المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي
تفرض علينا الرؤية الفلسفية للواقع العربي، في المقام الأول، الوقوف عند بعض المفهومات التي استُعملت لمقاربة ذلك الواقع، وتلك التي وُظّفت من أجل تحويله والتفاعل معه. غنيّ عن التأكيد أن هذه المفهومات عرفت تطوّراً وجاءت لتقوم على أنقاض بعضها. وقبل أن نحاول متابعة ذلك التطوّر، لنبدأ أولاً بمفهوم “التردّي” الذي يقترحه العنوان. يحيلنا هذا المفهوم على مفهومات مماثلة استعملت تشخيصاً لمختلف الأحوال السلبية التي عرفها الواقع العربي، لعلّ أهمَّها مفهوما ”الأزمة“ و”الانحطاط“.
لا يستعمل العنوان المقترح هذين المفهومين، فلا هو يتحدّث عن أزمة الواقع العربي، ولا عن انحطاطه. لا يتعلّق الأمر، بطبيعة الحال، بمجرّد استبدال كلمات بأخرى. فالمفهومات، كما نعلم، تكشف عن منظورات معيّنة، وتعيّن مقاربات محدَّدة، بل إنها تندرج من ضمن نظرة بعينها للزمان التاريخي.
فمفهوم ”الانحطاط“، على سبيل المثال، لا يُوظَّف إلّا قياساً على فترة ذهبية مشرقة. ونحن نعلم أنه مفهوم استُخدِم من قبْل عند كثير من المستشرقين لتشخيص واقع الانسداد ankylose الذي عرفه المجتمع العربي الإسلامي بعد عصور ازدهاره، بهدف الوقوف عند أسباب ذلك الانسداد، كما استُخدِم فيما بعد مع مرادفاته عند المنظورات السلفية بمختلف أشكالها.
على عكس مفهوم ”الانحطاط“، الذي يتخذ الماضي مرجعية له، فإن مفهوم ”الأزمة“ يرتبط بزمانية تنشد إلى المستقبل. فعلى الرغم من الوجه السّلبي الذي تعرفه الأزمة، وإذا نحن استبعدنا ما يصحّ تسميته ”المفهوم القيامي للأزمة“، فإن الأزمات تُعتبَر دوماً فترات انتقال، وقنطرات عبور. صحيح أنها تشكّل خللاً واختلالاً، بل هزّة ورجّة، إلّا أنها سرعان ما تتدارك نفسها، وتستعيد توازنها. ثم إنها دوماً ”أزمات مستأنفة“، إذ هي بمثابة المرض للصحّة والتناتوس للإيروس.
إلى جانب هذا الانخطاف نحو المستقبل، فإن مفهوم الأزمة غالباً ما ينظر إلى الواقع نظرة تجزيئية، فيعتبر أنه قطاعات قد تعرف سلسلة أزمات جهوية تسري في أجزاء المنظومة الاجتماعية وتنخر نسيجها.
واضح أن مفهوم ”التردّي“ المقترح نعتاً للراهن العربي، يختلف أشدّ الاختلاف عن هذين المفهومين السابقين: فهو لا يحيل إلى ماضٍٍٍٍٍ مشرق، ولا إلى مستقبلٍ مفتوح، وإنما ينظر إلى الخلل على أنه واقع بنيوي وتفكّك للمكوّنات، لم يعد بإمكانه أن يقاس، لا على ما مضى، ولا على ما سيأتي.
ينطوي هذا المفهوم إذاً على مقاربة بنيوية تنظر إلى واقع الحال بعين اليأس التاريخي. وهو يعترف ضمناً أن الوضع لم يعد بإمكانه حتى أن يستغيث بماضيه الذهبي، مثلما يُقرّ بأن الخلل ليس أزمة يمكن تجاوزها. فكأنَّ هذا المفهوم ينفي عن الواقع كلّ حركية، وهو يكاد يعكس يأسا مطلقاً، وربما، لأجل ذلك، فهو أقرب تلك المفهومات إلى تشخيص الراهن العربي.
فهذا اليأس هو ما نلمسه بالضبط، إن نحن حاولنا متابعة تطوّر المفهومات التي عكست، وما زالت تعكس الآمال التي عُلّقت على مستقبل الواقع العربي، والخيبات المتواترة التي عرفتها الأجيال التي توالت منذ عهود الاستعمار. فقد كان على تلك الأجيال أن تُقلّص من طموحاتها شيئاً فشيئاً تماشياً مع تقلّبات الأحوال.
نلمس ذلك على الخصوص عند الجيل العربي الذي فتح أعينه على الاستعمار، فقد كان هذا الجيل جيل التنازلات بلا منازع، وقد كانت تنازلاته عن الأحلام أكثر ممّا كانت تنازلات عن المبادئ. فهو لم يفتأ ”يتقبَّل“ التقلّبات التي عرفها طيلة حياته.
وقد حاول جهد الإمكان أن ”يتفهّمـها“، فعمل ما استطاع على تقليص مطامحه، وتعديل جهازه المفهومي، وتنقيح قاموسه السياسي. فإن كان بعد الاستقلالات قد تغنَّى بمفهومات الرفض والثورة والتغيير والقطيعة، فإنه قَبِل أن يستعيض عنها فيما بعد، بمفهومات أكثر اعتدالاً، فأخذ يتحدّث عن التوازن والحوار والوفاق والتفاوض والتفهّم. إن كان في وقت مضى قد نشد مجتمعاً عادلاً تحكمه المساواة، فقد استعاض عنه في وقت لاحق بمجتمع أقلّ ظلماً وفقراً ومرضاً. إن كان في وقت سابق قد اعتبر أن التحديث لا يمكن أن يكون إلّا انفصالاً عن التقليد، وأن التجديد لا يمكن أن يكون إلّا ”تبدّلاً بالجملة“، فإنه غدا يطالب بجملة من التبديلات لا تطال بالضرورة الكلّ، ولا تلحق الأسس، محاولاً أن يُقنع نفسه أن الأمر يتعدّاه، وأنه يعود إلى ”أزمات كونية“ لا يملك الجميع أمامها حيلة ولا قوّة.
