تبادليّة الالتزام بين الهويّة القوميّة واللغة

د. رياض زكي قاسم (*)

logo fikrبشيء من اليقين، أكاد أجزم أن أمّة من الأمم لا تحقِّـق نجاح ثورتها الفكرية، إلّا إذا عادت بنظرة عميقة، تقرأ بها، بعمق وتأمّل، اللغة، ووسائل استخدامها، استخداماً حيّاً، وظيفياً؛ لأن اللغة هي الفكر في أكثر رموزه الأدائية انتشاراً.
ثم، إن اللغة في حقيقة دورها الوظيفي، رأس وسائل ترابط المجتمع الإنساني وتنظيمه؛ فهي تربط بين الأفراد، وتربط بين الجماعات، أحاسيس ومشاعر ورؤى؛ إنها فعل القوّة الدائم في التواصل والتفاعل. وبحكم هذه العلاقة أصبح للغة تأثير بالغ في مناحي الحياة.. بها تقنَّن أصول الاجتماع.

اللغة ليست مجرّد التعبير عن أفكار تكوّنت، بل هي جزء لا يتجزّأ من عملية التفكير نفسها، أو لنقل، إن تطوير العلوم مرهون بتطوير اللغة؛ وهي نتيجة لها من الأهمية والخطورة ما لا يحتاج منّا إلى بيان، لأنه في هذه الحالة يصبح، محالاً، أن يتغيّر للناس فكر من دون أن تتغيَّر اللغة في طرائق ووسائل استخدامها.

نقول هذا، إرادة التأسيس؛ فالعقل الحضاري للعرب في واقعه الراهن، هو فعل تابع، مستهلك غير منتج، وأفكارنا المتمثّلة في ثقافتنا تعاني، في مختلف نواحيها، تخلّفاً.

ولو جعلنا ذلك بصيغة أخرى لقلنا إن التحدّي الأول الذي يجبه اللغة والمجتمع معاً هو أزمة متكلّمي اللغة. فهؤلاء اللاغون، منذ خمسة عقود، أو يزيد، ما شغلهم من المسرح الحضاري إلّا استهلاك التقانة، وكلّما زاد دخلهم، بفضل الأرض وما تنتج من نفط أو سواه، لا بفضلهم، كثر استهلاكهم، فباتوا قاعدين عن إنتاج الفعل الحضاري، يشغلون صفوف المتفرّجين، غير آبهين بمتطلّبات الحياة التي تتسارع صوب تنافس الإنتاج، واستثمار قوى الأرض والبشر لمصلحة التنمية المستقلّة.

أمّا بيان ذلك فهو صور من القصور والضعف، تمثّلت في ارتفاع معدّلات الأميّة؛ وانخفاض المحتوى العلمي والتقاني في الثقافة العامة؛ وضآلة الصناعة الثقافية وانخفاض مستواها؛ مع ما يشوب ذلك من تبعية؛ واتساع الفجوة بين الإنتاج الثقافي الحديث، بأنواعه المختلفة، والقسم الأعظم من الجماهير الشعبية؛ وانخفاض المستويات التعليمية، حيث لا تتجاوز نسبة عدد خريجي حملة الشهادات العليا 9 بالمئة من إجمالي السكّان؛ أضف إلى ذلك ضعف المشاركة الديمقراطية، وانخفاض مستوى الإبداع، ما يجعلنا إزاء مجتمع يعيش واقعاً مغرّباً، متخلِّفاً، مفكّكاً.

وتبعاً لهذا القصور الحضاري في الفكر، علماً وثقافة وفنّاً، نتساءل: هل هذا القصور راجع إلى طبيعة اللغة العربية نفسها، أم هو طارئ عليها من قِبَل المتكلمين بها؟!

في الإجابة تُرانا نعود إلى تجربة فذّة، خاضتها العربية خوضاً ناجحاً؛ إذ احتوت صعود الأمة إلى معارج المعرفة في العصر الذهبي للدولة الإسلامية، دونما تعثّر. وما شكا عالم أو قارئ من قصور اللغة عن استيعاب متطلّبات تلك الحياة العامرة بتفتيق العلوم والفنون والآداب. لقد ارتقى فكر أولئك السابقين، فاستجابت اللغة لرقيّهم، وتطوّعت بما فيها من خصائص قابلة للنموّ والتزيّد، فكانت تتعاظم بتعاظم اللاغين بها.

أمّا العزف على نغمة بداوة الفصحى وقصورها عن المستجدّ الحضاري، ومن ثم ضرورة تعلّم الأجنبية، لغة بديلة.. كلّ هذا زعم، لا يثبت أمام الحقيقة لعلم الاجتماع اللغوي؛ فلبّ المعضلة برمّتها: الّلاغي وليس اللغة.

