القسيس د. ادكار طرابلسي
إشكالية دور الإعلام في حمل رسالة بناء دولة المواطن
نسمع العنوان: “الإعلام ورسالة بناء دولة المواطن”، فيذهب فكر البعض، ربما، في اتجاه الإعلام الرسمي، ذلك الاعلام الذي يجتهد في إقناع المواطنين بصوابيّة الحكّام وخياراتهم من دون أن يتمكّنَ يومًا من أن يشهد على صدق هؤلاء على أرض الواقع. بيد أن هذه السلوكية ليست حكراً على الإعلام الرسمي وحده بل تبنّاها أيضاً الإعلام الخاص كما سنرى ذلك لاحقًا.
ناقش الدكتور حسن الحسن، في عرضه لدور الإذاعة (الإعلام) في النظام الديمقراطي، ثلاثَ كلمات هي: التربية والدعاية والحرية. قال: “إن كل إذاعة (والمقصود هنا كلّ وسيلة إعلامية) ديمقراطية هي تسوية بين متطلبات التربية والدعاية والحرية، فإذا بلغت المثل الأعلى كانت تربوية، ولكنها إذا بالغت في تربويتها، تحوّلت إلى دعاية، وإذا هي تحوّلت إلى دعاية لم تعد بعد حرّة[1]“. ويناقش الدكتور الحسن الدور التربوي للإعلام الحزبي والرسمي الغارق في محاباته لحزب ما وقد استُخدم لتمويه عناصر المشكلة في المجتمع ولم يُساعد المستمِع في أن يعرف حقيقة الأوضاع أو في أن يناقشها بشكل حرّ بهدف تصحيحها.
تتبادر إلى ذهني، هنا، مطبوعات وكالة نوفوستي السوفياتيّة (سابقا) التي صوّرت لقارئها العيشة في السوفخوز والكولخوز وكأنها الحياة المثاليّة للفلاحين الذين ينعمون بخيرات الأرض فيما يُعانون من الفقر المدقع في الوقت الذي بات فيه الاتحاد السوفياتي نفسه على شفير الإنهيار. قام الإعلام السوفياتي يومها بدور مؤثّر وفاعل في حمل القرّاء على تفهّم الفكرة الشيوعيّة وفي اقناعهم بها. وهدفت الدعاية الشيوعية إلى صياغة الرأي العام واقناع الجماهير بصوابية سياسة الحزب، وانكبّت جاهدة على خلق الفضائح السياسية لإبراز فداحة المساوئ الاجتماعية والتحريض على مسببّيها.
ونجح كل من الاعلام الفاشي في ايطاليا والنازي في المانيا في تسيسس الناس وتجنيدهم لخدمة الحزب الحاكم. ورأى غوبلز مدير الدعاية عند هتلر أن “الدعاية السياسية هي فن ادخال شؤون الدولة في رؤوس الجماهير حتى يشعر بها جميع الناس شعورًا عميقًا[2]“. ويتورّط اليوم الإعلام المعاصر المملوك من رأس المال المتوحّش في سياسة التضليل الإعلامية عينها.
