الشاعر أنسي الحاج
(2 تموز 2011)
4 تموز عيد بلوغ سعيد عقل المئة. جامعة سيّدة اللويزة دعت للاحتفال بالمناسبة عبر قدّاس خاص يترأسه البطريرك الراعي في بكركي، يليه إعلان عن نشاطات لاحقة.
جماعة تبتهج لبقاء شاعر حيّاً منذ قرن لأن استمراره بينها يعطيها قوّة. هذه المرّة، التكريم ليس لنتاجه بل لوجوده. هكذا يبدو لنا الأمر، ونتفهّمه. الجماعة التي أوهنها الدهر وضاعت عن ماضيها وحاضرها وقفتْ ترتجف أمام مصيرها. الجماعة المستغربة في الشرق المستشرقة في الغرب السارحة المتجذّرة المثمرة بين ضفاف لغة القرآن فوق ما صال المسلمون وجالوا. جماعة الصلابة والنوافذ المشرعة، الأقليّة المُفْرَدَة والإمبراطوريّة المعنويّة. الجماعة التي يستطيع أبناؤها أن يثوروا عليها ولا تثور عليهم، وينكروها ولا تنكرهم.
الجماعة التي تُصلّب بالخمس وتجعل تعداد رياح الانفتاح من الخمس وصاعداً. الجماعة التي صُوّر للآخرين أنّها تنوي إبادتهم فإذا بها هي تغدو يتيمة في أرضها. الجماعة التي كأنَّ ناجي العلي كان يقرأ في فنجانها مطلع الحرب الأهليّة حين وضع في رسومه لـ«السفير» شخصيّة «الماروني التائه». جماعة لم أرحمها وذهبتُ في هجائها حدّ دعوتها إلى التخلّي عن مناصبها بدءاً بالرئاسة، وإلى الرجوع للأرض والكدح رجوع المتَّضِع الفقير المحتاج أملاً في استعادة جدارات كانت لها. الجماعة التي لم يستوِ فيها يوماً خطّ السلطة مع خطّ الفكر، فاستوطنت الغربة بين الفريقين حتّى أصبحت المارونيّة مارونيّتين، واحدة سُمّيت سياسيّة وأخرى خرجتْ من حدودها وكادت تخرج من كلّ حدود ولم تعد تجد لها بيتاً. الجماعة التي لم يفهمها أحد مثلما فهمها غير أبنائها، كميشال شيحا وشارل مالك وعمر فاخوري وكاظم وتقي الدين ومنح الصلح وكمال الصليبي وعبّاس بيضون.
خرجتْ من حدودها ولم تجد لها بيتاً.
وها هي الكنيسة تفتح أبوابها في مئويّته لأحد أولئك الذين حاولوا اختراق الحدود.
■ ■ ■
لا يعني ذلك أن سعيد عقل وُضع في قالب المارونيّة وأُغلق عليه، لكنّ في البادرة رمزاً مأسويّاً جارحاً. أكبر شاعر عربي حيّ تحتفل به طائفته لا قرّاء العربيّة.
الجوّ ممهَّد من زمان لعزل شاعر «رندلى» وحَشْره في أضيق خندق، لا منذ دعوته للكتابة بالعاميّة وبالحرف اللاتيني ولا منذ وقوفه ضد الفلسطينيّين في الحرب ولا منذ مَنَعَ نفسه من كتابة كلمة عرب أو لفظها بل منذ «قدموس» وأطروحة «لَبْنَنَة العالم». عامله العروبيّون معاملتهم لزعيم سياسي عنصري لا لشاعر ومفكّر لديه موقف سياسي لا يجوز أن يلغي نتاجه الأدبي أو يقلّل من أهميّته.
شبحٌ مهول هذا الشَبَح. لا نريد أن تسترجعنا طوائفنا. لا نريد أن نكون خيولاً في اسطبلات. الشاعر خالق في اللغة، واللغة لغة عشرات الملايين لجميع الأزمنة. حتّى لو أراد الشاعر أن يكون شاعر دينه لا يستطيع أن يمتلك إرثه، ولا دينه يحق له مصادرته. إسلاميّات أحمد شوقي احتلّت حيّزاً كبيراً من نتاجه وأحمد شوقي ليس شاعراً للمسلمين بل شاعر لمَن أراده. الياس أبو شبكة مفعم بالروح المسيحي وشعره جزء من وجدان السوريّين والعراقيّين مسلمين قبل المسيحيّين. الأخطل المسيحي كان أحد كواكب العصر الأموي في المطلق لا بوصفه مسيحيّاً.
حورب سعيد عقل لا لأنّه مسيحي بل لأنّه «لبناني عنصري». تلك هي التهمة، وهي أسوأ من تهمة الطائفيّة.
قبله اتُهم طه حسين وبعض جيله بالفرعونيّة، ومع الوقت أعيد له ولهم اعتبارهم كأدباء وحبّة مسْك. هل لأنّها مصر الكبيرة ولأن لبنان صغير؟
لم يشأ سعيد عقل ولا يوماً أن يتكلّم كطائفي، ولم يلقّب نفسه إلّا باللبناني، وكان يهاجم الأحزاب المسيحيّة الطائفيّة. يصعب علينا هذه اللحظة أن نتخيّله لفئة دون فئة، وإن تكن المدرسة والكنيسة مشكورتين على بادرتهما، ولسان حالهما بالطبع أنّهما أقدمتا حيث لم يخطر ببال أحد.
