الأديب إيلي مارون خليل
فلا شكّ في أنّ النّسيان، في بعض الحالات، نعمةٌ كبرى. كيف؟
أنت متضايقٌ من أمرٍ ما؛ من حدثٍ ما؛ من شخصٍ ما؛ من جماعةٍ ما… تقضي عمرَك منزعجًا، تشعر بيباس أيّامك، بانطفاء طموحِك، باكتئابِ نفسِك، بهشاشة كلّ شيء…
ألمنزعِجُ ِعاجزٌ عن التّفكير. عاجزٌ عن العطاء. عاجزٌ عن الفرح. فعمرُه هشاشةٌ، وآفاقه قصيرةٌ، ومحدودةٌ، وفقيرة.
ألعاجزُ عن التّفكير؟ متخبِّطٌ في أوحال الارتباك والفوضى. متلجلجٌ في مَسَوَّدات تخطيطات ناقصة، لن تكتملَ، أبدًا؛ وتالِيًا، لن تكون موضعَ تنفيذٍ يومًا! فالآفاقُ جدرانٌ مَسدودةٌ، مُعْتِمة!
أليابسةُ أيّامُهُ؟ متفرِّدٌ بوحدته. مُتَفَرِّدٌ بشقائه. مُتَفَرِّدٌ بانتفاء طموحِه! هذا لا يمكنُه أن يتواصلَ مع السِّوى. مُتَشَرْنِقٌ. يُعرِّضُ ذاتَه لسُخْرِ الآخَرين. يُضحي فُتاتًا يتناثر في كلّ ريحٍ، فلا قيمة له، ولا اعتِبار.
ألمُنطفئُ طُموحًا؟ نزيلُ سجنٍ، اختارَ، بنفسِه، زنزانةً فيه، فلا ينشطُ، ولا يُظهِرُ ابتسامةً، ولا يستطيع أن يَخرجَ من صدفةٍ، هو وضع ذاته فبها، فاختنق! و”لاتَ ساعةَ مَنْدَمِ”!
ألمُكتئبةُ نفسُه؟ ممتلئٌ حزنًا كثيفَ الاسْوِداد، بطيءَ النّفَسِ، مُنْسَدَّ النّفْسِ، مرتبك الخطواتِ، يَحارُ لا يَحزِمُ، يختلج لا يستقرّ، منطفئَ الأحلام، لا يجرؤ على الاستفادةِ منها، ولا يستطيع إطلاقَها، فتيبس وتنكسرُ.
ألهشُّ؟ ضعيفُ الهِمّةِ، مشلول الإرادة، منكسِرُ الرَّغبةِ، فاقدُ العزمِ، يابسُ العمر… وهو مُشِعٌّ خوفًا، يعيش غباوةً، لا يشعر بضَياعِ العمرِ، ولا بغدْرِ الأيّام، ولا بسرعة الزّمن!
غريبٌ مَن كان هذا وضعُه، وعجيب!
كيف يستطيع الإنسان، والمُثَقَّفُ، قبل أيٍّ آخر! أن تكونَ حياتُه خاليةً، أو فقيرة، أو يابسة، أو منطفئة!؟
فالثّقافةُ، أساسًا، طريقةُ حياةٍ مكتنزة بالتجارب، بالاختبار! ملأى بالفكر، غنيّة بالرّؤى! متحفِّزة بالرّغبةِ، منطلِقةٌ بالطُّموح! لا تنظر إلى الوراء، إلّا لحِكمةٍ، لعِبرة، لاستفادة.
إحلم، يا رجل! ألا ترغب في نسيان ما يُزعِجُك!؟
فأنت، أينما كنت، ترى ما يُسَمِّم رؤيتَك! مخالفاتُ البِناء، مثَلًا. تسمع ما يُشَوِّه ذوقَك! أغنيات “فنّانات” هذا الزّمن الأصفر، التّافه. تشمُّ ما يُزْكِم الأنوفَ! مكبّات النُّفايات. تلمسُ ما يخدشُ الأخلاق! أخبار الهدر في الوزارات. تذوقُ ما يجعلك تأنف، فتهرب! سَفْسَطات “المسؤولين”… ومعًا نترحّمُ على زمن انقضى، كان فيه دواء لا رياء! جمالاتٌ لا بَشاعات! قوانين لا عنتريّات! وديع الصّافي وفيروز لا “قبابيط” الغناء، كما اليوم! زمن! كان فيه من القِيَم، أكثرها نُبْلًا؛ ومن الأخلاق، أسماها، ومن الثّقافة، أرقاها! ومن الدّين الإيمان، ومن الفكر الأعماق، ومن الحضارة أكثرها تلوينات وأنماط حياةٍ مستحَبّة وراقية!
إحلم، يا رجل! تستعِدْ تلك الأيّام… وتنس ما في اليوم من تفاهات!
إحلم، تحيَ سعيدًا…
ألثُّلاثاء 2- 9- 2014