لمناسبة الذكرى السنوية الثامنة لرحيل الشاعر والأديب العالمي جودت رستم حيدر (1905 – 2006)، نظّمت مكتبة الإسكندرية التابعة لمركز دراسات الإسكندرية وحضارة البحر المتوسط بالتعاون مع جمعية أصدقاء جودت حيدر، احتفالاً تكريمياً في قاعة الأوديتوريوم بمكتبة الاسكندرية، وذلك بحضور سفراء وقناصل عرب وأدباء وشعراء ومثقفين وحشد من متذوقي الشعر والأدب وعائلة المحتفى به.
سابق عصره
أُفتتح الحفل بالنشيدين الوطنيين المصري واللبناني، ثم رحّبت مديرة المركز الدكتورة سحر حمودة بالحضور، موضحةَ ان مكتبة الاسكندرية تكرّم جودت حيدر لأنه كان شاعراً يسبق عصره وذا رؤية تتخطى حواجز الزمان والمكان وتحلّق في السماء.
ثم تم عرض فيلم وثائقي عن مراحل حياة جودت حيدر من إعداد الدكتور جوزيف الشمالي (أستاذ في الجامعة اللبنانية، وأستاذ الفنون البصرية والسمعية في جامعة الروح القدس بالكسليك)، الذي اوضح انه حاول من خلال الصورة والصوت أن يعبّر عن فكره وشعره، والكلام عن أمير من أمراء الشعر لا يفي جميله علينا.
“نسر عبقريّ الجناح”
وتحدث خلال الاحتفال محافظ البقاع سابقاً وأستاذ علم الحقوق في الجامعة اللبنانية الدكتور دياب يونس، حيث قدم كلمة تحت عنوان “غلبتَ الموتَ بما لا يموت”، مستشهداً بكتابات جودت حيدر، ثم قال: “مرحباً اسكندرية، ها وكرُ النسور لبنان يهدي اليوم، إلى آفاقك نسراً عبقريّ الجناح، لبنانيّ الجوارح، مشرقي النبرات، عالمي الهموم، انكليزي اللسان”.
وأضاف، مضى جودت حيدر، يحمل لبنانه وعروبته ومشرقيته في دمه وروحه وقلبه واللسان، ويرتّل بنبرات النبيّين رُؤىً كونية.
“الشعراء الفلاسفة”
واعتبر الدكتور حسن طلب (استاذ الفلسفة في جامعة حلوان، ونائب رئيس تحرير مجلة “الابداع” سابقاً) ان جودت حيدر من “الشعراء الفلاسفة”، لأن من يقرأ قصائده بالانكليزية يحسّ أنه أمام شاعر يخاطب الضمير الإنساني.
وأضاف: قصائد حيدر يتوحّد فيها مع الطبيعة، ويحس أن الانسان جزء من الطبيعة وعليه أن يعي ذلك جيداً كي يستطيع أن يكون خادماً للطبيعة وهي كذلك تكون خادمةً له، وليس من الغريب أن نجده أول من تحدث عن التلوث الذي نعاني منه الآن.
نشاط وجودي
ثم تحدّث الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، الذي قال ان الشعر لم يكن بالنسبة إلى جودت حيدر مجرد صنعة أو موهبة، ولا مجرد هواية أو زينة، بل كان نشاطاً وجودياً يمارسه بعمق وتطهّر كأنه يؤدي طقساً شاعرياً، وأن جودت حيدر ظلّ قادراً على مواصلة الحياة بعد أن تجاوز المئة.
وشاركت الفنانة سحر طه في الاحتفال حيث قدمت مقتطفات من قصائد للشاعر جودت حيدر من ألحانها، وقالت: “لي الشرف الكبير أن أشارك في تكريم شاعر عالمي كبير، وأنا لا أكرمه بل هو تكريم لي ولصوتي أن اغني هذا الشاعر العظيم”.
شاعر الفصول الأربعة
يُعد الراحل الكبير “شاعر الفصول الأربعة” لتنوع أدبه بين الوجداني والوطني والروحاني والاجتماعي، إضافة الى أنه كتب باللغة الانكليزية كأهم الشعراء الانكليز، فهو الشاعر المثقف، والتربوي المتمرس، وقد تجلّت قيمه الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية في شعره، حيث كتب قصيدة باللغة الإنكليزية بطريقة مبدعة ما جعل صحيفة “نيويورك تايمز” تصفه بالمميز.
