من أين ينبع الشر؟

الأديب سعادة أبو أعراق

واضح لكل إنسان أننا نولد أطفالا وعقولنا ما زالت خامدة وغير فاعلة ، لكن الطفل منذ الولادة يتصرف saada-abou-aarak-1بدافع من الغرائز وليس بدافع من العقل، بل بناء على رغباته الغريزية, يبكي إذا ما تهدد أمنه، أو أحس بألم، ويحوز ما يشاء بالسطو ووضع اليد، ويحب الاستطلاع، وللتفصيل في ذلك نقول إن غرائزنا الأساسية هي ست, وهي كالتالي:


1- غريزة البقاء: وهي أقوى الغرائز وأكثرها يقظة وتحفُّزا،تظهر عند الولادة ويعبر عنها الوليد بالبكاء،لأنه افتقد الأمان، ذلك أن مهمتها الحفاظ على بقاء الإنسان على قيد الحياة ، وهي غريزة موجودة في كل الكائنات الحية.

2- غريزة الامتداد ، وهي غريز التوالد أو البنوة، ففي التوالد نوع من الخلود، لذلك توجد رغبة في الإنجاب، ورغبة أن يكون لك آباء وأجداد وعائلة, إن التوالد غريزة موجودة عند الكائنات الحية جميعها.

3- غريزة الميل الجنسي أو الحب : وهي ضرورية لإقامة أسرة ، فرغبة الرجل هي أن يعيش مع امرأة، ورغبة المرأة هي أن تعيش مع رجل، هذه رغبة غريزية، نمارسها وكأن هناك سحرا يجذب الرجل إلى المرأة, والمرأة للرجل، ولو كانوا في أرذل العمر, لكنها ضرورية لإقامة أسرة, لتكون حاضنة للمواليد، وضمان حياتهم.

4- غريزة التجمع: ويعبر عنها أن الإنسان كائن اجتماعي أو مدني بالطبع، وهي تتمثل في الأسرة والعائلة والعشيرة ، والطائفة والإقليمية والقومية والإنسانية، ومن مظاهرها العمل السياسي والدفاع عن الوطن والجماعة, والاستشهاد في سبيل الجماعة والدفاع عنها.

5- غريزة التملك ونلاحظها عند الأطفال بأنهم يحاولون امتلاك أي شيء تقع عليه عينه أو يده ، بل يغتصب ما بيد غيره من الأطفال، وتظل هذه الغريزة ملازمة لنا حد الشيخوخة فنجمع الملايين والمليارات، ولا حدود لرغبتنا في التملك.

6- غريزة المعرفة: وتظهر بداية بحب الاستطلاع الذي يمارسه الأطفال وإبداء دهشتهم لكل ما تقع علية أعينهم ، ويبدؤون بمعاينته وتذوقه وفكفكته وضربه،وهذه الغريزة هي التي تدفعنا إلى البحث وطلب العلم والتجريب والاكتشاف، بل ندفع حياتنا ثمنا لأفكارنا ومواقفنا.

وبعد هذا العرض الموجز نفهم منها ما يلي:

1- انها غرائز نشأت في الإنسان قبل أن يولد العقل ، لذلك فإن العقل لا يستطيع أن يبررها أو يعللها، وتعتبر مطالب هذه الغرائز بديهيات لا تناقش، ومن هنا يكون تلبية مطالبها أمرا حياتيا ضروريا.

2- وبما أن العقل لا يستطيع أن يعرف لماذا يحرص على بقائه حيا ولماذا يتزوج وينجب ذرية ، ولماذا يحب المرأة والمرأة تحب الرجل, ولماذا يريد المليارات ،ولماذا يستشهد من اجل الجماعة، ولماذا يتعب المفكرون أنفسهم في الدراسة والبحث والاكتشاف والتفكير، وهكذا فإن العقل حينما لا يجد مبررا للرفض فإنه يصبح خادما لهذه الغرائز، فيفكر ليجد السبل الكفيلة لتحقيق مطلب هذه الغرائز.

3- وبما أننا نختلف في قوة تفكيرنا، فإننا سنختلف في قدرة كل منا لإشباع غريزة من غرائزه، غير ما يشبعها غيره، فبعضنا إن كان بحاجة إلى لباس أو غذاء فمن المحتمل أن يسرقه من غيره أو يسلبه، إما آخر فيذهب للصيد في الغابة يأخذ منها حاجته، ويمكن أن يقايض ما قنصه أو قطفه أو ما جمعه من حطب بما يريد من جلود يلبسها أو غذاء يريده, إذن فإن الخطأ نابع من العقل الذي اختار الفكرة غير الصحيحة، التي أنتجت خطأ أو ضررا أو شرا, وذلك بسبب غريزته التي ألحت عليه ، ولم تمهله لأن يفكر مليا، فوجد في السرقة اقرب السبل وأسهلها، ففعل بذلك شرا.

4- إن المجتمعات البشرية لم تصل إلى التمييز بين الخير والشر، إلا بعد معاناة طويلة مع الشر ، ومن هنا نستنتج أن مفهوم الخير قد نبع من فهمنا وتوصيفنا للشر، إذن فالشر سابق على الخير، وفعل الخير هو ما يكون مناقضا للشر.

5- إن فعل الخير لا يكون بهجاء الشر أو تحريمه، إنما يكون بالقدرة على تدجين الغرائز، حيث لا نترك لها سطوةً طاغية أو مطلقة على العقل، وبذاك يبدأ مشوار تدجينها.