هل من دور للإعلام المعاصر في بناء دولة المواطن؟
لا بدّ، ونحن نناقش هذا الموضوع القيّم، من طرح بعض الأسئلة ومنها: كيف للإعلام أن يخلق وعيًا وطنيًّا ورأيًا عامًّا قويًّا من دون الانزلاق في التعمية عن أخطاء وخطايا السياسيّين والإداريّين والأجهزة والحكومات؟ هل يقدر الإعلام على الموازنة بين دوره في التوعية الوطنية ومحبّة الوطن من دون تمجيد القادة أو تأليههم ومن دون أن تنهار القِيَم الوطنيّة في أول فرصة يعرف فيها الشعب حقيقة حكّامه؟ كيف يحفظ الإعلام التوازن بين دوره في إعلاء فكرة الوطن والمواطن ودوره في فضح الممارسات الخاطئة للحكّام وفساد الإداريّين من دون تهديم فكرة المواطنة؟ وهل، يا ترى، ما زال يمكن الإعلام لَعِبَ دورٍ في دعم فكرة المواطنة والوطن في مناخ من تبدّل في دور الإعلام المعاصر ومن ولادة العولمة ومن ضمور العقائد الوطنيّة والإيديولوجيات السياسيّة؟
أطرح هذه الأسئلة وأنا أعلم أن الأجواء التي نشأت بعد ولادة “الأمّة الدولة” في مؤتمر وستفاليا (1648) وولادة الأمم المعاصرة المبنية على الأفكار المثالية التي أتت بها الثورة الفرنسية و”اعلان حقوق الانسان والمواطن” (1789) وبعدها الثورة الأميركية واعلان ميثاق الحقوق
(1791) ومن ثم الاعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، هي التي عبّدت الطريق أمام إعلام يقوم بدور كبير في خدمة الوطن كبيت والمواطن كإنسان وقد تعرّضت لنكسات كبيرة في عصر الحريّة والإعلام في القرن العشرين وما بعده؛ إلى أن بلغنا زمناً لم نعد نعرف فيه ما هو دور الإعلام حتى في العالم المتحضّر، إذ شرعت تستخدمه قوى خفيّة متخصّصة في غسل الأدمغة وتخدير الشعوب تدفع بالمتلقّين إلى هامش الانخراط الوطني لترميهم بعدها في قعر الأنانية الاستهلاكية من دون الاهتمام بوطن أو بمواطنية.
ضمور الخصوصيّة الوطنيّة في ظلّ العولمة
كتب الدكتور عبدالله بدران مقالاً حول “الإعلام وقِيَم المواطنة: الضرورات الملحّة والتحديات الواقعية” ذَكَرَ فيه أننا أمام مشكلة فهم لموضوع المواطنة التي “لطالما كانت قيمها أمرًا جامعًا بين فئات الناس وتياراتهم الموجودة في الوطن الواحد وعلى التراب نفسه، وهذا ما نشهده في بلدان عديدة، وفي الوقت نفسه لطالما حدثت صراعات ونشبت حروب نتيجة الفهم الخاطئ للمواطنة، والتشكيك بالولاء للأوطان، وتشتّت الولاءات والانتماءات بين الأعراق والتيارات المختلفة. كما أن مفهوم المواطنة كان مثار جدل بين الخبراء وصنّاع القرار ورجال الفكر والدين والمعنيين بموضوعات الهوية والولاء والانتماء[3]“.
وبالفعل، يشهد عالمنا اليوم تطوّرًا كبيرًا في عالم الاتصالات وتراجعًا كبيرًا في مفهوم المواطنة. ففي الوقت الذي تجتاحنا فيه أجهزة الهاتف الذكيّة ووسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت وتغطّي الكوكب الأقمار الاصطناعية فتقرُب المسافات وتختفي الحدود الوطنية وينتقل الإنسان المتلقّي لرسالة الإعلام إلى أقاصي الأرض أو بالأحرى تنتقل إليه أخبار آخر الدنيا لتصير جزءًا من مكانه وحياته واهتمامه. فكيف نحكي بعدُ عن مواطنة والتزام بقضايا وطن في الشكل الذي كنّا نحكيه في القرن الماضي، خاصة وإننا دخلنا عصر العولمة التي تمحي الخصوصيّة الوطنيّة؟ فيمرّر الاحتكار القوي لوسائل الإعلام ووكالات الأنباء الأجنبيّة الأخبار والتحليلات كما تراها تلك المؤسسات من دون أن تسمح للمتلقّي بأن يعرف الحقيقة. وهل يقدر أحد، على سبيل المثال، أن يستذكر الإعلام العالمي في نقله حرب يوغوسلافيا أو الحرب على العراق من وجهة نظر أهل البلاد ليعرف ما هي الحقيقة؟
في أجواء العولمة الإعلامية يتقلّص مفهوم السيادة والوطنية حول العالم فلا يعود الإنسان المتماهي مع ما يراه ويصله عبر وسائل الإعلام العالمية “الوحشة” بقدراتها يشعر بخصوصيّته الوطنيّة أو يبالي بها. قد تكون للفضاء المفتوح فوائد كثيرة مثل كسر أحادية الإعلام الرسمي والممسوك والمحلّي لخلق فضاءات واسعة يُبحر الإنسان فيها على أمواج المعرفة والثقافة والعلوم والمفاهيم الديمقراطية والسياسيّة من دون قيود، إلاّ أنه ساهم أيضًا في نقل عدوى ثورات دموية عبثية هدمت أوطانًا من دون تقديم أي بديل بنّاء.
