الكاتب السياسي عبد لله بن علي العليان (*)
كثرت في الآونة الأخيرة الأدبيات التي تتناول قضايا “الإرهاب” و”التطرّف” و”العنف”… إلخ. بعض هذه الأدبيات حصر هذه المظاهر بالعالم العربي والإسلامي، وبعضها الآخر ردّها إلى أزمة الهوية الناشئة عن “الصدام” مع الغرب الاستعماري… أو إلى “الحداثة”… إلخ. كثرت التفسيرات والتحليلات إذن، لكن من دون أن يسفر كلّ هذا البحث عن رؤية شاملة للموضوع.
طرح أحد الكتّاب العرب منذ فترة رؤية تحيل إلى فهمه الخاص للإرهاب. إذ قال بما معناه إن ”الإرهاب ما هو إلّا تعبير عمليّ عن النزعة نحو التطرّف، وبأنّ التطرّف ما هو إلّا واحدة من بين ثلاث استجابات محتمَلة لقوى الحداثة التي تجتاح الدول العربية والإسلامية“. والمقصود بذلك أنه حين يواجه الأفراد الذين يحملون قيماً اجتماعية ودينية وثقافية محافظة وتقليدية مظاهر الحداثة، ذات الطابع الغربي على وجه التحديد، فإنهم يعانون من جرّاء تلك المواجهة ضغوطاً جمّة تولّد لديهم أزمة هوية. ونتيجة لذلك، فعندما تصطدم الحداثة بالقناعات الدينية، يلجأ الأصوليّون إلى الاعتقاد بأن التاريخ قد انحرف عن مساره الصحيح. ويجد هؤلاء أنفسهم عندئذ أمام ثلاثة خيارات تتعلّق بالكيفية التي ينبغي أن يتعاملوا بها مع العالم خارج مجتمعاتهم الأصولية الضيّقة.
يقضي الخيار الأول ببساطة أن يتجنّبوا التعامل مع العالم الخارجي الذي لا يشاركهم منطلقاتهم الأصولية والمحافظة والتقليدية. ويقضي الخيار الثاني بمحاولة التوفيق بين منطلقاتهم الأصولية والتقليدية من جهة، والقوى الاجتماعية والثقافية الحديثة التي تحيط بهم في الواقع المعاش من جهة أخرى. ويتمثّل الخيار الثالث في الانخراط في أنشطة عنف صريح من أجل مقاومة الحداثة والضغوط المصاحبة لها، والتي يشعرون بأنها تلوّث نقاء منطلقاتهم العقائدية الأصولية وقيمهم الاجتماعية والثقافية التقليدية.
الرؤية الأحاديّة للإرهاب
لا شكّ أن مثل هذه الرؤية الأحادية تختزل مشكلة التطرّف والإرهاب التي يعيشها بعض المجتمعات العربية. بحيث يُفسِّر الكاتب المذكور ما يقوم به بعض الجماعات ضدّ الغرب، وبالتحديد ضدّ الولايات المتحدة، بأنه نتيجة لضغوط قوى الحداثة التي تجتاح عالمنا العربي والإسلامي، والذي يتولّد عنه ما أسماه بـ”أزمة هوية“. بحيث تَنتج هذه الممارسات المتطرّفة والإرهابية كردّ فعل على ”الضغط الهائل الذي تشكّله قوى التحديث الآتية من الغرب“.
صحيح أن الاختراق الثقافي الغربي يستهدف الهويّة في المقام الأول، وصحيح أيضاً أن هذا الاستهداف لم يتوقّف منذ البواكير الأولى لدخول قوى الاستعمار الغربي المنطقة العربية والإسلامية. بحيث جاء هذا الاختراق كمقدّمة للاستعمار مع البعثات التبشيرية والمستشرقين والرحّالة تمهيداً للاستعمار الثقافي والغربي والفكري.
لكنّ هذا الاختراق المعزَّز بقوى الحداثة ومقولات تحديث الدول المستعمَرة وتمدينها لم يجد النجاح المأمول في اجتثاث الهوية أو صياغة هوية من شأنها أسر هذه المجتمعات وإرغامها على القبول بكلّ ما جاء به الاستعمار أو بكلّ ادّعاءاته في تحديث هذه الشعوب وتطويرها والارتقاء بمستوياتها لخ… ويذكر بعض كتب التاريخ أن أحد الشيوخ الجزائريين أجاب حين قيل له بأن القوّات الفرنسية إنما جاءت لنشر الحضارة الغربية الحديثة في ربوع الجزائر: ”ولِما أحضروا إذاً كلّ هذا البارود ؟!“
التحديث والتمدّن مذ دخل كمستعمِر، وزرع الكيان الصهيوني ليكون مجسّماً غريباً يعيق بشكل دائم كلّ تحرّك نحو تقدّم الأمّة العربية وتطوّرها؟ ألم يقم هذا الغرب الاستعماري بإعاقة تجربة محمد علي في مصر بوصفها أوّل تجربة تحديثية في المنطقة العربية؟ ألم يُجهض هذا الغرب الاستعماري الكثير من التجارب الوحدوية العربية؟
نحو نظرة شاملة للتطرّف
القول بأن التطرّف والإرهاب ولدا كردّ فعل على ضغوط الحداثة الآتية من الغرب هو في اعتقادي اختزال غير دقيق لهذه المشكلة العالمية. كما أن ربط هذه المقولة بقضية الحداثة يحتاج إلى مراجعة عميقة لأسباب التطرّف والإرهاب الملحوظين في العالم بأسره بدل الاكتفاء باختزال تلك الأسباب في قضية الحداثة فقط.