هو هذا الانكماش الذي يؤول إليه واقعنا الأدبي ما يُخيفنا. هل كنّا واهمين حيال أحجامنا حتّى نشهدها تتدهور من تنفيس إلى تنفيس؟ هل تلك النهضة كانت زوبعة في فنجان؟
■ ■ ■
أوّل ثورة شعريّة عربيّة ليست «مواكب» جبران ولا محاولات جماعة «أبّوللو» بل «بنت يفتاح» و«المجدليّة» و«قدموس» و«رندلى». عديدون من أركان مجلّة «شعر»، التي ثارت في مَن ثارت على سعيد عقل، ما كانوا ليكونوا لولا سعيد عقل. كثيرون من حَمَلَة الأقلام اليوم كانوا سيكتبون أحسن لو قرأوا سعيد عقل.
ونحن لا نجتزئه. عنصري؟ وخارق. كثيرون في العالم عنصريّون وخارقون. الأديب يقاس بكتابته. خاصة حين يكون أكبر من معظم الذين يقيسون.
■ ■ ■
سعيد عقل عنصري؟ نعم، إذا كان العنصري هو الفاقد أمانه في محيطٍ ساحق لا يشبهه. إذا كان في نظر المختلف هو عنهم يشكّل «خطراً». إذا كان المختلف هو عنهم يشكّلون له «تهديداً». هذا عنصريّ الأقليّة، الأقليّة التي تولد خائفة. عنصريُّ مَنْ نشر زرعاً نبذته الأرض ومَن حَمَلَ تقدمةً أشاحت عنها الأكثريّة جماهير ونخبة، ولم تحتضنه غير العائلة الصغيرة.
عنصريّة المغبون، عنصريّة فرديّة دفاعيّة ولّدتها عنصريّة الأكثريّة. حتّى ليبدو هذا العالم العربي مجموعاتٍ من العنصريّات المتعايشة في توارث تَباغضها، تتكاذب لطفاً ومجاملة، يصبر بعضها على بعض دهوراً وينفجر لحظةَ مؤاتاة الظروف. ولا تنحصر العنصريّة هنا في العرق أو الدين بل تشمل صراع القديم والجديد، التقليد والإبداع، والتنافس بين البلدان، وهو تنافسٌ طالما دفعت ثمنه البلدان الصغيرة بتجاهل البلدان الكبيرة لها، ولم يكسر القاعدة إلّا لبنان، وكان لسعيد عقل في هذا، بعد جبران وبالتزامن مع حركة «المكشوف»، دور حاسم.
صَنَع سعيد عقل للعربيّة عالماً أكبر من عالم. يجب أن نُحسن تقدير الأدباء بمقياس داخلي وبصرف النظر عن الأحكام الجاهزة. ولبنان سعيد عقل هو سعيد عقل: مادة صلصاليّة عَجَنَها ونَحَتَها كما يعجن الخالق صلصاله ويُسوّيه. منحوتة أرادها سوبرمانيّة، حَشْوَتُها الأسطورة وصَدْرها الحلم. تماماً كما نظر إلى المرأة:
«هِمْ يا حبيبْ
بلونيَ الليلكيّ.
همْ، لا تُقرّبْ يدا،
هِمْ بالنظر،
أبقى الأثر
ما لم يزلْ موصَدا».
بالشوق لا بالوصول، جمالٌ بلا عيب، بلا ضعف. وإذا لزم الأمر، بالشيء بَدَل صاحبه، بالذاكرة بَدَل عَيش اللحظة، بالتصوّر بَدَل التجسُّد. أرى ما أَحلم. لا شأن للواقع الذي تحسبونه هو الحقيقة، الواقع ـــــ الحقيقة بؤس لمريدي البؤس.
اكتشف سعيد عقل هذا المَهْرب، هذا الخلاص، في بداية العمر ولم يَدَع لشيءٍ أن يجرّده منه. متوحّش الحلم وصل إلى المئة. لم يَقْبَل تجزئةً لحلمه: الذي استطاع أن لا يرى المرأة إلّا على عرش الخيال استطاع أن يقسو في الحرب حتّى الجنون.
مجنون المعشوقة كان في الواقع أشدّ جنوناً بلبنان المعشوق. لم يكذب بكلمة في جنونَيه. مضى إلى النهاية. وإذا كان في جنون الجمال النسائي قد خَلَط أحياناً كغيره بين التغزُّل بالحبيبة والتغزُّل بالنفس، وما ذلك بنادرٍ عند الشعراء، ففي جنونه بلبنان لم يدع مجالاً لالتباس: كان دائماً منذ البداية يعتبر لبنان الذي يكتبه انعكاساً لإرادته.
لم يتسامح مع أيّ خطرٍ يُهدّد أيقونَتَيه، رُكْنَي فكره. حَصَّنَ إلى حدّ الخرافة أيقونةَ المرأة المعشوقة وسيَّجَ حتّى العنف أيقونةَ الوطن الذي أراد له، في مقدمة «قدموس»، أن «يُلبنن العالم».
أبقى حرير الفكرة قريباً تماماً من شرنقتها، فلا تنفطم أيٌّ منهما ولا تتشرّد ولا تسقط تحت أقدام الواقع.
المسحور الذي أوصل انسحاره إلى المئة.