ولعلّ ما عرفه كثير من البلدان العربية من انتفاضات لم يكن إلّا تمرّداً على هذا الحدّ من أفق الأحلام، وهذا التضييق من سعة المطامح، وهذا التكييف المتواتر للجهاز المفهومي، وهذا التنقيح للقاموس السياسي. كانت تلك الحركات محاولة لفتح الانسداد الذي سجن الواقع العربي داخل أفق مغلق، وقد قادها شباب من طينة جديدة يعرفها العصر: شباب البطالة المتعلّمة. وهم ”شباب“ من غير مشروع، ولا ارتباط: فهم لا يرتبطون عقائدياً ولا قومياً، بل ربما حتى حزبياً. ما كان يوحّدهم هو شعور التهميش القويّ وما يترتّب عنه من ”حُكرة“ على حدّ تعبير الشعار الجزائري.
من الصعب، والحالة هذه، الحديث هنا عن دفاع عن حقوق. هذا ما جعل البعض يمتنع أن يقرن هذه الحركات بأيّ هوَس ليبرالي يسعى لحماية ”حقوق المواطن“، وبالتالي أن ينساق وراء ربط هذه الانتفاضات بأمّ الثورات، وأعني الثورة الفرنسية. فكأنما هي حركات بلا مضمون إيديولوجي، ولكن أيضاً بلا زعامات. لم نسمع قط بأحدهم يقول إنه قاد الانتفاضات.
لعلّ ذلك هو ما مكّن الميادين العربية من أن تضمّ في الوقت نفسه، وخلال أيام متعاقبة، فئات من مشارب مختلفة، وأحزاب متعارضة، بل وديانات متباينة. ذلك أن الانتفاضات تجاوزت الفروق والتدرّجات المعهودة، فكانت فوق الزعامات وفوق الأحزاب والتكتلات والتشيّعات، ربما من أجل ذلك لم تُحِلْ على نماذج، ولم تَرفعْ صور قيادات. فكأنها كانت انتفاضات من غير مثل أعلى. حتى الرمزيات المعتمَدة لم تكن هي الرمزيات المعهودة، أي تلك التي كرّسها الوعي الوطني والقومي فيما قبل، والتي انتصبت أمام آخَرٍ مُحدَّدٍ، سُمّي الاستعمار في وقت، ثم الصهيونية فالإمبريالية فالتخلّف فالتقليد.
هذا الغياب للرمزيات والتجريدات، وهذا الالتصاق بالواقع الفعلي ربما كان يعود أساساً إلى طبيعة ”الوحدة“ التي كانت من وراء اللقاءات في الميادين ولتقنيات التواصل التي اعتُمدت في خلقها. وهي كما نعلم لم تكن منشورات وُزّعت، ولا اجتماعات عُقِدت، ولا خلايا شُكّلت، وإنما لقاءات عبر الشبكة يسَّرتها تقنيات التواصل الجديدة، وسمحت بها المواقع الاجتماعية عبر الإنترنت.
هي إذاً علائق من طينة جديدة، ليست بالضبط تشيّعاً إيديولوجياً، أو تضامناً طبقيّاً، وإنما علائق أصبحت تسمح بها الثورة المعلوماتية، لا تخضع لمنطق تمركز الفضاءات المعهود، ولا لأقطاب القرار المألوفة. فمقابل الطابع العمودي الذي كان يسم التدرّجات والعلائق التقليدية، وجدنا أنفسنا أمام علائق أفقية، غالباً ما تتخطّى الحدود الاجتماعية والوطنية.
غير أن تطوّر الأمور في كثير من البلدان العربية، أوضح أن الانتفاضات لم تُوفّق كثيراً في فتح الآفاق وفكّ الانسداد، ولعلّ مردّ ذلك كونها اقتصرت على التوجّه ضدّ السلطة أو الحزب أو الجماعة الحاكمة فحسب، ولم تقم ضدّ العلائق الاجتماعية والعوائد الأخلاقية والأساليب الفكرية والقيم الثقافية، ممّا من شأنه أن يمكّنها من أن تعيد النظر في مفهومات الإنسان والمجتمع والفكر والتاريخ. إذ إن الأمر لم يكن ليتوقّف فحسب على استبدال أنظمة، وإنما أيضاً، وربما أساساً على تغيير ذهنيات.
لذا فسرعان ما كانت أهداف الانتفاضات عرضة، في أغلب الأحيان، لمقاومة قوى المحافظة والتقليد، وهيمنة الفكر الوثوقي الذي ينطوي بطبيعته على آلية توحيدية ترفض كلّ تعدّد للآراء واختلاف للمواقف، ممّا يدفعها إلى أن تُدخل كلّ الأمور في دائرتها، فتجبرها على الخضوع لمنطقها، مع ما يقتضيه ذلك من آلية إكراهية سرعان ما تحوّلت إلى توتاليتارية فكرية وجدت تطبيقها في حركات عنيفة نفت، في معظم البلدان العربية، كلّ ما قامت من أجله الانتفاضات، بل أسهمت في زيادة انسداد الآفاق وتردّي الواقع.
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق