د. عبدالله بوحبيب
يأتي كتاب «حزب الله والدولة في لبنان» لمؤلفه النائب الدكتور حسن فضل الله، في زمن التغيرات العربية، وفي زمن تنتشر فيه ظواهر التشدد المنبثق من بيئات إسلامية، وتُرسَم، في الغرب والشرق، علاماتُ استفهامٍ حول الحركات الدينية الإسلامية وطبيعة علاقة الإسلام بالدولة غير الإسلامية.
في هذا الكتاب، يُبين الكاتب، كيف وفّق «حزبُ الله بين الهوية الدينية والوطنية في بلد مثل لبنان» ليقدمَ نموذجاً مختلفاً للممارسة السياسية عن الحركات الإسلامية الأخرى وعلاقتها بالوطن. ولا شكّ أنَّ هذا التجدد والتقدّم، يعكس صلابة النموذج اللبناني الضعيف البنية والمشرذم والذي فرض على كل المكونات والقوى اللبنانية التفاعل في ما بينها، ليصنع التجربة اللبنانية في العيش المشترك وليصبح مثالا يقتدى به في المنطقة.
يعرض الكتاب للتفاعل بين فكر حزب الله الديني، المتمسك بفكرة الدولة الإسلامية، وبين لبنان مجتمعاً ودولة. فاستناداً إلى الفكر الديني الذي يحمله حزب الله ببعده الشيعي، وإيمانه بـ»ولاية الفقيه»، أظهر الدكتور فضل الله الاتجاهات والأفكار التي تشدد على الانتماء إلى الوطن والتمسك بفكرة الدولة ولو كانت لا تطبق الشرع الإسلامي أو لا يرأسها حاكم مسلم. وتتعزز الحاجة إلى دولة جامعة في مجتمع متنوع طائفياً ومذهبياً وإثنيا، فتتراجع كثيراً عندها إمكانية إقامة دولة إسلامية، ومن ثم الحاجة إلى التكيف مع «متطلبات هذا المجتمع» بما يعود بالنفع على الجميع.
من فكرة التصالح بين الاتجاه الديني العام الذي تحدده المرجعية الشيعية التي يمارسها حزب الله، وبين واقع المجتمع اللبناني المتنوع ومراعاة خصائصه، ولد عند حزب الله اقتناع بالقبول بالدولة اللبنانية والتراجع عن فكرة فرض الدولة الإسلامية، وصولاً إلى المشاركة في مؤسساتها السياسية.. إن عرض فضل الله فيه ما يبحث عنه المتسائلون عن صدقية موقف حزب الله ومدى انطلاقه من ركائز دينية فكرية ثابتة، تجاه العيش المشترك وفكرة الدولة والمواطنة، وقبوله بالتعددية والتنوع في موازاة تمسكه بإيمانه الديني وأحكامه الفقهية والشرعية الإسلامية.
ومن الركائز الدينية للموقف من الدولة، انطلق الكاتب إلى تقديم قراءة تاريخية وسياسية لعلاقة الشيعة عموماً، وحزب الله خصوصاً، مع الدولة اللبنانية، إذ يضيء على الموقف الشيعي المتحفظ على قيام دولة لبنان الكبير في ظل تمسكهم بالوحدة العربية، برغم الظلم الذي واجهته الطائفة من السلطنة العثمانية. ويعدد الكتاب سلسلة من العوامل التي اعتُبرت أنها عمقت الهوة بين الشيعة اللبنانيين والكيان الناشئ منذ تأسيسه وحتى مطلع حرب ١٩٧٥، وهي التمييز الاقتصادي والاجتماعي وما عرف بمصطلح «الحرمان»، التهميش في السلطة وإدارات الدولة، وعدم القدرة على الدفاع عن ارض الجنوب وشعبه في وجه الاعتداءات الإسرائيلية.