6- تدجين الغرائز لم يكن فعل فردي للإنسان ، إنما هو فعل جماعي، وحينما بدأ المجتمع في تدجين الغرائز، انتقل هذا المجتمع البشري من مجتمع الغاب إلى مجتمع الحضر، بدأت الحضارات البشرية تنشأ، ونشأت معها القيم والمبادئ الأخلاقية، التي تصنع وئاما بين أفراد المجتمع أي أصبح المجتمع له نفس المفاهيم والقوانين المشتركة، وكلما استطعنا أن ندجن الغرائز كلما ارتقينا أكثر في الحضارة والتقدم والإنسانية.

7- والأخلاق وفق هذا التصور هي القدرة على إيقاف اندفاع الغرائز في مطالبها، وجعل عقل أكثر قدرة على لجمها واندفاعها الأعمى، ذلك اننا ادركنا أن ايقاع الأذى والضرر عمل لا نقبله لأنفسنا ، لذلك لا يجب ان نقبله لغيرنا، إذن فالأخلاق هي قوة العقل في مواحهة الغرائز.

8-  فالشر إذن هو تلبية مطلب غريزي بطريقة غير صحيحة، ولو فكر الشرير تفكيرا صحيحا وعلى روية ، فإنه لن يصل إلى أفكار خاطئة يضر بها نفسه أو يضر الغير، إذن فإن الشر ناتج عن تفكير غير سليم، لتلبية غريزة من الغرائز، وليس من وسوسة الشيطان.

9- وسوسة الشيطان ما هي إلا إلحاح الغرائز على العقل لكي يشبعها ، وهو ما نسميه بالعاطفة ،هذا هو ما يحوك في أنفسنا لكي نفعله، وهو يبدو خارج سيطرة العقل وتبريره ، لذلك بدل أن نفهم هذه الآلية النفسية المعقدة، نعزوها إلى الشيطان، وهو أقرب إلى التصور والاستيعاب، لأناس تستريح عقولهم للأساطير.

10- إنه لم يكن من المناسب أن يخاطب الله الناس بهذا الأسلوب المنطقي أو الفلسفي، إنما خاطب البشر بأسلوب الحلال والحرام ، فالحلال هو ما أحله الله ، والحرام هو ما حرمه الله، وما أحله الله هو مفيد للفرد والمجتمع، والمحرم هو المضر للفرد الفاعل والمجتمع، والحلال هي الأفعال الخلقية المفيد للإنسان، والحرام والحرام هي الأفعال الآبقة المضرة للجنس البشري، وبالتالي فإن الله يثيب على الفعل الحلال ويعاقب على الفعل الحرام.

11- إن الطريقة الغيبية التي انزلها الله إنما هي إحدى الوسائل الممكنة التي كانت تناسب مجتمعا قديما ، وأسلوب لتجنب سطوة الغرائز التي لم يكن بإمكان احد أن يفهما على هذا النحو الذي قدمناه، والتي كانت تبدو وكأن كائنا مخفيا أسميناه شيطانا يدفعنا لأن نقترف أمرا خاطئا، لتلبية غريزة ما كالزنا أو السرقة أو التخريب أو الكسل عن عبادة الله، وهو ما يشبه رغبة المدمن على الكحول أو المخدرات، يجد نفسه أمام أمر لا بد منه، وهنا نلتجئ إلى الله ونتذكر عقابه فنرتجع عن فعل الشر.

12- إذا أصبحنا عقلانيين في فهم مصدر الشر ، بأنه خطأ في التفكير، والرضوخ لمطلب الغريزة وليس لمطلب الشيطان ، فهذا يجعلنا نعيد التفكير بمنطق عقولنا القاصرة، لا أن نلعن الشيطان، فالاكتفاء بلعن الشيطان هو تكرار للفعل الخاطئ، لأننا لم نعرف السبب الحقيقي.aarak

13- هل الله يهدي إلى الخير ، نعم إنه يهدي إلى الخير في كل ما أمر ونهى عن الشر، ولكن ليس كما لو أن شخصا يوشوشك في أذنك، المتصوفون الذين استبطنوا ذاتهم وتوصلوا إلى مصطلحاتهم الصوفية في مراتب القرب من الله، وأظن أن أي واحد منا بقادر على ذلك إذا ما استبطن ذاته، سيشعر حتما بوجود الله حوله أو قريب منه، ولكن ما أشعر به أنا لا يمكن أن يشعر به غيرى، كما لو انه حلم، فأنا شخصيا لدي إحساس بالله يرعاني ويحيطني بعنايته ، فأجده ينقذني من تهوري وحماقاتي التي كادت أن تودي بي, وحاجاتي الملحة التي لباها لي بعد أن فقدت الأمل ، إنها الكرامات التي يقول عنها المتصوفة، كرامات لا تصلح للنشر أو التحدث بها للآخرين، لأنها حين تذكرها للناس تبدو حدثا عاديا، بل منطقية ومسببة، ولكن أنت وحدك الذي تشعر أنها غير عادية فتعتبرها كرامة، لن أقص ما حدث معي مرارا لأن عند كل واحد منكم كراماته التي يرى بها الله قريبا منه ويرعاه، هذه الكرامات ليست جاهزة عند الطلب، لأن الله يعطي حسب مشيئته لا حسب مشيئتك, لكنها تأتي على موعد، لذلك ترى فيها الكرامة، حين يصعب على عقلك فهم كل هذه التوافقات، قد يتفاجأ عقلك حين يعثر على الحل، لكنها تبدو نتيجة منطقية لمحاولات التفكير الجادة التي مارسها عقلك، ولك أن تفسرها بما شئت، أهي الهام أو عناية إلهية أو كرامة، ولكن لا تعتبر كسل عقلك وعدم قدرته على التفكير السليم من الشيطان.

اترك رد