لا يجب الاستخفاف بموضوع العولمة، فالشركات الأجنبية والممولون الأجانب يلجأون إلى شراء الأسهم والأصول في الشركات الإعلامية العربية والمحليّة، وتصبح لهم بالتالي الكلمة الفصل في تقرير ماذا نشاهد أو ماذا نقرأ. يقول بيار الضاهر في هذا الخصوص: “العولمة ليست كلامًا فارغًا أو أسطورة بل موجة عالمية جديدة وعلينا أن نجد مكانًا بها لنصبح جزءًا مؤثرًا وإلا فستُقرّر هي ما نشاهده. والهرب من العولمة ليس حلاً والإستسلام لها ليس حلاً بل الحل هو العوربة مقابل العولمة وذلك بالعودة إلى الجذور من دون أن يكون ذلك عودة إلى الوراء أو انعزالاً[4]“.
لا نقف في هذه المنطقة من العالم أمام هجمة العولمة كعدو وحيد يحارب مفهوم الوطن والمواطنة، فبلدان الشرق العربي، ومنها لبنان، تواجه انبعاث فكر ديني لا يؤمن بالوطن ولا بالمواطن أو بالمواطنية ويُعرّض أوطانه وإنسانه لتشتّت الولاءات وللتفتّت المجتمعي وللتدمير الحضاري والوطني. ويسهل، مع زوال فكرة الوطن والمواطنة، تفتيت الأوطان وتدمير المجتمعات. قال الأستاذ غازي مراد مدير العلاقات العامة في ادارة الجامعة اللبنانية، في مؤتمر كلية الإعلام في الجامعة المذكورة حول “الإعلام والمواطنة والتشريع” الذي عُقد في 13 أذار 2014 قال “المواطنة تقودنا الى ولاء موحد[5]“.
وهذا ما شدّد عليه رئيس الجامعة اللبنانية الدكتور عدنان السيد حسين، في المؤتمر نفسه، في كلامه على معنى المواطنة “الذي نريده للبنان والوطن العربي الممزق”، وأسِف “لأن اوروبا سبقتنا قبل مئتي سنة وجعلت المواطنة في الدستور والتربية وسيادة القانون… هناك فرق كبير بين سياسة الوطن وسياسة الزاروب، وبين الحقيقة الاعلامية و”السكوب” الذي يخبط على رؤوس أولادنا بتقسيم مذهبي، وهذا أمر معيب لدور لبنان الحضارة”. وأسف لكون “الدولة صار فيها الانتماء للطائفة أقوى من الانتماء للوطن”. أمّا الأستاذ عبد الهادي محفوظ، رئيس المجلس الوطني للإعلام، فشدّد في مداخلته “نحو إعلام في خدمة المواطنة” على الوظيفة التي نُريدها للإعلام وهي وظيفة البناء وليس وظيفة الهدم وذلك للتغلّب على الانقسام السياسي والطوائفي.
غلبة الاستثمار في الإعلام الترفيهيّ
يشبه فيض المعلومات تدفّق شلاّل جارف يُقدّم للإنسان الكثير من المعلومات والأخبار في كافّة المجالات، إلا أن مجالات المنوّعات والترفيه والتسلية والرياضة والفنون الهابطة والإعلانات هي التي تحتكر الحصّة الأكبر فيه. توجد سوق كبيرة بمليارات الدولارات تتحكّم بالإعلام وبنوعيته.
