الكاتب والإعلامي بلال حسن التل
رغم مرور أسابيع على وفاة الفنانة صباح، فإن الحديث عن جنازتها ما زال يشغل حيزًا من مساحات الإعلام المرئي والمسموع والمقروء؛ بالإضافة إلى الحيز الذي يشغله من مجالس الناس. ومن عجيب الأمر ان الغالبية الساحقة من الناس لم تنتبه إلى الخطورة الكبيرة في دلالات جنازة صباح، وأولها هذا الاستخفاف بحرمة الموت وجلاله، مصحوبًا باستخفاف بمنظومة القيم والعادات والتقاليد المصاحبة لطقوس الموت في بلادنا.. بل وفي سائر بلاد الدنيا وعند أتباع كل الديانات السماوية وغير السماوية.
عند ذكر القيم فإننا نحب ان نتوقف طويلاً عند دلالة من دلالات هذه الجنازة، تتمثل في انها تتضمن رسالة إلى كل شباب الأمة. مفادها أن هذا الطريق الذي سلكته صباح هو طريق الشهرة والمجد والخلود، وأن هذا الصنف من البشر هو الذي يجب ان تتمثلوه وتسيروا على دربه..
باختصار: ما جرى من تركيز على جنازة صباح، هو جزء من حملة مكثفة تستهدف تكريس نماذج للقدوة التي يجب ان تسير عليها الأجيال الطالعة من أبناء أمتنا، وهي حملة لا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليكتشف حجمها وخيوطها، فانك لا تكاد تجد وسيلة إعلام عربية مسموعة، أو مقروءة ليس فيها مساحات واسعة، وشبه يومية للحوار مع الراقصين والراقصات، والمطربين، والمطربات، وإبراز أخبارهم وتتبع نشاطاتهم مهما كانت سطحية. حتى صار الشاب من شباب الأمة يعرف أدق تفاصيل حياة كل راقصة، وكل مطربة ومطرب من كثرة ظهور هؤلاء في البرامج الحوارية الإذاعية والتلفزيونية، وعلى صفحات الصحف والمجلات المتخصص منها الاقتصادي والسياسي، فقد لاحظنا خلال سنوات مأساة ما سمي «بالربيع العربي» كيف صارت فئة الفنانين من راقصات ومطربات ومطربين، تتصدر البرامج السياسية مع ضحالة ما لدى غالبيتهم من ثقافة ومعرفة بالشأن العام.
فإذا أضفنا إلى البرامج الإذاعية والتلفزيونية وتركيزها على تقديم فئة معينة من الفنانين المسفين لتولي توجيه الأمة وخاصة شبابنا، مع ما يتقاضاه هؤلاء الفنانون من مبالغ باهظة نظير ظهورهم في هذه البرامج، إذا أضفنا إلى ذلك كله هذه المهرجانات التي تسمى فنية بكل الملايين التي تنفق عليها، وبكل ما يرافقها من مظاهر التبجيل والتعظيم لشريحة معينة من الراقصات والمطربات؛ عرفنا أيّة قدوة يحاول هذا النوع من الإعلام زرعه في نفوس شبابنا.
أما ثالثة الأثافي فبرامج المسابقات الفنية التي تكتسح وسائل الإعلام العربي، لهثًا وراء اكتشاف المطربين والمطربات، ابتداءً من برنامج «محبوب العرب» وانتهاءً بأدنى برنامج من هذه البرامج على بعض المحطات المغمورة، علمًا بأن مخاطر هذا النوع من البرامج كثيرة. فبالإضافة إلى دورها في الإسهام بتغيير منظومة القيم والمُثل العليا، خاصة في مجال القدوة، فإنها تثير بين أبناء الأمة الشحناء والبغضاء، وكل منهم يسعى إلى فوز نجمه المحبوب، وفي هذا المجال، ذكر لي من أثق به أن أهالي قرية أحد المتنافسين في برنامج مسابقات غنائية صعدوا مآذن المساجد في قريتهم لتحريض الناس على التصويت لابن القرية! إضافة إلى ان هذا النوع من البرامج يمارس نوعًا من أنواع الابتزاز والاحتيال على الناس، جراء ارتفاع كلفة الرسائل الهاتفية المستخدمة بالتصويت لصالح المتنافسين، وقد قيل لي أيضًا: إن أبناء إحدى الدول العربية الفقيرة أنفقوا أربعة ملايين ونصف المليون دولار للتصويت لصالح متنافس منهم.
إننا في الوقت الذي لا نعترض فيه على إعطاء المساحات المناسبة من أوقات وسائل الإعلام للفنون الراقية، وهو الأمر الذي يكاد يكون معدومًا في ظل طغيان الغثاء الفني، فإننا نتساءل في الوقت نفسه: أليس من حق المبدعين في المجالات الأخرى كالشعر، والقصة، والرواية، والخط العربي ان يعطوا بعض اهتمام وسائل الإعلام التي تعطي كل هذه المساحات للمسابقات والمهرجانات الفنية؟.
أليس في الأمة علماء في الفيزياء، والرياضيات والطب وغيرها من العلوم التطبيقية، من يستحق ان تكون لهم برامج حوارية تسلط الضوء على منجزاتهم ليكونوا قدوة لشباب أمتنا؟ أليس لدينا أدباء في حياتهم ما يستحق ان تركز عليه الأضواء؟.
أيضًا لو ان جزءًا من هذه الأموال الهائلة التي تصرف على البرامج الفنية الحوارية منها أو تلك التي تأخذ طابع المسابقات، خُصص لتشجيع البحث العلمي لدى شباب الأمة، ألا يكون في ذلك خيرٌ كبيرٌ؟.
خلاصة القول: نحن لسنا ضد الفن الراقي، لكننا ضد الغثيان في الفن، وضد الإسعاف باسم الفن، ومع العدالة في توزيع اهتمامات الإعلام العربي، فلدينا علماء، ولدينا أدباء، ولدينا مخترعون أهم بكثير من هز الوسط والسح أمبح.