراح وإنّما كلّ كلام مكلّل بالشوق: “تعزف بالمزمار/ مزمارك الجريح/ ترنيمة مكلّلة/ بألف أقنوم من الأشواق”، إلّا أنّ هذا الرجل الحبيب يستطيع وهو أسير سجن الوجود أن يتمتّع بأنين تراب حبيبته على ساديّة: “تدوس باستعلاء/ ترابي الجريح”، وأن يُلبس الوداع أنشودته الحزينة: “تنشد في مسامعي أنشودة الوداع/ على لحون كنَّ في قيثارة الأيّام”… إنّه الرّجل العازف على ارتفاع، الجالِد وجود أنثاه بسوط الثواني الظالمة: “تعلو وتسمو/ هكذا أراك/… عاتية كانت ثوانيك على وجودي”. ويسوق الرّجل العازف، المتمسّك بآلاته الجريحة، قطعان النّغم، بعيداً، بعيداً، نحو بساتين النسيان: “هناك ألحانك/ كانت دائماً شريدة/ ظمأى إلى الحنان/ قد كان في إيقاعها استبداد/ كان يثور ثمّ يرمي ذاته/ في عاصف النسيان”.
وتعرف نصّار كيف تثأر وتردّ القساوة قساوتين، كما في قصيدة “كموت بطيء” إذ تعلن استعدادها لملء كأس رجُلها بخلِّ القهر: “مشتاقة أن أقهرك / في قصّة أظفر بك”، وتطلب الموت بطيئاً ليكون أكثر إيلاماً: “والموت إن يبطئ يصر / أكثر قهراً أيّها الحبيب”، وتشعل نار نقمتها في حديقة رغبته: “أتوق أن أفشي كلّ نقمتي في رغبتك”، وبكلِّ ساديّة تنتشي الشاعرة إذ هي علّقت حبيبها على صليب وكلّلته بشوك القهر، وكلّ ذلك لإرضاء زهرة الكبرياء على شرفة روحها: “متعة هذا القهر / في كبريائي رغبة”… ورغم الغضب الذي تحترفه نصّار في ساحة الحبّ، تبقى حبيبة تمضي إلى حبيب كما مؤمن إلى الله، وكما عطر إلى وردة: “أتوق رغم غضبي إليك/ كما يتوق العابد الدرويش/ لرؤية الله وقد تبخّر المكان”.
في: “إيقاعات متمرِّدة” قالت ليندا نصّار عاطفتها بكلِّ ما فيها من جبين يعلو وقلب يخفق، وتمرّدت للحبّ…لا عليه…
******
(*) جريدة “الجريدة”