أمّا الوجه المقابل، فهو ما يحدِّد طبيعة علاقتنا باللغة؛ فنحن كثيراً ما نجانب جادة الصواب، والموضوعية العلمية، حين نقع في ردّة الفعل، فنحبّ العربية حبّاً صوفياً، ونبالغ إذ نرى فيها لغة فريدة العبقرية. إن هذا المنحى العاطفي، بتأثير من الدين أو القومية، لا يخدم العربية في صراعها مع قضايا المعاصرة أو المستقبل؛ وإنما ما يخدم لغتنا في هذا الصدد أن نجتهد في الإفادة من خصائصها، ولاسيّما القياس والاشتقاق؛ ففيهما إمكانات واسعة في صوغ الألفاظ للمدلولات المستجدّة، وبخاصة العلمية منها، المتزايدة باطّراد.

تبادليّة الالتزام بين الهويّة القوميّة واللغة

ذلك الاعتراف بواقع العلاقة بين اللغة والمجتمع، في إطاره العربي يستتبع مسألة ثانية تتناول تبادلية الالتزام بين الهوية الوطنية (بمفهومها القومي العربي الشامل) واللغة العربية، أو أن نقول إن جذور الانتماء الوطني تستمدّ حياة لها (وليس حياتها كلّها) من اللغة. وفي المقابل، تتعمّق اللغة في مفاهيم المتكلّمين بها، وفي تشكيل أذهانهم، كلما صارت معتمدة أساساً، ومتداولة رسمياً وشعبياً، كلغة أم، أو لغة أولى؛ فهي في هذا الاتجاه تعزّر الثقة بالمواطنية، وتسهم إسهاماً فاعلاً في صهر المشاعر والمنازع، وتدفع، بأشكال عدّة، باتجاه الوحدة الفكرية، ووحدة الأحاسيس والمشاعر.

لكنّ صوتاً معارضاً، في هذه المسألة، يقول: إن واقع الحال القطري العربي، في لبنان وتونس والجزائر والمغرب مثلاً، لا ينمّ عن هذا؛ فالمسح التوصيفي للمجتمع العربي يكشف عن بعض الجُزُر اللغوية، ذوات طوابع التغاير والتعدّدية في الأطلس اللغوي العام، وليس للعربية الفصحى، أو ”اللغة الأم“ نصيب كبير على سواها؛ بآية شيوع الثنائيات اللغوية، والازدواجية (الفصحى والعامية)، في الأقطار العربية، وبخاصة الأقطار التي تعاني مشكلات التعريب.

في الردّ على هذا القول المعارض، أجوبة عدّة، يرتبط كلّ واحد منها بمسألة بعينها. أمّا في هذا المجال، فإننا نتناول مسألة واحدة رئيسة، هي ارتباط المسح التوصيفي لواقع الحال بآنية المجتمع المتحوّل. فالدراسة المسحيّة، ليست منجزة، حتى الآن في البحث اللغوي، ولا أحد يستطيع الادّعاء بهذا. لكن محاولات في هذا الاتجاه نُشرت، وهي ذات فائدة (جميل الملائكة، ”الصعوبات المفتعلة على درب التعريب“ مجلة مجمع اللغة العربية الأردني،العدد30،1986).

ولعلّ أكثرها نفعاً تلك التي تنطلق من فهم ظاهرة الازدواجية والثنائية، من منظور تاريخي، يأخذ بعين الاعتبار التطوّر الثقافي للمجتمع العربي، من مرحلة الاستقلال إلى اليوم. ففي تفحّص هذا الواقع، في يومنا هذا، مقارنة بواقع أقطارنا منذ خمسين سنة، مثلاً، نجد أن انتشار التعليم، وتوافر الكتاب المطبوع، وظهور الصحافة والإذاعة والتلفزيون، واتساع دائرة التأليف والإبداع باللغة العربية الفصحى، كلّ هذا أسهم في إيجاد مناخات من الوعي والتفتّح المعرفي، دفعت باتجاه ردم الهوّة بين العامية والفصحى، بالتدريج، إلى حدٍّ باتت معه الظاهرة تسمح لنا بالقول إنّنا سائرون باتجاه الفصحى الميّسرة، وهو مؤشّر إيجابي ستزداد فعاليته يوماً فيوماً، الأمر الذي ينتفي معه التخوّف من انحسار الفصحى.

