الأديب مازن ح. عبّود
صارت تنشر يوميا ورقة انتزعتها من شجرة الكرمة، التي تظلل سطيحة منزلها، على شريط الغسيل، وذلك ابتداء من ليلة عيد الصليب-شرقي وحتى اثني عشر يوماً بعده. وتروح تحصد في اليوم التالي ورقتها من شريط الأيام. وتعود فتعلق أخرى حتى الورقة رقم 12 من اليوم الحادي عشر بعد العيد.
وكل ورقة تمثل شهراً من أشهر السنة. وتصير تقرأ الورقة تلو الأخرى كل يوم تباعاً. وتتأمل في مضامينها لمعرفة أحوال الطقس على مدار أشهر السنة بحسب اليباس أو النضارة، فاليباس طقس مشمس والنضارة شتاء. هكذا كانت تقرأ “البواحير”.
كان هذا يتم في أيلول. وفي أيلول، تكدّ “أم ابراهيم” وتعمل مع أولادها كخلية نحل لإعداد المؤنة للشتاء. فالدنيا على شفير حروب وتوترات. والشتاء على الأبواب. علقت في ذاكرة “برهوم” كلماتها: “أنّ الطبيعة لا ترحم “زيز الحصايد” يا أولاد. فإياكم أن تكونوا إلا نمل. ولا بدّ للثلج أن يأتي ويهلك، كل من لا يعمل، جوعاً. أتى موسم الفلاح. أتى موسم العمل والمدارس والفلاح. وفي المدرسة يكرم التلميذ او يهان”.
إلا أنّ الصبي كان يشعر بألم في معدته كلما اقتربت مواقيت المدرسة. فهي سجنه بعد طول حرية في أفياء الطبيعة. إنها السجن وهو يكره السجون وسجّانيها. كان صعباً عليه أن يتعلب في غرفة. اين الصيف وساحاته؟؟
كان يصعب عليه أن يسجن أحلامه وتطلعاته وخيالاته ضمن حوائط. كان يصعب عليه أن ينتقل من أحضان الأشجار حيث كان يغني ويلهو كملك. ويتحوّل إلى رقم مرمي في صف، يستمع إلى استاذ يلقي عليه ما يعجبه وما قد لا يعجبه.
كان يتمنى، أحياناً، أن تتدمر “كفرنسيان” وتزول المدرسة ويعيش هو في الغابة حيث ينتمي. ولكم شاغب كي يهدم حوائط الصف!! ولكم اطلق لخيالاته العنان، فخرجت أحلامه بعيداً، أبعد من ذلك الصف المجاور لكنيسة مهجورة!! فصار يحلم بمملكة. وعاد فاستفاق من أحلامه على صوت استاذ مزعج. أعاده إلى واقع الصف.
إلا أنه صار يتعايش مع الواقع أكثر. فراح يجالس المشاغبين. فأحبّ زعيمهم “جيجو” الملقب بالفأر، كثيراً. ذاك الذي تسلل إلى دفتر العلامات مرة. وأضاف على عجل واحداً على علامته المتدنية. فصارت علامته في الرياضيات واحداً وسبعين على عشرين. مما دفع الاستاذ “منير” إلى التوقف ملياً عند العلامة وتسمية الفأر بـ”انشتاين”. فقد عرف الاستاذ تلامذة استثنائيين نالوا علامات مميزة خلال مسيرته التعليمية. إلا أنّ علاماتهم ما تعدت في أحسن الأحوال سلم العلامات أي العشرين. أما الفأر فقد نال ما يزيد عن خمسين نقطة فوق السلم.
فكان أن دعا التلميذ إلى النهوض للاستفسار عن الموضوع. فحصل هرج ومرج. واحمرّ الفأر خجلا كثمرة طماطم، وتمرمر. وكان أن اضرم النار في دولاب مقعده الدراسي حيث كان يضع دفاتره، بحجة التخلص من بعض النفايات، ولولا قوة قادر لكانت النيران التهمت الصف كله.
فكان أن ترك “برهوم” جليسه الفأر الذي أضحى في عيون الإدارة إرهابياً، مخافة الاحتراق. وقد شكته معملته النكراء إلى والدته. فكان أن انتقل الى الجلوس قرب الفتاة الشقراء والبلهاء، يلهو وإياها، ويتبادل معها أطراف الحديث على قدر سعة صدر الاستاذ أو المعلمة. ولولا صحبتها لكان قد هجر مقعد الدراسة. كانت معدلات الانتباه عنده بالحدود الدنيا ومعدلات الدرس شحيحة للغاية. إلا أنها كانت كافية لتأمين نجاحه بامتياز ولدرء أي شكوى او ملاحظة قد توجه اليه.
ولمّا فاتحته أمه بالموضوع. أبلغها بأنه يكره الامتحانات، والغرف والسجون. أبلغها بأنه يكره الحشو والحفظ والترهيب. فهذا ما يجعله يمتهن الإبحار في الغرف بحثاً عن الحرية.
فكان أن افادته انّ الحرية مرتبطة بالروح. والحرية تخرق الجدران والأمكنة كي تصل إلى الغيوم. والحر من يفهم نفسه، ويعرف كيف يرتقي، كي يصل إلى النجوم. قالت له: “لكم تنقل عبيد في عالم الأحرار مكبلين، ولكم عاش أحرار حريتهم وهم في سجونهم قابعين!! فالحرية لا ترتبط بالأمكنة إنما هي حالة يكتسبها الإنسان في جهاده كي يصير أفضل”.
وصار “برهوم”، عند حلول أيلول من كل عام، يتذكر أمه و”البواحير” والحرية. وقد عقد العزم أن يكون حرا. لذا، فانه سرعان ما صار ينتفض على نفسه إذا وقع في عبودية مقتدر، أو أدمن في حب مادة.