في الحادية عشْرة صباحَ 25 حزيران 1941 كان طفلٌ في الرابعة يمشي حَـدّ والده مدير محطة الإِرسال في خلدة حيث منزلُه وقدَّامه حديقة غنيّة بالشجر المثْمر، مغادراً البيتَ في نزهةٍ على شاطئ خلدة الرملي في نهار مشمس ذي رؤْية ساطعةٍ واضحة.
فجأَةً رأَى الطفلُ غواصةً تنبجس على وجه الماء في البحر فاندهش وصرخ لوالده: “أُنظُرْ، هذه سفينةٌ تطْلع من قلب البحر”، انتبَه الوالد فأَجاب طفله: “هذه ليست سفينةً يا حبيبي. هذه غوّاصةٌ تَطوف على وجه الماء وَوُجْهَتُها رأْس بيروت”.
وتأَمَّلها الوالد فرأَى على مقدّمة هيكلها الطويل عَلَماً بالأَلوان الثلاثة الأَزرق والأَبيض والأَحمر، وعلى سطحها أَربعةُ بحّارةٍ أَحدُهُم يعتمر قبّعة ويدقِّق بالمنظار صوب عُرض البحر. اندهش الطفل لـمرأَى المدفع على متْنها ولفَت إِليه والدَه الذي أَجاب: “نعم، هذه غوّاصة فرنسية”. وما كاد يُكمل عبارتَه حتى دوّى انفجار هائل تبِعَتْه فوراً شعلةُ نار هائلة عن يسار الغواصة قَصَمَتْها قطعتَين وغَرِقَت الغواصة في ثوانٍ إِلى قعر البحر تاركةً بحّارتها يُحاولُون النجاة سباحةً إِلى رمال شاطئ خلدة. حملَ الوالدُ فوراً طفلَه وهرعَ به إِلى البيت القريب وأَخذَ يُجري اتصالاتٍ لهيفةً لم يفهَم منها الطفل سوى أَن نَسِيفةً أَصابت الغواصة وأَغرقتْها فوراً.
تلك الليلة نام الطفل حزيناً لا على الغواصة بل على بحّارتها الذين لم يعرف مصيرَهم. غير أَنه ليلتَها نامَ على حلم كبير.
لم يعرف ذاك الطفل أَنه بعد سنواتٍ سيكون له أَن يحقّق حلمَه ويصبحَ بحّاراً هو الآخر يترقّى حتى يصبح قائد بَحْريّة لبنان. قبلذاك، حين تخرّج من المدرسة الحربية البحرية في ﭘـورْكِرول (Porquerolles)، طلب أَن تكون فترةُ تَدَرُّبه لدى المرفإِ الحربي في تولون. وهناك وقف أَمام رئيس القسم الذي سأَله: “أَنت لبنانـيّ”؟ أَجاب: “نعم سيّدي”، قال القائد: “والِدي مات في لبنان”. سأَله الطالبُ اللبناني: “وما كان يَعملُ والدُك في لبنان؟”، أَجاب القائد: “كان قائدَ غوّاصة غَرِقَت في بيروت”، فعاد الطالبُ البحريّ إِلى طفولته وإِلى ذاك النهار الذي شهِدَ فيه الحادثة، وأَجاب قائده: “إِذاً والدُك كان قائدَ الغوّاصة سوفلور (Souffleur)”.
هكذا روى قصتَه قائدُ البحرية اللبنانية الأَميرال منير رحيِّم للأَميرال سمير الخادم الذي بها افتتح كتابه:
“لبنان تحت الانتداب الفرنسي: قصة الغوّاصة “سوفلور” (Souffleur) بيروت: حزيران-تموز 1941″،
“Le Liban sous mandat français : Le sous-marin Souffleur – Beyrouth, Juin-Juillet 1941”
وهو كتابٌ توثيقيٌّ صدر بالفرنسية قبل أَسابيع في 288 صفحة قطعاً كبيراً عن منشورات “المؤسسة العربية لدراسات الشرق والغرب”. أَهداه المؤَلّف “إِلى أَهل بيروت وإِلى البحّارة الذين ماتوا من أَجل فرنسا”.وروى فيه استشهادَ القائد البحري الفرنسي لوجاي Lejay وبحّارته بنَسيفةٍ قاتلةٍ من غوّاصة بريطانية كانت تطارد الجيش الفرنسي بقيادة ڤـيشي انتصاراً لجيش فرنسا الحرة بقيادة شارل ديغول.
وبسَردٍ تاريخيٍّ مفصَّلٍ دقيقٍ، يروي الأَميرال سمير الخادم وقائعَ ما جرى على شاطئ بيروت في شهرَين بين أَوّل حزيران وآخر تموز 1941، وكيف تَعرَّف بالتقنيّ البحري محمد جيـباوي الذي كان مُولجاً بتصليح الأَعطال الكهربائية على متن الغواصة “سوفلور” (Souffleur) فروى للمؤَلّف ما كان يَجهلُه عن تلك الغوّاصة التاعسة قبل أَن تَلْقى مصيرها الفاجع على شاطئ خلدة من بيروت.
ولا تزالُ بقايا الغوّاصة حتى اليوم على نحو 4 كلم من شاطئ خلدة في عُمق 48 متراً مشطورةً قطعتَين كبيرتَين، في داخلِها هياكلُ عظميةٌ لبحّارتها الذي غرقوا معها في الانفجار، ولا تزال، وهي غارقةٌ في بحر بيروت، مُلْك البحرية الفرنسية.
كتاب الأَميرال الدكتور سمير الخادم مرجعٌ لبناني رئيس، موثَّقٌ بالنصوص والصُوَر والوثائق عن تلك الحقْبة من الانتداب الفرنسي، سيبقى في مكتباتنا أَثَراً لإِرثٍ نابضٍ من تاريخنا اللبناني الحديث.