وهناك شركات عملاقة عابرة للجنسيّات تُسيطر على القطاع الأكبر من وسائل الإعلام وسوقه كما تسيطر على أذهان الناس من خلال صناعة الإعلام والإعلان في العالمين المتقدّم والنامي. وتقضي هذه الشركات الكبرى على اللاعبين الصغار المحليّين أصحاب الاهتمامات المحليّة ممّن يمكنهم أن يُخاطبوا المتلقّين في أسواقها. أمّا انخراط أصحاب الرساميل (كروبرت مردوخ) والشركات التجارية الكبرى (كميكروسوفت) وحتى الشركات المنتجة للسلاح (كجنرال ألكتريك)… في سوق الإعلام فيدفعهم جميعًا إلى التعمية في مجال كشف الحقائق الكامنة خلف انتشار السلاح وتعميم الحروب العبثيّة في العالم المعاصر، والاتجاه أكثر “إلى التركيز على التسلية أكثر منه على الإعلام، وإرجاء الوقت عوضًا عن انتقاد الواقع[6]“.
وفي وسط سوق تتحكّم فيه رؤوس الأموال المتوحشة بعالمي الاتصال والإعلام، والتي لا همّ لها سوى زيادة نسبة المشاهدين بهدف زيادة أرباحها، تعجز حتّى الحكومات والأحزاب عن خلق إعلام وطني يُضارب على الإعلام العالمي ويتمتّع بالفاعلية ويحمل رسالة وطنية كرسالة بناء دولة المواطن ويُعنى بشؤون الوطن ومواطنيه.
وتنسحب سلوكيّة كبار المتمولين العالميّين في تسيير المؤسّسات الإعلامية العالمية على سلوكيّة الرأسماليّين المحليّن وأصحاب وكالات الإعلان الإحتكاريّة، الذين يُفضّلون البرامج الترفيهيّة والتسويقيّة ذات المردود العالي على تلك الثقافية والقِيميّة التي تعجز عن جذب نسب مشاهدة قياسيّة.
تسلّط الرأسمال المـُسيّس
أما إذا نظرنا إلى واقع الشركات المالكة لوسائل الإعلام المحليّة، فنراها بدورها شركات مساهمة لمتمولّين محليّين وأجانب، همّهم الأوحد الاستثمار المالي، وللبعض منهم همّه السياسي الخاص أو أنه يرتبط ببرنامج سياسيّ خارجيّ غير متعاطف مع رسالة المواطنة والوطنية ولا يهمّه شيء فيها، هذا إذا لم نقل أنّه يتقصّد تمييع الروح الوطنيّة بهدف إجراء تغييرات على الساحة المحليّة لصالح جهات خارجيّة.
إلا أن مالكي المؤسسات الإعلامية في لبنان يؤكّدون حاجتهم إلى رأس المال الأجنبي لدعم مؤسّساتهم وعصرنتها. ويتفاجأ المرء عندما يعرف أنه حتى تلفزيون لبنان منذ نشأته لم يكن مملوكًا بالكامل من الدولة اللبنانية التي احتفظ بـ 51% فقط من الأسهم وامتلكت الباقي شركات فرنسية وكويتية وغيرها. أما الإذاعة اللبنانية فكانت منذ البداية إذاعة رسمية وقد رفضت الحكومات المتعاقبة في الأربعينات والستينات من القرن الماضي عروضًا من رؤساء وزراء لبنانيين وسفارات أجنبية (منها سفارة الولايات المتحدة الأميركية) بجعلها شركة تجارية[7].
قد يكون من المفيد هنا مراجعة قوانين الإعلام المحليّة الهادفة إلى إيجاد ضوابط لسطوة رأس المال الأجنبي في صناعة الإعلام المحليّ. يُحاول المشترع عادة أن يحمي مجال الإعلام بشتّى الطرق. وهذا ما فعله النائب غسان مخيبر في اقتراح القانون المعروف باسمه والذي أعدّه في 2009 بالتعاون مع جمعية مهارات وعدد كبير من الخبراء في مجال الإعلام وجاء فيه: في الباب الثاني: موجبات مالكي وسائل الإعلام/ الفصل الأول: الموجبات العامة / المادة 7: “يمنع على وسائل الإعلام ومالكيها أن تستحصل على أية منفعة بطرق غير مشروعة أو أن تستحصل على أية منفعة أخرى بهدف خدمة مصالح أية هيئة أو دولة أجنبية بما يتعارض مع المصلحة العامة ومقتضيات النظام العام”. وتطلب مواد أخرى كالمادة 11 من الباب الثاني أن تُقدّم المؤسسة الإعلامية “الوقوعات المتعلقة بمداخيل الوسائل الإعلامية ومصادرها”.
