الباحث خالد غزال
يبدو الحديث عن الاستقلال اللبناني اليوم حديث حنين وشجن وبكاء على الأطلال، بما لا يقدم ولا يؤخر، في وقت نحتاج فيه إلى تعيين الأسباب التي كانت وراء ضياع الاستقلال، ومسؤولية اللبنانيين، خصوصاً منهم الطبقة السياسية المسيطرة، أولا عن هذا الضياع، وما الوسائل التي تسمح باستعادته جزئياً أو كلياً.
لم يكن لبنان مستقلاً استقلالاً كاملاً منذ إعلانه. كان هناك دوماً علاقة اتصال وانفصال بين الداخل والخارج، وكان كل إخلال في التوازن أو الإنحياز إلى الخارج سبباً في انفجار هذا الاستقلال، وقد كانت الحروب الأهلية في الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي شاهدا على اهتزاز النظام والكيان معاً.
شكلت الحرب الأهلية المندلعة منذ السبعينات والمستمرة حتى اليوم بأشكال ساخنة أو باردة ذروة الصراع بين الداخل والخارج. “كانت الحرب الأهلية لبنانية مئة في المئة وخارجية مئة في المئة” وفق تعبير صحيح للكاتب أحمد بيضون. وما نشهده اليوم من انهيار هو النتيجة المباشرة لهذه الحرب. كانت للحرب أسبابها الداخلية في الصراع على التغيير السياسي للنظام، كما كانت ميداناً للتدخل الخارجي وخوض حروب بديلة، في مرحلة أولى من أجل إنهاء الوجود الفلسطيني في سياق البحث عن تسوية للصراع العربي الإسرائيلي الذي كان يتطلب إلغاء قوى الاعتراض، وفي مرحلة ثانية كانت صراعا بين النفوذ الإسرائيلي والنفوذ السوري، وسعي كل واحد منهما للهيمنة على البلد وإلحاقه بمنظومته.
كان الاستقلال يهتز بل ويتفسخ تحت وطأة استنجاد كل طرف من أطراف الصراع الداخلي بالخارج، سواء أكان اسرائيلياً أم كان فلسطينيا أوسوريا. لم يكن لهذا الخارج أن يثبّت نفوذه من دون ان تؤمن له الممرات الداخلية اللبنانية مواقع لاقدامه. بهذا المعنى، يتحمل اللبنانيون مسؤولية في تغليب الخارج واستيطانه الداخل اللبناني على حساب استقلاله.
لاحت للبنانيين فرصتان لاستعادة استقلالهم ولو نسبياً. فمنذ الثمانينات كان البلد واقعاً عملياً تحت احتلالين، الأول اسرائيلي، والثاني سوري. كان يمكن للانسحاب الاسرائيلي عام 2000 ، والذي حصل تحت ضغط المقاومة اللبنانية والكلفلة الغالية التي بدأ الاحتلال يشعر بوطأتها، ان يشكل فاتحة عودة استقلالية تساهم في إعادة تزخيم الوحدة اللبنانية، وتكريس الوفاق بين قواه السياسية ، لكن ما جرى بعد الانسحاب من توظيف له في في الصراع الطائفي الداخلي، أدى الى تكريس المزيد من الانقسام. اما الفرصة الثانية التي أضاعها اللبنانيون استقلالياً، فكانت فرصة الانسحاب السوري من لبنان عام 2005 والتي كان يمكن ان تكون مناسبة توحيدية بامتياز، فأضاعها اللبنانيون تحت وطأة الانقسام الداخلي والصراع الطوائفي على موقع لبنان الإقليمي وعلى نظامه السياسي. كما عجز اللبنانيون في هذه المحطة عن الإفادة من الوضع الدولي الذي كان ضاغطاً بقوة من أجل مساعدة لبنان لاستعادة حد كبير من استقلاله.
هكذا في صراع الاتصال والانفصال بين الداخل والخارج، بات لبنان منذ أكثر من عقد من الزمن أسير مشروعين اقليمين في المنطقة، وبات الارتهان لهذا الخارج وثيقاً بما يمكن القول أن الداخل اللبناني تلاشى ولم يعد مقررا، فيما باتت المشاريع الخارجية التي ربط كل استقطاب نفسه بها، العنصر شبه المتحكم بالداخل اللبناني. وما يشهده البلد اليوم هو التتمة المنطقية لما كان قد بني من اللبنانيين في تلك المرحلة.
