مقطع جديد من شيخ المدينة

الأديب أحمد الصغير

راجت في انحاء المدينة أخبار عن عودة الشيخ من مهجره … تداول الناس الخبر بين مكذب و مصق و آخر غير مبال، ahmad-sghaier-1وحدث العامة عن هذه العودة المباركة فالشيخ كما يقولون، رجل صالح الهمه الله من البركات ما يمكنه من حل مشاكلالناس و شفاء عللهم و تسهيل ارزاقهم، فهو الرافع لراية الحق المدافع عن دين الله، وهو العالم الفقيه المثقف، العارف بمشاكل قومه وأوجاعهم … عاد الشيخ من بلاد المهجر يحمل آمال الملاين ،و قد تزود من حيث كان بوعود ستخرج الناس من ظلمات الفقر الى نور الغنى و من تعاسة الخصاصة إلى رغد العيش….

هكذا هو الشيخ … جليل وقور، كست وجهه لحية غزاها البياض فامتزجت الوانها كواقع اهل المدينة ، بانت على جبينه بقعة رمادية من اثر السجود تخللتها خطوط افقية نطقت تروي في صمت حكايات عديدة…. فذاكرة سكان المدينة لا تعرف من تاريخه غير صراعه المتواصل الشرس مع الحكام و اصحاب النفوذ وذوي السلطة والحاه… فهو كما يقولون رجل لا يخاف في الحق جور اصحاب القرار و ظلمهم، فهو المتميز برجاحة العقل و سداد الراي ودماثة الاخلاق،وهو الذي جمع حوله آلاف المريدين و الأنصار من الشيوخ و العجائز ومن شباب المدينة، وهو الذي أدار إليه رقاب أكبر وكالات الأخبار وأشهر المؤسسات الإعلامية حتى صار عنوانا للبطوله في وطنه ومضرب مثل للنضال والشهامة والعزة والابى

هكذا هو ….. شيخ المدينة

أمسك الشيخ في يده اليمنى حفنة من تراب مدينته، قبلها واشتم عطرها تماماً كمن يقبل ثياب أمه بعد وفاتها … لمعت في عينه دمعة واحتقن وجهه وعلت صوته غصة كالواشك على البكاء… لكنه سرعان ما انتفض وعاد إلى طبيعته خشية أن يراه القوم فيستضعفونه… حملق في صفوف المتجمهرين أمامه يتفحص وجوههم المصفّرة و أجسادهم النحيفة المنهكة، ويستشف من ملامحهم عذابات السنين وكدمات الزمن وجور الحكام. وجوه شاحبة لا نظارة فيها، عيون انحبست دموعها بداخلها فهم ممنوعون من كل شيئ، حتى البكاء في هذه المدينة كان ممنوعاً… وجوه بانت عليها سمات الفقر والخصاصة و الحرمان و الجوع … عقول بلّدها الجهل و الأمية و أجساد أنهكتها الأمراض المزمنة و العلل المستدامة.

دارت برأس الشيخ استفهامات كثيرة … من أين جاء هؤلاء الأشباح بكل تلك القوة و الارادة حينما اطردوا حاكم االمدينة و أجبروه على الفرار … كيف صمد هؤلاء أمام بطش الحاكم و أعوانه و جلاديه … حاكم حكم المدينة لسنوات طويلة بحد السيف و بقبضة من حديد ، حاكم خرّ امام بطشه شعب بأكمله الا النزر القليل … جوع الناس ، بلّد عقولهم ، كمم افواههم ، فرق بينهم فساد … اغتصب ارضهم و هتك عرضهم ، فانتزع الاملا و نهب الثروات و داس الاشراف و رمى في سلة مهملاته قبم الكرامة و مبادئ الانسانية … حاكم جنّد لذلك زمرة من شياطين الانس و ذئاب البشر ، فلاحظوا و حللوا و خططوا و نفذوا ، فكان له و لهم ما  أرادوا.sheik 1

أفاق الشيخ على أصوات تناديه من كل الاتجاهات … فهو أمل هؤلاء الحاضرين لاستقباله و الترحيب بعودته ، فهم لم يقدموا أرواح شبابهم و دماء اطفالهم و شيوخهم و آلام أمهاتهم و بناتهم ليحكمهم طاغية جديد، والشيخ … الشيخ لن يكون طاغية فهو رجل من رجال الله و وريث من ورثة الانبياء … هكذا هو شيخ المدينة.

سكت الجميع ، فخيم على المكان صمت عمي ، الكل في انتظار رهيب لما سيقوله شيخ المدينة .. رفع الشيخ يده اليمنى، مررها على لحيته وعلى شفتيه، مسح بها جبينه المبلل عرقا… بدأ بتحية القوم فرد القوم التحية بصوت واحد، كرجل واحد… أثنى عليهم ومجّد صبرهم وجلدهم و مقاوتهم لسنوات الجمر و العذاب … جمع الشيخ قواه وهتف في الناس بأنّ الله بعث فيهم روحاً من جديد بأن نجاهم من القوم الظالمين … وأنّ الظلم والطغيان لن ينعم أبدا بالدوام و البقاء… كانت كلمات الشيخ توحي بايمان راسخ عميق، كيف لا وهو وريث الأنبياء.

قال الشيخ خطبة عصماء مزج فيها بين سحر الكلام وقوة الخطابة مستعملا لغة عامية غلبت عليها لهجة شرقية، فالشيخ الوقور قضى سنوات عديدة في بلاد الخليج… خطبة أتى فيها على كل جوانب الحياة، السياسة من منظوره والاقتصاد في وجهة نظره و الاجتماع كما يراه … حتى أنه وعد الناس أن لا يكون له أي سلطة عليهم فهو الذي عاد ليخدمهم من خارج القصور و البلاطات فهذه الأماكن لا تستهويه، و أن يقدم لهم عصارة تجربته و ما تعلمه من رحلاته و جولاته في بلاد الشرق و الغرب ليصلح حالهم و يرتقي بهم الى ما هو أفضل.

اقشعرت أجساد الحاضرين و سالت دموعهم… فما أجمل هذا الشيخ في عيونهم ، يترك القصور و البلاطات و الخدم والترف من أجل هؤلاء الأشباح المصفرّة وجوههم … وعلت بينهم هتافات بحياة الشيخ وطول عمره ودوام صحته، فراقت له هتافاتهم، فابتسم فبانت اسنانه صفراء يميزها اعوجاج … وذلك من أثر السجون …. هكذا هو شيخ المدينة.

*****

كلام الصورة

اللوحة لأحد المستشرقين

اترك رد