لكن مجال الشك يبقى واردًا إذ لا تُمكن معرفة هل يوجد تمويل خارجي عبر وسيط محليّ يعمل له من دون التصريح عن ذلك، الأمر الذي قد يفسح في المجال أمام تغلغل فكر غريب لا يعترف بخصوصية الوطن ولا يبالي به وبأهله. وقد تكون تجربة رؤوس الأموال الخليجية في تمويل الصحافة اللبنانية المحليّة والصحافة العربية المستقرة في لندن والمواقع الإلكترونية المحلية والخارجية والمحطات الفضائية اللبنانية والعربية خير مثال على خسارة هذه المؤسسات وإعلاميّيها استقلاليتهم ومصداقيتهم واهتمامهم الوطني الصرف.
وتصبح المشكلة أكبر مع الصحافة والإعلام العابر لحدود الأوطان، والممَوّل من الدول الغنية، أو من بعض الحكام وأقاربهم، الذي لا يتناول بأي شكل من الاشكال أحوال هذه الدول المموّلة ومواطنيها ولا موضوعات سياسية حساسة مثل حقوق الإنسان والفساد الحكومي وسوء استغلال السلطة بل يصبّ كل جهوده في إثارة النعرات في دول أخرى والتحريض عليها.
دور الأحزاب والدعاية السياسيّة وانبعاثها من جديد
إن اشتهر النازيون والشيوعيون في استخدام الدعاية والإعلام لغسل أدمغة المتلقّين في الماضي، فإن الدعاية تُستخدم من جديد اليوم من أجل خلق وعي سياسي مزعوم يُزيل الروح الوطنية ويُحرّر الناس من التزامهم بقضاياهم الحقيقية. يحكي الدكتور جون الترمان في كتابه: “إعلام جديد … سياسة جديدة؟” عن دور الإعلام في خلق مفاهيم سياسية جديدة في العالم العربي ويدعو إلى حسن استخدامه وإلى التقارب مع المثقفين فيه لتغيير توجهات رأيه العام ولخلق مناخات جديدة موالية للغرب[8].
وإذا كانت الأحزاب السياسية معنيّة بالشأن الوطني وتعمل كهيئات وسيطة بين الشعب والدولة، فإنّها لا تستفيد دوماً من إعلاء شأن المواطنة ولا تبذل، بالتالي، جهداً جدّياً في استخدام وسائلها الإعلامية لتحقيقها. ولا تزال تجربة الحرب في لبنان ماثلة، ربّما، أمام جميع من عاشها ويتذكّر دور الإعلام الحربي الفاعل في إزكاء المعارك الإعلامية والعسكريّة الواضحة الأهداف.
وبدأ الاعلام، حتى في حقبة ما بعد الحرب وخصوصًا بعد العام 2004، مرحلة جديدة من إيقاظ الفتن الطائفية والتحريض المذهبي وتظهير الإرهابيين وتغييب الموضوعية في البرامج الإخبارية والحوارية فغاب عنه الوطن والمواطن وكلّ ما يجمع ولا يفرّق. فالإعلام لا يمارس دومًا دوره كوسيط ينقل المعرفة ويُشارك المواطن ما يجب أن يعرفه عن المؤسسات الوطنية والإدارية بهدف مساعدته على ممارسة حقّ الرقابة. وفي غياب الدور الفعّال والحقيقي للإعلام في تعزيز المواطنية الصالحة وقعت المواطنة في الموت السريري.
دور الصحافي
وماذا أقول في الصحافيين وعدد كبير منهم يحمل القلم منتظرًا من يدفع له ليُسدّد فواتيره أو حتى ليمنحه الثروة. ويستميت الصحافي لتحقيق السبق الصحافي (scoop) وليس ليحكي كلامًا في المواطنة صار يعتبر خشبيًّا ومن مخلفات حقبات بائدة. ومن الأمثلة على ضمور الصحافة، استعداد الصحافي لأن يستضيف إرهابيًّا أو مُحرّضًا طائفيًّا بدلاً من استضافة مؤمن بالوطن ومفكر أو فيلسوف مناضل يحكي في الوطن والمواطنة والأنثروبولوجيا وغيرها… وهناك الصحافي الذي يغامر إلى حدّ تعريض سلامة القوى الأمنية بفضح تحرّكها ضد الإرهابيين بدل مُساندتها بالتستير عليها. خذ على سبيل المثال حوادث عبرا أو أوتيل نابليون عندما يُسرّب الصحافي الخبر، ويسبق المعالجة الأمنيّة، فيُقدّم بذلك خدمة إيقاظ للإرهابي الذي يهرب قبل وصول القوى العسكرية إليه.
