الأديب إيلي معوشي
مَثَلٌ شائع: ”العقل زينة وحامِلوه قِلَّة”.. وسعيد عقل واحدٌ من هذه القِلَّة… عقلُ سعيد عقل هو زينته وحِليته، وهو المعلِّم والسيِّد والآمر الناهي.. بل هو كل سعيد عقل من الرأس الى أخمصِ القَدَم…
شهاداته العلميَّة هي عَقلُهُ: عَقلٌ شَرُفَ به، وبه كان ”سعيداً”!…
أديبٌ عِصاميٌّ ما عرفت العِصاميَّة نظيراً له.. وشاعِرٌ مَلِكٌ: عَرشُهُ الجمال، وتاجُهُ لبنان، والحُبُّ صَولجانه!…
***
رَغَمْ المئة والسنتين، لم يكن الناس يتوَقَّعون أنَّ الموتَ يقترب من سعيد عقل شيئاً فشيئاً.. لقد فُوجئوا بخبر موته وكأنَّه، بعد، في عنفوان الشباب، يقيناً منهم أنَّ هذا الشاعر الكبير لن يموت…
وماتَ سعيد عقل فعرا القِيَمَ خَدَر، واكتأَبَ الفِكرُ البشريّ، واضطربت الثقافة، وَذَهِلَ العِلمُ، وأصابَ الحضارةَ دُوَارٌ…
هذا على الأرض. أمَّا في السماء فقد غَشِيَتْ جبينَ اللَّه كآبةٌ، ودمعَتْ عينُ العذراء، وسرى، بين الملائكة والقديسين، هَمسٌ ولَغْط…
***
برحيل سعيد عقل، يفقد لبنان عَلَماً كبيراً من أعلام الأدب والشعر والفلسفة واللاَّهوت، هَيهاتِ أن يُولدَ نظيرٌ له:
“لا، ما رأى الناسُ ثاني السعيد،/أيُّ ثانٍ يُرى لبكِر الزمانِ/هو في شعره نبيٌّ؛ ولكن/ظهرَتْ معجزاته في المعاني”! …
***
سقط فارس الكلمة.. أمّا الكلمة فلم ولن تسقط: فهي ”كلمة ملكة”! ستجوب البلاد طولها وعرضها، وكلَّما تعبَتْ ازدادَتْ تألّقاً وتوهُّجاً!…
***
سعيد عقل عَبَدَ رَبِّين: عَبدَ ربَّه خالقه وقال فيه ما لم يقله كبار الملافنة واللاهوتيين، وعَبدَ لبنان؛ حمله في عقله وقلبه، وبقلمه وعلى لسانه، وقال فيه ما لم يقله أديبٌ أو شاعر:
“لي صخرةٌ عُلِّقَتْ بالنَّجم أسكنها،/طارتْ بها الكتبُ قالت: “تلك لبنانُ”/أهلي، وَيَغْلون، يغدو الموتُ لُعبَتَهم/إذا تطلَّعَ صوبَ السفحِ عُدوانُ”…
***
ثمَّ إنَّ سعيد عقل أحَبَّ أُمَّ ربِّه حُبًّا كبيراً عَبَّر عنه، بنوعٍ خاصّ، بمحاضرةٍ حملَتْ عنواناً رفع، به، اسم العذراء إلى أعلى عِلِّيِّين، ألقى سعيد عقل محاضرته المريميَّة، في معظم المناطق اللبنانية، أكثر من ثمانين مرَّةً، وكان ذلك في الخمسينات من القرن الماضي، ولقد قُيِّضَ لي أن أستمع الى هذه المحاضرة في معهد الإخوة المريَميِّين في صيدا حيث كنتُ أُعَلِّم اللغة العربيَّة، وذلك في التاسع عشر من كانون الأول 1954. أما عنوان المحاضرة فهو: “مريم والتمدُّن”…
***
وأحبَّ سعيد عقل أُمَّه حُبًّا جَمًّا، فقال فيها: “أُمِّيَ يا ملاكي، يا حُبِّيَ الباقي إلى الأبد…”.
