إننا نختنق

الأديب الياس خوري

التقيت زياد أبو عــــين مرة واحدة، وعن بعد، كان ذلك في القرية التي بناها شابات وشبان فلسطينيون elias-khoury.-1jpgعلى أراض مقدسية مصادرة، أطلقوا عليها اسم «باب الشمس». يومها أصبت بدهشة الأمل. ففلسطين التي يعيد المناضلات والمناضلون بناءها من تحت ركام الاحتلال والاستيطان لم ولن تموت.

أحسست بأنني جزء من نبض الحياة التي تتخذ لنفسها أسماء شتى، لكنها تصب في النهاية في نهر واحد اسمه الحرية.

الفلسطينيون والسوريون والعراقيون يريدون الحرية. لكن الحرية تتخذ لنفسها أشكالا متعددة، يصعب القبض عليها، وإدراجها في سياق واحد. وبسبب من تعقيدات الوضع ومساراته المختلفة، انتشر منطق تفتيت المعنى. فعن أية حرية يتكلم العراقيون وهم يعيشون اليوم بين صراع الهمجيات الطائفية، وفوقهم يحلق الطيران الأمريكي ويدفع بهم الى المزيد من التشرذم؟ وعن أية حرية يتكلم السوريون، وهم يعيشون بين مطرقة براميل النظام ومقصلة سكاكين داعش؟

أما الفلسطينيون فهم ضائعون بين هبات شعبية بلا قيادة كهبة القدس، وبين قيادات لا تدري الى أين تمضي، فيترسخ الانقسام، وتتشرذم القوى، بحيث تبدو مقاومات الفلسطينيين للاحتلال وكأن لا سياق يربطها ولا أفق يحدد مساراتها.

زياد أبو عين ورفيقاته ورفاقه في المقاومة ذهبوا الى قرية ترمسعيا كي يقاوموا مصادرة الأراضي. حملوا شتلات الزيتون من أجل زراعتها. فهذه القرية المهددة بالاستيطان الزاحف، شهدت مواسم اعتداءات المستوطنين على شجرة النور الفلسطينية، فقررت أن تشرك الأرض في مقاومة محاولات الاستيلاء على الأرض.ziad abou 3ain

لم يقم الفلسطينيون بتظاهرة ضد مصادرة الأرض، كما بدا من الصور ومشاهد الفيديو، بل ذهبوا ليزرعوا الزيتون. حملوا الشتلات الصغيرة وانحنوا على الأرض كي يضمدوا جراحها، حين تصدت لهم آلة القمع الاسرائيلية.

استطيع أن أتخيل الرجل الخمسيني بشاربيه الكثيفين والحطة الفلسطينية الملفوفة على عنقه، وهو مصاب بالدهشة أمام أعقاب البنادق وقنابل الغاز.

كان يودّ أن يسألهم لماذا يكرهون الأرض وزيتونها؟ هل وعدهم إلههم بأرض يكرهونها؟ واذا كانوا يكرهون الزيتون فلماذا أتوا الى أرض الزيتون؟

لكن الكلام مع الضباط والجنود كان مستحيلا، لأن قنابل الغاز انتشرت في المكان، وبدأ الجنود يتقدمون والأقنعة على وجوههم من أجل اعتقال المشاركين في هذه المظاهرة الزراعية.

عندها تصدى لهم الرجل، كان دخان القنابل يحاصره، امتدت يد إلى عنقه كي تخنق صوته، بينما ضربه آخرون بأعقاب البنادق على صدره ومعدته.

أحس الرجل بأنه يختنق وصرخ أنه يريد الهواء لأنه لم يعد قادرا على التنفس، أخذوه إلى المستشفى حيث استشهد.

صرخة زياد بأنه لم يعد قادرا على التنفس، وبحثه عبثا عن الهواء، تلخص حاضرنا في فلسطين وسورية والعراق.

الحرية هي الهواء، قال زياد أبو عين قبل أن يموت.

يحق لنا أن نتساءل ماذا فعلت السلطة الفلسطينية بعد المأتم الوطني الذي أقيم للوزير الشهيد، لكن ليس هذا هو الموضوع، فلقد انخفضت توقعاتنا الى أدنى مستوى، ونحن نشهد كيف اختفى الهواء في فلسطين، ومعه تلاشت المعاني.

الموضوع هو أن العالم العربي بأسره يختنق بحثاً عن هواء الحرية الذي لا يجده. في الموصل وبغداد وفي دمشق والرقة لا هواء. لقد تلوّث الهواء بالجنون الطائفي من جهة، وبالقمع الوحشي المستمر من جهة ثانية. لم يترك الأسد الصغير في دمشق نسمة هواء واحدة، أما وجهه الآخر المتمثل بالخليفة الداعشي الذي لا يعرف سوى فقه واحد اسمه فقه الدم، فلقد تحوّل على يديه القمع المستتر ببراقع الخطاب القومجي على الطريقة البعثية، إلى قمع معلن تعلنه السكاكين وحجارة الرجم.

براميل وسجون تمارس فيها أبشع اشكال التعذيب من هنا ، وسكاكين وحجارة رجم من هناك، والمنطقة تدخل في زمن العتمة والعته.

المستبدان يحققان اليوم المشروع الأمريكي الذي أعلن عشية غزو العراق أن هدفه هو إعادة المنطقة الى العصر الحجري.

أما في فلسطين، حيث صاغ العنصريون الاسرائيليون قانون يهودية الدولة، وهو بالمناسبة قانون يشمل أرض اسرائيل وليس دولة اسرائيل، أي كل فلسطين، فإن الاحتلال ماض في سياسة القمع المطلق التي تعني شيئا واحداً هو استكمال التطهير العرقي لفلسطين الذي بدأ عام 1948.

لذا جاءت صرخة زياد أبو عين لتعبّر عن المرحلة.

إننا نختنق نريد الهواء لأننا لم نعد نستطيع أن نتنفس.

تلخص هذه الصرخة الفلسطينية صرخة المشرق العربي بأسره. الحرية هي أن نتفنس أولاً، إنها حقنا في الهواء، وحقنا في الكلام، وحقنا في بلادنا.

وكما يقوم الاسرائيليون الصهاينة بطرد الفلسطينيين من حقهم، يقوم الاستبداد والأصولية باستعباد الناس وطردهم من انسانيتهم
.
شابات وشبان المقاومة الفلسطينية اكتشفوا في ترمسعيا أن معركة غرس شتلات الزيتون ليست معركة على الأرض والمياه فقط، بل هي معركة على الهواء.

الاحتلال يصادر الهواء بالغاز، ويطفئ نبضات القلب بأعقاب البنادق. والاستبداد وقفاه الداعشي والميليشيات الأخرى يصادرون حق الإنسان في الحياة.

إننا نختنق، هذه هي صرخة كل المضطهدين من إريك غارنر في ستايتن آيلاند في الولايات المتحدة إلى زياد أبو عين في ترمسعيا.

إننا نختنق. صرخ الفلسطيني وهو يتعهد بالاستمرار في المقاومة.

إننا نختنق، ونحن نصرخ بحثا عن الهواء، وبحثا عن مقاومة عربية شاملة لكل أشكال الاستبداد.

******

(*) “القدس العربي”  16-12-2014

اترك رد