وحيدر من مواليد بعلبك 1905، مدينة الشمس والحرف والفنون. بدأت رحلة عذابه منذ طفولته عندما قام الأتراك بإبعاد والده وإخوته إلى الأناضول.. وبعد دراسته الابتدائية والثانوية في لبنان، تحقّق حلمه بالسفر إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث درس مادة التربية والتعليم لأربع سنوات في جامعة نورث تكساس، وأمضى بعدها قسماً من حياته متنقلاً في عدد من بلاد الاغتراب، عاد على إثرها ليمضي أفضل أيام حياته بين لبنان وفلسطين والعراق، قبل الإستقرار في مسقط رأسه في بعلبك، حيث انكب على الزراعة والكتابة والتأليف، واضعا العديد من دواوينه الشعرية باللغتين العربية والإنكليزية.
درس في الجامعة الأميركية في بيروت 1924، وفي ليون فرنسا 1925، وتكساس (الولايات المتحدة 1927)، وتخرّج متخصصا في التربية والتعليم. ادار “الجامعة الوطنية” (عاليه 1928) وكلية النجاح (نابلس 1930)، ثم التحق بشركة النفط العراقية (1932 ـ 1960) وبلغ منصب مستشار الصناعة للشرق الاوسط.
مؤلفات وأوسمة
بعد تقاعده انصرف الى التأليف فاصدر ثلاث مجموعات شعرية بالانكليزية: “أصوات” (1980)، “أصداء” (1988)، “ظلال” (1998)، وتصدر قريبا مجموعته الرابعة “زمن”. وفي العربية صدر عنه “جودت حيدر: مشوار العمر” وفي عام 2006 نشر بديوانه الأخير الذي جاء تحت عنوان “مئة قصيدة وقصيدة مختارة”، على عدد سنين عمره.
يحمل وسام الاستحقاق اللبناني المذهب (1951)، ووسام الكسندر الثالث بطريرك سورية وسائر المشرق للروم الارثوذكس (1954)، ووسام كرياكوس السادس بابا الاقباط (1955)، ووسام الصليب برتبة ضابط اكبر من الدولة الفرنسية (1957)، ووسام البابا يوحنا الثالث والعشرين (1959)، ووسام الكرسي الاورشليمي (1959)، ووسام الكرسي الاسقفي في القدس (1959)، وليوم تكريمه منحه الرئيس السابق وسام الاستحقاق من رتبة ضابط.
على أجنحة الشِّعْر
سافر جودت حيدر على أجنحة الشِّعْر، وعلى رَندحات موسيقى، وأنغام رباب بعلبكيّةَ لبنانيّةَ، واهتم بالقضايا العربية كالقضية الفلسطينية التي كانت تؤرقه دوما، فعبّر في بعض قصائده عن ألَمِه حيال ما كان يجري على الأرض الفلسطينية من انتهاكات لحقوق الإنسان. كما آلمته الحرب في لبنان، فعبّر عن أسفه وحزنه العميقين وكتب قصيدة للمقاومة اللبنانية. كما كتب في موضوعي الموت والاغتراب. فالموت كان هاجسه. وكانت الوجدانيات تحتل المساحة الأكبر والاهم في شعره.
وصفه البعض بأنه الاسم العصي على الآلام والمحن، والطود الشامخ الحي النابض بعراقة لبنان ورسوخه، المنفطر على التنوع الديني وتعدده السياسي والثقافي، الذي قهر الزمن بقدر ماقهره، الطفل الذي عاند المستعمر بإرادته وصلابته على الرغم من إبعاد أهله عنه، وموت والدته وهو مازال طفلاً في الثامنة من عمره. ومع كونه عربيا متمسكا بلغته العربية إلا أنه تميز في أن ينقل صورة وطنه ووجعه وألمه من خلال كتابته تجربته الشعرية باللغة الإنكليزية.
عاش مئة عام وعام، أحب خلالها الحياة كحبه لكريماته الست، وزوجته وابنه، اللذين أفجعه بهما القضاء والقدر.
“شكسبير العرب”
لقّب حيدر بـ “شكسبير العرب”، وذلك لتميز شعره واعتباره من الشعر العالمي، حيث يتقاطع إرثه الثقافي اللبناني مع الإرث الثقافي الأميركي، في شعر غير عادي، فقد كان شاعراً أصيلاً في دنيا الشعر الإنكليزي ، ومفكّراً كبيراً، ونموذجاً فذاً من نماذج العبقرية اللبنانية.