الحقيقة أن الإرهاب والتطرّف اللذين يُعتبران الآن قضية القضايا ومحطّ أنظار العالم واهتمامه وتوجّسه وهواجسه لهما من الأسباب الكثيرة التي تجعل حصرهما في مسألة أو في قضية واحدة فكرة هلامية وتبسيطية غير صحيحة. فالإرهاب والتطرّف يتمايزان في منطلقاتهما، وهذا التمايز يجعل هذه الظاهرة – الإرهاب والتطرّف- تختلف من بلد لآخر تبعاً لأسباب وعوامل عديدة ومتداخلة في الوقت نفسه. منها العامل السياسي – وهو الأكثر بروزاً – إلى جانب العوامل الاجتماعية والدينية والاقتصادية والثقافية والفكرية وهكذا.
فظاهرة الإرهاب والتطرّف ظاهرة مركّبة ومعقّدة، ومن الإنصاف أن تكون النظرة إليها شاملة ومتوازنة، وألّا تقف عند عامل واحد فقط وغضّ الطرف عن الأسباب الأخرى التي ربما تكون هي العامل الحاسم في هذه المشكلة أو الظاهرة التي تجتاح العالم كلّه وليس عالمنا العربي والإسلامي فقط .
فالبعض يُرجع قضية الإرهاب والتطرّف إلى الجهل وقلّة الدراية بأمور الدين والدنيا. ويراها البعض الآخر أيضاً نتيجة من نتائج الفقر والبطالة في العديد من المجتمعات العربية. ويراها بعض ثالث نتيجة من نتائج القمع السياسي والاستبداد وغياب الحرّية والديمقراطية. ويراها بعض رابع مشكلة نفسية واجتماعية و أسرية .. إلخ .
المهمّ أن هذه المشكلة متشعّبة ومتداخلة ولا يمكن حصر أسبابها بعامل واحد. فالإرهاب الذي انبثق من أفغانستان منذ أواخر القرن الماضي – هذا البلد الفقير المتخلّف عن ركب الحضارة والتمدّن- لم يأتِ كردّ فعل على قوى الحداثة التي اجتاحت تلك البلاد. إذ إن أفغانستان، هذا البلد الذي يعيش ظروفاً قاسية منذ عقود عدّة، والذي لم يعرف الحداثة أو ربما منتجاتها أو ابتكاراتها الجديدة منذ زمن طويل، اعتملت فيه على الرغم من ذلك الكثير من العوامل التي ولّدت فيه التطرّف والإرهاب.
لكن للإنصاف نقول إن هذه المواقف المتطرّفة التي تولّدت هناك جاءت كردّ فعل على إرهاب الدولة السوفييتية آنذاك عندما غزت أفغانستان في إطار ما سُمي في ذلك الوقت بالحرب الباردة. حيث تحرّكت عواطف الكثيرين من شعوب الدول العربية والإسلامية نتيجة هذا الغزو في سبيل الجهاد ضدّ المحتلّ، وبدعم عددٍ من القوى آنذاك، في إطار الصراع الدولي لمناهضة الوجود السوفييتي.
إذن ما نتج من تطرّف ومن مواقف متشدّدة في أفغانستان كان بسبب إرهاب الدولة السوفييتية التي خرجت من أفغانستان وتركت البلد يعجّ بمختلف الأفكار والأيدلوجيات والمواقف السياسية والحزبية المتعارضة. بحيث خرج الصراع الداخلي بين الجماعات والفصائل إلى الخارج بصور شتّى، ولم يكن للتحديث الغربي أيّ شأن في هذه المشكلة الأفغانية الشائكة .
كذلك لم تكن الحداثة مسؤولة عن العنف أو التطرّف أو الإرهاب الذي عبّرت عنه الأزمة الجزائرية وما خلفتّه من اقتتال داخلي بعد إلغاء الانتخابات التشريعية، بل تعود المسؤولية إلى تداخل المشكلات السياسية والدينية والاجتماعية.
صحيح أن بعض مؤسّسات صناعة القرار في الغرب استغلّت بعض الممارسات الخاطئة لبعض المسلمين وحاولت – وما تزال- ربطها بدين الإسلام نفسه، حتّى أن البعض صرّح بأن الإرهاب والتطرّف يَكمنان في تعاليم الإسلام، وبأن الإرهاب الذي انفجر في الحادي عشر من سبتمبر 2001 ينبع من هذا الدين الذي يحثّ على الكراهية وعلى العنف ضدّ الآخر، لكنّ ذلك بالطبع مجافٍ للحقيقة. فالإسلام – وباعتراف الكثير من الباحثين الغربيّين أنفسهم – تعامل مع الآخر بإنصاف وانفتاح.
لكن الغريب أن ما حدث للشعب البوسني المسلم في أواخر القرن الماضي، من قتل وتنكيل وترهيب لم تشهد الدولة الصربية مثيلاً له من قبل، لم يؤدِّ إلى تحميل المسؤولية للديانة المسيحية أو للكنيسة الأرثوذكسية.
الخلاصة أن الإرهاب والتطرّف هما قضيّتان أكبر من أن تُختزَلا بعامل واحد بمعزل عن العوامل الأخرى. ولعلّه من الإنصاف أن تتمّ دراسة كلّ ظاهرة بما تستحقّه من تعمّق وبحث واستقصاء حتى تأتي المعالجة شافية وناجعة.
****
(*) سلطنة عُمان
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة أفق