الأديب مازن عبود
صار يتردد على “إيفلين” التي قيل إنها تتواصل مع الأرواح. إلا أنه ما وجد عندها إلا معدة مرتبكة وغازات تنبعث مع الكلمات من فيها، وأفكار مشوشة، وتصرفات غريبة.
أراد فعلا أن يتواصل مع من رحلوا. فتذكر أنّ جده أبلغه يوماً أنّ عند قمة “الشير” العالية كتبت أسماء. وأنّ الريح والنسور كانت توافي عادة إلى هناك فتحمل من الأرض رسائل إلى السماء.
سمع “نغم” الشير يردد من خلف “ابراهيم” صدى كلماته. سمع الشير يقول من خلفه: “ينتابني حنين إلى لحظات فقدتها ولا يمكن أن استعيدها. أشعر بأني اريد تقبيل أناس عرفتهم ولم أقبلهم. أريد أن اعترف لهم وأقول لهم كم أحبهم. إلا أنهم قد أضحوا في الضفة الموازية وما بيني وبينهم نهر الحياة، نهر العبور. خذني يا رب إلى حيث الصحارى، أرني واجعلني أتذوق ألـ “لا هوى”. فأتحرر من كل هذا”.
إلا أنّ كلمات “ابراهيم” اختلطت بصدى خرخرة المياه الخارجة والمسافرة إلى الأبد دون توقف. كأنّ الكلمات أضحت صلاة. ظنّ “نغم” أنّ “ابراهيم” يكلّم نفسه، فتحيّر. اعتقد بانه لحق أترابه من المجانين. قال عنه إنه يردد جملا من كتاب التربية، وقد علقت في ذاكرته حتى اضحى يرددها كمجنون. ظنّ أنّ الرجل قد جنّ. كثيرون من أفراد ربعه سبقوه إلى الجنون. فكثرة العلم تجرّ الحزن والمرارة، حتى الجنون. “مسكين “ابراهيم” لحق بهم”. وصار يندبه، قائلا:
“سكابايا دموع العين سكابا جنّ الصبي وشو نفع العتابا”.
أبصره “ابراهيم” من بعيد، وسمعه فحزن. إلا أنه، للمرة الاولى، راح يتأمل فيه. كان “نغم” فقيراً وفرحاً. ما كان يملك إلا مذياعه يطوف به في أحياء “كفرنسيان”، يردد أغانيه. ما عرفه يهتم لشيء أو ينتمي إلى أحد. لم يكن له بيت أو ثياب أو مقتنيات أو عائلة. كان يقتات من عمله إذا عمل. شعر “ابراهيم” أنّ مجيء “نغم” في تلك اللحظة، إلى ذلك الموضع، لم يكن صدفة أبداً.
علّه أرسل كي يتعلم منه شيئاً. فالـ “لا هوى” لا يأتي الا من الحرية. والحرية ثمرة التحرر من كل شيء. إنها ثمرة الغربة. عندها يصير البشري نغماً يداعب الأرواح التي تحررت بدورها من أشيائها كي لا تصير هائمة. نظر “ابراهيم” إلى أعلى، فرأى النسور فوق “الشير” المنتصب كحائط يصل الأرض بالسماء، ترفرف. لوّحت له ومضت.
حاول “ابراهيم” أن ينادي “نغماً”. إلا أنه كان قد مضى إلى “كفرنسيان” البرية، وذلك بالرغم من كل بشرها. مضى إليها إلى قفره، وذلك بالرغم من كل قصورها.
عاد “ابراهيم” إلى حيث ينتمي، وهو يفكر في كل تلك الأمور. فوجد فتيان الحي يدقون على تنك حاملين رايات. كانوا يسيرون بوقار وصمت في غروب ذلك اليوم حاملين نعشاً صغيرا، وهم يهمسون أناشيد غريبة. فعلم أنهم يشيّعون قط “إيليا” “نميص” الذي قتلته أيدي الغدر بسيارة مسرعة. ضحك جداً من إيقاعاتهم وانغامهم وتصرفاتهم على أضواء شمس المغيب.
كلام الصورة
اللوحة للرسام التشكيلي اللبناني مصطفى فروخ