إلا أنّ الإعلام الحديث، بتقدّمه التكنولوجي وبالتشرذم والتفلّت الذي أحدثته وسائل التواصل الإجتماعي، قد يسمح لأي كان في التعبير عن أيّة فكرة يُريدها، وفي التعرّض لفكرة المواطنة وهدمها، عبر استخدام لغة العنف والسوقيّة وخطاب الحقد والتحريض على الكراهية غير المسبوقة في الإعلام. يسأل الدكتور انطوان مسرّة في مداخلته في مؤتمر كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية “هل الصحافة اليوم سلطة رابعة؟ وهل نعيش نهاية السياسة واختزالها في المشاكسة والنزاع والصراع وتراجع الاعلام المهني لمصلحة صحافة الهواة والتواصل والعلاقات العامة والترويج وطغيان الرأي؟” أظنّ أنه على المفكرين والأدباء والشعراء وأصحاب الرأي والصحافيين الذين يؤمنون بالوطن وبأهمية المواطنة وقِيَم الحريّة والمساواة والعدالة القيام بدورهم في التنشئة السياسيّة عبر الدخول الفاعل في فضاء الإعلام البديل لرفع المستوى الفكري والنفسي والوطني للشعب.
نحتاج إلى صحافيين ناضجين ومؤثرين قادرين على رفع مستويات التفكير لدى جمهورهم وإلى أبطال كلمة يمسكون بأفكار المتلقّين لتوجيههم من جديد إلى حب الوطن والقِيَم الكبرى في زمن ينزف فيه العالم دمًا غزيرًا بسبب انفلات الوحشيّة العابرة للحدود. يحتاج الميدان الإعلامي إلى رجال أكفياء ومليئين بالحق والمعرفة والخبرة، جريئين ونشيطين يعرفون أن ساحة الإعلام هي ساحة الدفاع عن الوطن والمواطن فلا يُرهَبون ولا يغيبون ولا يتهاونون. فالدنيا عدوّة الفراغ، والإعلام يملأ فضاءات الناس بأي من يركب موجته. تحتاج الساحة الإعلامية إلى صحافيين واعلاميين ومفكّرين أقوياء ومستعدّين للمغامرة ولا يهربون من تحمل المسؤولية في بناء الأوطان.
نحتاج إلى صحافيين شرفاء يعرفون أن واقع عالم الصحافة مليء بالطفيليّين وبالذين يُسيئون استخدام الحرية وبالمأجورين وبالموتورين، ويُصمّمون على أن لا يتركوا الساحة لهؤلاء إذ لا يجب أن يُترك الميدان مفتوحاً أمام ارتكاب المجازر الفكرية تمهيدًا لارتكاب المجازر الحسيّة بحق المواطنين والوطن.
دور الدولة في تنشيط إعلام يبني دولة المواطن.
