الشاعر هنري زغيب
ضربَت لبنان في الأَيام الماضية عاصفةُ فقدانٍ خسِرَ بها ثلاثةً من أَعلامه أَدَباً وفناً: الشاعر جورج جرداق قبل أُسبوعين، والأُسبوع الماضي الشاعر سعيد عقل والمغنّية صباح.
لا أُريدُ هنا أَن أُعيدَ ما قلتُه في ثلاثتهم عند حصول الوفاة، بل أَن أَتوقّف عند ظاهرتَين:
الأُولى: ما قاله معلّقون ومريدون وأَصدقاء وزملاء ومحلّلون، أَغدقوا على الغائبِين “أَكبر” النعوت و”أَعظم” الصفات و”أَكثر” المدائح، حتى لم تعُد “أَفعلُ تفضيل” في اللغة إِلا وجَدَت على أَلسنتهم وأَقلامهم تكراراً واستهلاكاً لكلام فضفاض مجاني يقولونه هنا وهناك ويستعملونه لهذا وتلك وهذاك، حتى فرغَ الكلام من مضمونه ولم يعُد صالحاً للتقدير بل انقلب عكسَه، كأَن موسم الحكي يزدهر عند غيابِ كبيرٍ فيتمطّى كثيرون ليجِدوا في غيابه فرصةً لهم كي يتهافتوا إِلى مسرح الكلام أَو ميكروفون التصاريح أَو كاميرا الإِدلاء، وفي هذا ما يؤْذي الغائب ولا ينفع الـمُدْلين. فليتركوا الغائبَ يرقد بسلام، وليودِّعوه بالصلاة إِن كان مؤْمناً، وبالصمت إِن لم يكن.
الظاهرة الأُخرى: التنطُّح لأَحداث وأَحاديث وإِحداثيات في حياة الغائب، باسترجاع رأْيٍ قاله أَو موقف اتّخذه أَو سلوك خاص اعتمدَه في حياته الشخصية. وهذه خصيصةٌ تُمسي بلا قيمةٍ عندما يرحل الـمعنيُّ إِلى الغياب الأَخير فتغيبُ معه مواقفُه وسلوكياتُه ولا يبقى سوى نتاجِه وما تركَ بعدَه من أَثَرٍ مهنيٍّ أَو إِبداعيّ. لذا لا قيمةَ لكلّ ما طالَ جورج جرداق من تُهَمِ خصوماتٍ أَو حِدَّةِ سخريةٍ، وما طالَ حياةَ صباح الشخصية والعائلية، وما طالَ مواقفَ سعيد عقل في ما خلا الشعر والأَدب والفكر اللبناني.
غريبٌ كيف تكشف المواقفُ الدقيقة غربان الجثث يَحُومون حول الغائب بأَنيابهم السامّة، فيما السكونُ هو الواجب، والسكوتُ هو اللائق في حُرمَة الغياب واحترام الغائب.
غريبٌ كيف تنشُبُ المبالغات في التعبير والتقدير والرثاء عند غيابِ علَمٍ فـ”ينكسر غصن من الأَرز”، و”ينهار الجبل”، و”تُعتِّم الشمس” و”تبكي الصخور”، وفي هذه المبالغات موقف كاريكاتوريّ لا يليق مطلقاً بـهيبة الغائب.
الأَحرى والأَحلى والأَجدى والأَبقى: أَن نسعى عند غيابِ الغائب إِلى البحث في الحفاظ على إِرثه وحفْظ ذكراه لا بالحكي بل بالفعْل الذي يَخدُم بقاءَه بعد الغياب، حتى لا يكونَ غيابُهُ احتفالاً جنائزياً يُحيطه الحكي التبجيليّ بل احتفالاً تحضيرياً يُحيطه العمل الجاد على جعل إِرث الغائب يَـمتدُّ من جيل إِلى جيل.
لـهذا نَشعر اليومَ وكلَّ يومٍ أَنّ المبدعين الغائبين في العالم لا يزالون بيننا، لأَن تراثهم ما زال نابضاً في الذاكرة كأَمسٍ قريبٍ في حاضرٍ رصينٍ لـمستقبلٍ لن يُـقفِل المدى لأَنّ المدى مفتوحٌ على رصانة المسؤُولية في الحفْظ والحفاظ، بعيداً عن مـجّانيّة الكلام الفضفاض في التفجُّع الثرثار وإِغداق الكلام الذي، مهما بالغَ، لا يُفضي إِلى ديمومة البقاء.
******
(*) إذاعة صوت لبنان برنامج “نقطة على الحرف”