لا يستقيم الحديث عن ضياع الاستقلال من دون قراءة الداخل قائماً بذاته. يقوم العنصر الاستقلالي في كل بلد على وجود الدولة وهيمنتها على المؤسسات جميعها. تسببت الحرب الأهلية في انهيار متماد لمقومات الدولة لصالح البنى العصبية خصوصا منها الطوائف. منذ الاستقلال، كان الصراع يدور دوما على النفوذ بين المشترك الذي تمثله الدولة وبين الخاص الذي تسعى إليه الطوائف. على امتداد السنوات السابقة كانت الدولة، اي المشترك، تتقلص وتتراجع لصالح صعود الطوائف التي زحفت حثيثا على المشترك، واستولت على موقعه، بحيث يمكن القول اليوم أن الدولة هي العنصر الأضعف في البلد، فيما تهيمن الطوائف ومؤسساتها على بنى هذه الدولة. لعل الطوائف هي التي عليها أن تفخر باستقلالها اليوم عن الدولة، وأنها وحدها صاحبة الحق بالاحتفال.
في موازاة زحف الطوائف ونهشها لما تبقى من مقومات استقلالية، كانت المؤسسات الدستورية والسياسية تشهد انهيارها المتتالي، وتفقد كل واحدة منها موقعها. فالمجلس النيابي رمز السلطة التشريعية، يمدد لنفسه من دون مسوغات موجبة. ورئاسة الجمهورية، رمز الاستقلال والسيادة، ممنوع ملؤها بسبب الصراع الطوائفي الداخلي، ولكون هذه الرئاسة قد باتت في قبضة الخارج. والسلطة التنفيذية في حال انقسام وعجز عن الفعل الا بتوافق الطوائف ورضاها. والقضاء يعيش تجاذبا وتدخلا يمنع عنه استقلاليته، والإدارة يعشعش فيها الفساد والمحسوبيات بحيث باتت عبئا على المواطن، والأمن يجري تطبيقه بالتراضي ووفقا لمصالح الطوائف. والوضع الاقتصادي والاجتماعي في حالة مزرية. يتوج كل هذه المعضلات وجود طبقة سياسية عديمة الأهلية وعاجزة عن تمثيل الحد الأدنى من مصالح اللبنانيين. فعن أي استقلال يجري الحديث.
منذ اندلاع الانتفاضات العربية، وخصوصا في الجانب السوري، اندفع اللبنانيون إلى رمي أنفسهم في أتون النار الملتهبة، فانخرطوا في الحرب السورية التي بدأت ترسل نيرانها الى الداخل اللبناني. تشكل المرحلة الراهنة من الصراع الإقليمي المعطوف على قوى الداخل ذروة ضياع الاستقلال اللبناني. فالكيان والنظام السياسي والحد الأدنى من الوحدة اللبنانية تعيش محنة ليس من المبالغة القول أنها محنة مستعصية، لأن اللبنانيين أقل القوى تأثيرا فيها، والأكثر عجزا عن الخروج منها. قد تكون أكثر المرات في تاريخ لبنان ينطبق عليه القول إن البلد على كف عفريت وإن مصيره يقع في المجهول.
لا شك ان الصورة سوداء وقاتمة، لكن السؤال عن المستقبل والأمل بالخلاص يظل واجب الوجود. هل يمكن للبنانيين الحد من المأزق اذا لم يكن من الصعب الخروج منه؟ وهل هناك قوى استقلالية يمكن أن تلعب دورا في استعادة الحد الأدنى من الاستقلال بما يبقي البلد على قيد الحياة؟
لا شك ان القوى العابرة للطوائف والمؤمنة بلبنان المستقل تعاني ضعفا وتهميشا لصالح قوى الطوائف ومؤسساتها. ليس هناك في التاريخ حتميات تقول بزوال لبنان، لكن مسؤولية اللبنانيين كبيرة جدا لمنع هذا الزوال، وأول الشروط تقوم على وجوب تكوّن قوى استقلالية فعلية، تسمح بولادة حركة استقلال وطنية مجددا، على قاعدة إعادة الوحدة اللبنانية وقيام علاقة متوازنة بين الداخل والخارج. لا يمكن تقدير المدى الزمني لهذه الولادة، فالمرحلة الراهنة لا تزال منحكمة، داخليا، الى الهيجان الطائفي والاستيلاء على ما تبقى من المشترك بين اللبنانيين. اما خارجيا فلا يزال الاندفاع في الانخراط بالحرب الأهلية السورية سيد الموقف، مما يعني ان الاستقلال اللبناني سيظل في علم الغيب.
****
(*) مداخلة القيت في اللقاء الذي نظمته الحركة الثقافية في انطلياس مساء الثلاثاء في 18- 11- 2014، بعنوان “دفاعا عن الاستقلال”
كلام الصور
1- مشهد من الحرب في لبنان
2- مشهد من الانسحاب الإسرائيلي من لبنان
3- مشهد من الانسحاب السوري من لبنان