وسط كلّ هذه المتغيرات على الساحات العالميّة والإقليميّة والوطنيّة، نسأل هل ما زال للدولة دور في تنشيط إعلام يحمل رسالة بناء دولة المواطن؟ هل تستطيع الدولة أن تقف بوسائلها أمام المدّ الجارف للإعلام الذي يهدم فكرتي المواطنة ودولة المواطن؟ ما هي الخطوات العمليّة التي تستطيع فعلها في هذا الإطار؟
على صعيد الإعلام الرسمي؛ تستطيع الدولة أن تُقوّي إعلامها الرسمي وتجعله مواكباً للعصر وقادرًا على مخاطبة الأجيال الشّابة والإنسان المعاصر بلغة يفهمها لتُعزّز فكرة المواطنة والإنتماء للوطن. يقول وزير الإعلام رمزي جريج في مؤتمر كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية “أرى أن الإعلام العام أو ما اصطلح على تسميته الإعلام الرسمي، مؤهل أكثر من غيره لتعميم ثقافة الانتماء إلى دولة المؤسسات والقانون ودولة تكافؤ الفرص، كتعبير عملي عن مفهوم المواطنة الصحيحة، مع ما يستتبع ذلك من مبادرات من شأنها توطيد التماسك بين جميع شرائح المجتمع وتثبيت لحمتها، وتشجيع العمل الفردي والجماعي في كلّ ما من شأنه بناء الوطن، والابتعاد عن كل ما يبرز مظاهر الصراع والخصام في المجتمع، وذلك باعتماده لغة جامعة وموحَّدَة وموحِّدة في آن معًا”. ي
عني هذا الطرح، فيما يعنينا في لبنان، إعادة تقوية محطتي تلفزيون لبنان والإذاعة اللبنانية فتعودان إلى احتلال المرتبة الأولى للإعلام في لبنان، بعدما تمّ تدمير هاتين المحطتين بشتّى الطرق؛ وربما حصل هذا التدمير لتسهيل عملية ضرب فكرة دولة المواطن. وهذا ممكن خاصة بوجود تجربة رسمية ناجحة اسمها الوكالة الوطنية للإعلام التي تتقدّم على سائر وكالات الأنباء المحلية والعالمية.
على صعيد التشريع؛ يحتاج قانون المرئي والمسموع رقم 382/94 الذي حاول إعادة بناء اعلام غير طائفي في لبنان، إلى التعديل ليسدّ الفجوات التي سمحت لمؤسسات الإعلام المحليّة بالتلاعب على نصوصه القانونية وبالعودة من جديد إلى كونها مؤسسات طائفية غير ملتزمة بخطاب دولة المواطن. ويحتاج المجلس الوطني للإعلام إلى صلاحيات تقريرية وتأديبيّة لمتابعة هذه السياسة فالاعلام الذي يبني المواطنة هو الاعلام الذي يُساعد الوطن على أن يبقى موحدًا ويسمح للمواطن بأن يعرف ما يحصل في الدولة ليُحاسبها وليُسدّد خطاها.
دور ميثاق الشرف الإعلامي لتعزيز السلم الأهلي في لبنان
لا بدّ في خلاصة الكلام حول “الإعلام ورسالة بناء دولة المواطن” من أن نستعرض المبادئ التي تُساعد، في حال اعتمادها، الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية على تعزيز دورهم في بناء دولة المواطن في زمن موت الأوطان والمواطنية في منطقتنا. وقد كان لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP دورٌ في عقد مؤتمر بحثي مع واحد وعشرين رئيس تحرير وممثل لوسائل إعلامية في لبنان بهدف تبنّي “ميثاق شرف إعلامي يُعزّز السلم الأهلي في لبنان[9]“.
وجاء هذا الميثاق كمحاولة لوضع حدّ لجولات العنف الكلامي والتحريض السياسي والمذهبي التي احتلّت الصدارة في البرامج السياسية والحوارية والأخبار التي بثّتها وسائل الإعلام اللبنانية وكانت مصدرًا للإضطراب في البلاد. وقد أُعلن هذا الميثاق بحضور وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال السابقة وليد الداعوق، والممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي روبرت واتكنز، ورئيسةِ بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان السفيرة أنجيلينا أيخهورست، ونقيبي الصحافة والمحررين محمد البعلبكي وإلياس عون، ورئيسِ المجلس الوطني للإعلام عبد الهادي محفوظ، ومجموعةٍ من رؤساء تحرير ووجوهٍ إعلامية شاركت في صياغة الميثاق.
تضمّن الميثاق ثمانية عشرة مادة تتناول مختلف جوانب العمل الصحافي وتُعزّز بمعظمها، في حال اعتُمدت، مبدأ دولة المواطن. وعلى رأس تلك المواد التي أُقرّت:
المادة 1: احترام سيادة القانون وتناول بمسؤولية ذاتيّة ومؤسسيّة ووطنيّة المواضيع التي من شأنها المسّ بأمن الوطن واستقراره أو بالثوابت الدستورية، وعدم تغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، او استخدام أي من الوسائل الاعلامية عند تناول الشؤون الامنيّة، أو القضائية بشكل يؤدي الى الإخلال بالأمن، أو المسّ بالوحدة الوطنية.