ولا شكَّ بأن هذه الأسباب هي عوامل مؤثرة في صناعة الموقف الشيعي من الدولة، لكن الكاتب تجاهل مسؤولية المنظمات الفلسطينية المسلحة والقوى الإسلامية واليسارية التي ساندتهم في دفع البلد إلى ما وصل إليه، خاصة تجاوزاتهم المفرطة غير المبررة في الجنوب اللبناني منذ أواخر الستينيات، ورضوخ أهل الجنوب لسطوة هذه المنظمات التي شارك بعضهم فيها ودافع عنها، قبل أن تبدأ بوادر الصدام بين حركة «أمل» والمنظمات الفلسطينية في أواخر السبعينيات.
كذلك، لم يشِر الكاتب إلى اتفاق القاهرة عام 1969 الذي شرّع للمنظمات الفلسطينية احتلالها للجنوب بضغوط إسلامية ويسارية وعربية، وسمح للعمل المسلح باستباحة الجنوب وممارسة السَطوة على أهله وإنهاء سيادة الدولة اللبنانية. فسيادة الدولة في الجنوب لم تسقط بفعل ممارسات السلطة القائمة آنذاك، بل سقطت كلياً نتيجة قرار بعض الداخل ومعظم العرب بنقل الصراع مع إسرائيل إلى جنوب لبنان وانتهاك السيادة وبالتالي تقويض أسس الدولة.
تحكمت منذ أوائل التسعينيات بحركة حزب الله مبادئ رئيسية عدة، كما ذكر الكاتب، ومنها، التركيز على المقاومة العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي، والقبول بتبريرات أهل السلطة، السوريين منهم واللبنانيين، بعدم المشاركة في السلطة السياسية، واستطراداً الاكتفاء بخلاف سياسي مع التركيبة السورية ــ اللبنانية التي كانت تدير شؤون البلد من 1990 إلى أوائل 2005، مكتفياً بالاستفادة من تشريع دوره في البيانات الوزارية المتعاقبة ومن العلاقة الثابتة مع الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي أمسك بملف الصراع مع إسرائيل.
يتوقف الكتاب عند تجربة «التحالف الرباعي» في الانتخابات النيابية عام 2005، على حساب مشاركة فاعلة للمسيحيين، وهنا يمكن الاستنتاج، بأن حزب الله لم يمد يده إلى الفريق الأقوى في الساحة المسيحية، إلا بعد أن تبين له أن «التحالف الرباعي» هدف إلى احتواء الحزب، فقامت الخلافات ضمن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بعد أشهر قليلة من تشكيلها، وأدت إلى انفراط عقد التحالف واستقالة الوزراء الشيعة مع الوزير يعقوب الصراف. إن هذه التجربة التي آل إليها مصير حكومة «التحالف الرباعي»، أثبتت، باعتقادي، أن تطبيق التعددية في لبنان من دون المكون المسيحي الفاعل، سوف يؤدي إلى صدام حتمي بين المكونات الأخرى.
وبعد الخلاصات التي يطرحها الكاتب حول أهمية بناء الدولة الوطنية الجامعة، السؤال هو عن استنكاف الحزب وابتعاده عن المشاركة الفعلية في الدولة؟
إن استمرار تمثيل الحزب بالحد الأدنى المتمثل بحقائب غير مؤثرة او مهمة في مجلس الوزراء، لن يبني الدولة الجامعة وهي مسؤولية الجميع.
إن ابتعاد أي طرف عن المساهمة في بناء الدولة، وتحمل السلبيات كما الإيجابيات، يسهم في تقويض الدولة ولا يبنيها. وبالتالي، لا يمكن الاستمرار في توجيه السهام إلى الدولة وانتقادها، ما دام حزب الله لا يعتبر بناء الدولة وإصلاحها مسألة أساسية في نهجه وتفكيره، ومحورية كما محورية المقاومة. وفي اعتقادنا، لا مقاومة حقيقية وسليمة من دون دولة فاعلة وناجحة في أداء وظائفها الحيوية.
*****
(*) مداخلة قدمها رئيس «مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية» د.عبدالله بوحبيب في اطار ندوة حول كتاب «حزب الله والدولة» ضمن فعاليات معرض بيروت العربي والدولي للكتاب في البيال.
****
جريدة السفير 6 ديسمبر 2014