نضيف، تأسيساً على ذلك، إن الدراسة الموضوعية للظاهرة اللغوية في هذا الخصوص، ترفض ادّعاءات مَن يؤسّس بحثه على ازدواجية، أو ثنائية، في قطاع معيّن في الوطن العربي، إرادة أن يستخلص من هذا الواقع، في زمن معيّن، مجموعة خصائص، ثم يعمّمها على قطاعات أخرى، لا تتماثل في أسباب التكوّن، أو التركيب الاجتماعي. هذا النمط من الأبحاث يفترض الثبات في العيّنة التي يدرس، وهو افتراض خاطئ، لأن التحوّل في اتجاه خصائص أكثر اقتراباً من الفصحى هو الطابع السائد في معظم الأقطار العربية، نتيجة ما أشرنا إليه. لذا، لا يجوز الكلام على واقع آني، هو رهن التغيّر المستمر، ولا يجوز بالتالي اعتباره معياراً للحكم المستقبلي.

ونحن إذا انطلقنا من الإيمان بضرورة «اللغة الثانية» (الأجنبية)، إلى جانب «اللغة الأم» (اللغة العربية)، وبالتالي أكّدنا هذه الحاجة الماسّة في هذا التحوّل الذي يشهده مجتمعنا العربي في اتجاه المستقبل، نقول، إننا بحاجة حضارية إلى الثنائية الإيجابية، وذلك باعتبارها لغة ثقافة وحضارة، وباعتبارها مرتبطة، أيِّما ارتباط، بغرض النهوض المعرفي، ومواكبة المدنيّة الحديثة في تطوّرها المتسارع.

التعريب ومسار التعثّر

حالات التعريب الموجبة، في أيّة أمّة، أربع؛ فهي، جوهراً، تمسّ اللغة؛ وهي، اجتماعية، تمسّ المتكلمين باللغة؛ وهي، قومية، تتناول علائق الإنسان بالوطن؛ وهي، مهنية، تلبّي منازع الفردية الطامحة.

فالتعريب ذو علاقة بفلسفة اللغة، لما يمثّله من ظاهرة طبيعية، لا تخلو منها لغة من لغات البشر، ولما يتميّز به من عامل تجديدي، كالمصل الذي ينساب في عروق اللغة الأم، فينقذها، إذ يبعدها عن الجمود والركود.

وتقضي الاستراتيجية الواجب اعتمادها في المسألة حاضراً ومستقبلاً، أن يكون التعريب جزءاً لا يتجزّأ من قضيّة الأصالة والتجديد العربيين، وأن يتضمّن ذلك اعتماد جملة خطط تكفل إعادة صياغة الإنسان العربي صياغة تعيد له ما خسره من قِيَم، على مدى حقب الاستعمار المتوالي على الوطن العربي، وأن تعزّز فيه روح الإنتاج، لا الاستهلاك، والاستقلال، لا التبعية، والإبداع، لا التقليد.

وإذ نحن في سبيل ذلك، نرى ضرورة أن يندرج في عملنا تنفيذ دراسات معمّقة في جوهر المسألة، وهذا يقتضي:

– القيام بمسح المادة التراثية مسحاً علمياً، لمعرفة ما هو موجود بحوزتنا، مطبوعاً ومخطوطاً.
– تصنيف المادة التراثية تصنيفاً يأخذ بعين الاعتبار المتداول والمهجور والشاذ والمجاز.
– استخلاص المصطلحات وتوزيعها وفق جداول أنواع اختصاصها.
– إعادة تدوين هذه المادة المستخلصة والمصنّفة في معجم تطوّري، ثم في معاجم مختصّة.
– اعتبار هذه المادة المعاد تدوينها، مادة اللغة – التراث، ومادة الفكر- التراث.
– أن يعتمد لإجراء هذه الأعمال المتشعّبة، والكثيرة، على الآلة الإلكترونية، وفي مقدّمتها الكمبيوتر (الحاسوب).

في مثل هذه الخطوات نضع اللغة في موضع الاستعداد والتهيّؤ، لا للمستقبل، وإنما لمرحلة التحوّل، ولا نقول الجديد اللغوي أيضاً، لأن الجديد لم يتحدّد بعد، حتى نُقعّد له القواعد، ونُقنّن له القوانين. الجديد هو في طريق الصنع؛ نحن الذين نصنعه في مرحلة التحوّل هذه. نبتكر لكلِّ موقف ما يلائمه، ونستقبل كلّ مشكلة بما يعالجها من حلول، أي أننا إذ نشكّل الموقف، نتشكّل في صورتنا الجديدة.

******

(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة أفق

(*) باحث ولغوي- لبنان

اترك رد