المادة 2: التزام العمل على تأكيد الوحدة الوطنية والعيش المشترك، والتزام احترام الاديان وعدم اثارة النعرات المذهبيّة أو الطائفيّة أو التحريض على العصيان العنفي أو ارتكاب الجرائم، والامتناع عن عبارات التحقير.
وحثّت المواد الأخرى وسائل الإعلام على اعتماد أقصى درجات الدقّة والموضوعية والإنصاف وعدم التحيّز في صياغة وتحرير وإخراج ونشر المعلومات والتزام عدم بث روح العنف والفتنة والافتراء والاتهام من دون دليل وتجنّب استخدام مفردات القدح والذم والتشهير والتمييز، أو إظهار الانحياز (إلاّ في ما يتعلق بالصراع العربي-الاسرائيلي(، والعمل على تخصيص مساحات واسعة للإضاءة على ما يجمع اللبنانيين ولاستضافة ضيوف وأقلام تتمتّع بمستوى لائق ومواطنية عالية.
يعيد التزام وسائل الإعلام بهذا الميثاق الاعتبار للمواطن وللوطن ويسمح بخلق حالة مواطنة تُركّز على حقوق الإنسان وقِيَم الحريّة والعدالة والمساواة والأخوّة والديمقراطية والإنتماء للوطن بدل الطائفة والعشيرة والحزب الأمر الذي يُعزّز الاستقرار السياسي للدولة. يستطيع الإعلام اللبناني أن يلتزم بهذه المبادئ بهدف حفظ الوطن اللبناني بيتًا آمنًا ومعافًى لجميع مواطنيه.
*****
[1] الدكتور حسن الحسن، الدولة الحديثة إعلام واستعلام. بيروت: دار العلم للملايين. ص. 216.
[2] المصدر ذاته، ص. 231.
[3] مجلة الكويت العدد : 368 تاريخ 5 حزيران 2014
[4][4] الإعلام والإتصال في مجتمعاتنا. “الإعلام العربي على مشارف القرن الواحد والعشرين: بين مطرقة العولمة وسندان الدولة. مقالة لإدمون غريب وخالد منصور. بيروت: تجمّع الباحثات اللبنانيات. الكتاب السادس 1999-2000. ص 28.
[5] الوكالة الوطنية للإعلام. الخميس 13 أذار 2014. http://www.nna-leb.gov.lb/ar/show-news/84260/
[6] الإعلام والإتصال في مجتمعاتنا. “الإعلام العربي على مشارف القرن الواحد والعشرين: بين مطرقة العولمة وسندان الدولة. مقالة لإدمون غريب وخالد منصور. بيروت: تجمّع الباحثات اللبنانيات. الكتاب السادس 1999-2000. الصفحة 18.
[7] [7] الإعلام والإتصال في مجتمعاتنا. تطور ملكية وسائل الإعلام المرئي والمسموع في لبنان” مقالة لعي رمال. بيروت: تجمّع الباحثات اللبنانيات. الكتاب السادس 1999-2000. ص. 38-44.
[8] الإعلام العربي على مشارف القرن الواحد والشعرين: بين مطرقة العولمة وسندان الدولة. ص. 26-27.
[9] http://www.ministryinfo.gov.lb/News/Politics/Details/13-06-25
*******
(*) إدكار طرابلسي، دكتور لاهوت، قسّيس انجيلي، أمين عام مجلس الكنائس الإنجيليّة الكتابيّة، رئيس معهد اللاهوت المعمداني اللبناني، عضو اللجنة الوطنية للأونيسكو، كاتب، وإعلامي.
******
(*) ملاحظة: الصور والرسمات أضافها الموقع (Aleph-Lam) لاحقا إلى النص، ولا علاقة للقسيس الدكتور إدكار طرابلسي بها… ولم يتم إطلاعه عليها قبل نشرها.
بالاشتراك مع aleph-lam
www.georgetraboulsi.wordpress.com