الأديب أحمد الصغير
هناك في مقهى المغرب العربي اتخذ لنفسه مكانا قبالة جهاز التلفاز ، رمى جسده على كرسي خشبي عتيق ، وطلب من النادل فنجان قهوة. وضع ساقه اليمنى على يسراه، فرك يداه، حك ذقنه، زفر كأن شيأ ما لا يعجبه، رفع يده اليمنى إلى رأسه غرس اظافره داخل شعره وحك فروة رأسه، فقد اعتاد ذلك لا غير…
عيناه غائرتان تظهر فيهما حمرة خفيفة… يتوسط وحهه شارب غزير شعره اصفّر لونه نحو البنيّ في لون دخان التبغ فقد اعتاد نفث دخان السجائر من أنفه في اتجاه شاربه … أراد إخراج أصابعه من شعره فعلقت بظفره بعض الشعرات فأحس بألم خفيف… لم يتعود تصفيف شعره وتسريحه فاتخذ شكلا مزعجا .
أحظر له النادل فنجان القهوة …. ارتشف فقطّب جبينه و انزعج ، فليس في القهوة سكر … مرّة بمراة الموت و الحياة…
لم يذهب إلى العمل اليوم … فقد تعطل موسم جني التمور بسبب المطر، أحضر له النادل السكر، ذوبه في القهوة ثم ارتشف فقطب جبينه و انزعج، فكمية السكر كبيرة فاصبح طعم القهوة كمذاق العسل حلاوة .
رفع النادل صوت التلفاز … استدار نحوها في انتباه شديد، فقد حظر اليوم الى المقهى بغية مشاهدة التلفاز … فاليوم سوف يجتمع وجهاء القوم و أعيان المدينة وأشراف الأحياء ليجدوا حلا لتردي أوضاع المدينة وانهيار أحوالها … فقد اتفق هؤلاء على وضع حد للفرقة ونبذ الخلافات، و اتفقوا على التوحد والوقوف صفاً واحداً في وحه الأخطار المحدقة بالمدينة وسكانها … الأمر يهمه فهو واحد من سكان المدينة.
جاءت مذيعة الأخبار تعلو محياها ابتسامة مصطنعة فقد ملّت الابتسام كل يوم في وجوه المشاهدين، و هذا النص الجامد المتآكل الذي تردده كل يوم … أعلنت المذيعة عن بدء اجتماع الأعيان و الوجهاء و الأشراف من سادة المدينة … ارتشف جرعة ماء كبيرة، فقد علقت حلاوة القهوة في حلقه بعد مرارتها ثم عاد إلى التلفاز باهتمام وتفاءل فالجماعة سوف يعلنون اليوم على الحل السحري الذي سيخرج المدينة من المغارة المظلمة .
وظهر الجماعة على شاشة التلفزة، وقد وضعوا على وجوههم مساحيق النساء و لى وجوه بعضهم لحي مختلفة الألوان والأحجام ، صففوا شعر رؤوسهم ووضعوا عليه بعض أنواع المثبت والطلاء فبدا بريقه كبريق الملح في شط الجريد… بدت على وجوههم ابتسامات خفيفة و أخرى عريضة، و برقت من عيون جميعهم نظرة مكر و دهاء.
اجتمعت حول المشاهير منهم قنوات الإعلام الخاصة والحكومية، المحلية و الدولية، حتى أن بعضهم كان يقف وراء المتحدث لتمر صورته فيعلم الناس انه هناك … في مكان الحوار … تحدثوا، أطنبوا في الحديث، تفاءلوا، وعدوا، ابتسموا، وأعاد بعضهم ترتيب ربطة عنقه الحمراء استعدادا لحوار ثان في قناة أخرى …
اليوم أمر جلل … فلا خمر، و لا نساء، ولا سهر ….
أعلن مستضيف الجماعة عن بدء الاجتماع فدخل الجميع إلى غرفة كبيرة و أغلق آخرهم الباب خلفه … فالاجتماع لتقرير مصير المدينة لابد أن يكون سريا للغاية … هكذا أرادوا .
همّ بالخروج ولكن سؤالا شدّه إلى الجلوس من جديد. لماذا لم تقع دعوته لحضور الاجتماع بصفته مواطنناً… أليس مواطننا ؟؟؟… شرد ذهنه باحثاً عن جواب لسؤاله ولكن شروده لم يدم كثيراً فسرعان ما تحقق من الإجابة حين شدّ انتباهه أحد أصابع ساقه اليسرى وقد اخترق الجورب وصار خارج … القانون.
بقع العرق البيضاء تفرقت على سرواله الأسود المثقوب من ناحية ركبته اليمنى لكثرة جلوسه عليها أثناء فرز التمور في العمل … أظافره الطويلة، يده الغليظة المشققة … لكل هذه الأسباب فقد في مدينته صفة المواطنة … قرر عدم المغادرة إلى غاية نهاية الاجتماع فهو اليوم عاطل عن العمل، سينتظر عسى في الأمر فرج و مخرج.
عادت مذيعة الأخبار من جديد… ابتسمت من جديد… رحبت من جديد… وأعلنت وهي تبتسم دائماً، أن الجماعة غادروا القاعة و لم يتفقوا … و أنهم سيعودون غدا من جديد … لمواصلة الاجتماع الجديد ليخرجوا بحل فريد …
وقف ، ابتسم ، أكمل جرعة الماء التي أمامه و تعالت ضحكاته …. فقد تذكر مسمار جحا …. انها احدى حكايات الصبى.
*******
كلام الصورة
اللوحة للرسام التشكيلي لؤي كيالي