***
سعيد عقل هو طليعة المثقفين الكبار في لبنان والعالم العربيّ، والمثقفون الكبار، من أزَلٍ الى أبد، لا يموتون: ذلك أنَّ هؤلاء ليسوا لوطنهم الواحد وحَسبُ، بل هم لجميع الأوطان…
أعمالهم ستحكي حكايتهم في كلِّ نادٍ ومجلس، وستظلّ شاهداً على بقائهم أحياء في ذاكرة التاريخ وعلى ألسنة الناس وفي ضمائرهم!…
***
سعيد عقل ونُظَراؤه العمالقة من أدباء وشعراء ومفكرين وفنَّانين وفلاسفة هم وجه لبنان الحضاريّ والثقافيّ، وهم صورة لبنان البهيَّة النَّقيَّة، وهم سفراؤنا إلى العالم!… أمَّا السياسيون، وقد انصرمَتْ إحدى وسبعون سنة من عُمر الإستقلال، فلم يستطيعوا ولم يعرفوا، وربما لن يستطيعوا ولن يعرفوا، أن يبنوا دولة الإستقلال الحقيقيَّة… فلبنان ليس لهؤلاء بل هو لأولئك!…
***
سعيد عقل كان أكبر رجل دولة في لبنان، طَوال أكثر من سبعين عاماً، ودولته أكبر دولةٍ في العالم: أَوَليس شعر سعيد عقل هو الدولة الكبرى والمثلى؟..: فلا فساد في دولته، ولا سرقة مالٍ عامّ، ولا محسوبيَّة، ولا تَخَطٍّ للقانون!..
لبنان الذي خَلَّده سعيد عقل بأدبه وشعره وفكره المبدع الخلاَّق وعبقريته النادرة، أليس من العار ألاَّ يكون، هو، رئيساً له ولو مرَّة واحدة؟!…
***
إنَّه لَحَرِيٌّ أن يدخل شعر سعيد عقل مدارس لبنان فيتعرَّف طلاَّبه إلى أمجاد وطنهم الصغير التي خَطَّها الشاعر الكبير في روائعه، ثمَّ وأن يُقام، في مدينته زحلة، مُتحَفٌ يضمُّ آثاره والأشياء الأخرى، فيؤمُّهُ سُيَّاحٌ من شرقٍ ومن غرب، يتعرَّفون إلى هذا العبقريّ الذي هو دائرة معارف ستتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل!…
***
قال النائب سليمان فرنجيه: ”عقل لبنان في ذِمَّة اللَّه”!
***
عاد سعيد عقل إلى مدينته زحلة التي سيظلّ بردونيُّها تَهدر ماؤه مع هدير شعر السعيد، وسيظلُّ مُحِبُّو الكأس يشربون خمر كروم زحلة وقد ذابَ فيها شعر سعيد عقل!…
***
سعيد عقل: اسمٌ سيبقى، في لبنان، مُشِعاً ما دامت الشمس تنير الأرض، وما دام القمر يطارد النجوم، والغَيم يُلاحق الغَيم، وما دامت السماء تُبرق وتُمطر، وما دام البحر في مَدٍّ وجَزرٍ…
***
يا سَعدَ لبنان ويا فَرَحَ الشعر! لن أقول لك: “وداعاً”.. فأنت باقٍ! ورحيلك مشوار إلى حيث ستلتقي بكوكبةٍ من الكبار هم، أيضاً، باقون، وسيُرَحِّبون بعظيمهم أجمل ترحيب: عاصي ومنصور، وفيلمون، ونصري، وزكي ناصيف، ووليد غلمية، ووديع الصافي، وصباح…
***
ويا أيها “السعيد العقل”: ضريحك، في زحلة، سَيُنْشِدُ الزَّحليُّون شِعرَكَ صباح كلِّ يوم: فتبقى زحلةُ “السعيد”، ويبقى ”عقل” لبنان!…
****
(*) بالاشتراك مع aleph-lam
www.georgetraboulsi.wordpress. com