ترك لنا ديوانه الأول”أصوات”، الذي تشعر عندما تقرأه وكأنه يروي لك قصة حياته، ومن ثم “أصداء” عنوان ديوانه الثاني، و”الظلال” عنوان ديوانه الثالث، ومن ثم وداعه أرض الوطن بديوانه الأخير، الذي جاء تحت عنوان” مئة قصيدة وقصيدة مختارة”.
وقد ودعنا بقصيدة لا تشبهها قصائد، وضع فيها فلسفة الحياة والكون كلها، قائلاً: “هنا تنشّق يا صاحبي رياح الشّباب، وانس الكهولة والعذاب، واذكر صهيل الخيل وهمس العذارى وحنين الأحباب، وعند الوداع قف بشجاعة قبل الغروب، واستغفر الله عند الغياب”.
الصابر على الصبر
“كان قدوة لنا لننتصر على الالم الكبير، وكان يضعنا في عالم آخر ارقى بكثير من الواقع، عالم من الصبر والقبول والانتصار على المصاعب”، كلمات خرجت من قلب كريمته السيدة شاهينة حيدر عسيران، في معرض حديثها عن والدها، قبل أن تضيف: “انقلبت حياتنا بعد وفاة والدتي، ثم أخي الوحيد، فعانى ابي كثيرا، إلا ان ايمانه جعله اقوى من المصاعب وتحدى الألم بصبره، حتى ان اولى كتاباته بالعربية ابدعها بعد وفاة شقيقي، وقد قال عن الصبر:
“صبرت وشربت الصبر/وانا صابر في حديقة الصبر/من اتاني يراني كالزمان/صابرا على صبري”.
واشارت عسيران الى انه لقّب بـ”أمير شعراء العرب”، وقالت: عاصر الاحداث وكتب بشمولية وبمواضيع عدة تؤثر بالجيل الصاعد وتتحدث عن امنياتهم، وكان مدرسة لنا بوطنيته واخلاصه وثقافته الواسعة وشخصيته المرنة.
وعن اعادة تمثال خليل مطران الى بعلبك قالت: “اعاد تمثال مطران الى مكانه لتعزيز فكرة التعايش الوطني، فالحرب ادمت قلبه، وسعى كثيرا لاعادة شمل الجميع”. وختمت: “انطلق من نفسية الانسان اللبناني الى العربي والغربي ليصل الى جوهره، فكان عالميا بكل ما للكلمة من معنى”.
النظرة الكونية
من جهته، قال الدكتور دياب يونس: “تعرفت عليه في أواخر 1980 واجتمعت به عدة مرات، وحادثته في قضايا وطنية وشعرية، ونظرته إلى الشعر والأدب، وكان مثال الرجل العميق والواسع الثقافة وصاحب النظرة الكونية إلى الإنسان”.
اضاف: “عندما نتحدث عن الكتّاب والأدباء باللغة الإنكليزية مباشرة، يحضر للذهن 3 كبار من الرابطة القلمية: جبران، نعيمة وأمين الريحاني، إلا ان حيدر يتميز عنهم بإعتباره الوحيد الذي كتب الشعر المقفى باللغة الإنكليزية، فعنده الشعر الحر وعنده الشعر الخاص به الذي لا ينحصر فقط في العروض، فالفكرة عميقة وإيقاعها غني، الى جانب ارتباطها بقواعد الشعر الكلاسيكية وأشكال جديدة من الشعر… “. وختم: “انه رجل متقدم على عصرنا وزماننا، وهذا ما أجمعت عليه الآراء والدراسات، كما كان فكره يتميز بشمولية الرؤيا والرؤية، وهمه احترام كرامة الإنسان، الى جانب الخواطر والتأملات بالموت والحياة”.
عبير المغامرة
الدكتور جوزيف الشمالي، قال: كان جودت حيدر طائر الأرض وطائر البحر، انشدهما، على مدى ترحاله في الارض… من الأولى تعلم الوفاء والكرم وعرفان الجميل، ومن البحر استوحى والأصالة ورحابة الصدر…
مذاق السفر ورائحة البحر لم يبرحا شعره، للذته بعبير المغامرة وحس الترحال، والان وصل ترحاله الى ارقى مكتبة في العالم لتكريمه، فهنيئا للمكتبة به…
كلام الصور
1- جودت حيدر يوم تخرجه وفي مطلع شبابه
2- د. سحر حمودة
3- د. دياب يونس
4- د. حسن طلب
5- الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي
6- الفنانة سحر طه
7- كريمة جودت حيدر شاهينة حيدر عسيران
8- د. جوزيف الشمالي
*******
بالاشتراك مع aleph-lam
www.georgetraboulsi.wordpress.com