كيف حالكم مع الإنحطاط؟

الأديب الياس خوري

«يجبُ الذي يجبُ في كل مِئذنةٍ حاوٍ ومغتصبُ يدعو لأندلسٍ إن حوصرتْ حلبُ».
elias-khoury.-1jpgهل كان محمود درويش يعي عندما كتب هذه الأبيات أنه لم يكن يكتب إستعارة، بل كان يصف ما ستؤول اليه أحوالنا في القرن الحادي والعشرين؟

الاستعارة في الشعر لحظة باهرة، خصوصاً حين تفاجىء في قدرتها على تحويل الخيال الى صورة مقمّطة بغموض الإحتمالات. فحين يكتب السياب: «عيناك غابتا نخيلٍ ساعة السَحَرْ»، أو حين نقرأ المتنبي: «كأنكَ في جفنِ الردى وهو نائمُ»، أو حين يشطح أبوتمام ليقول: «تاهتْ على صورةِ الأشياءِ صورتُه/ حتى إذا كمُلَتْ تاهتْ على التيهِ»، أو حين نقرأ كيف «سقط الحصان عن القصيدة» كما كتب درويش، فإننا نُصاب بطرب إيقاع المعاني التي تأخذنا الى آفاق بلا حدود.

نقرأ الإستعارة بصفتها حقيقة الحقيقة، أي صورة للمعاني المضمرة في المعنى، تحرر الواقع من واقعيته، وتأخذنا الى ما يمكن أن نطلق عليه إسم البعد الروحي للشعر، وهو بعدٌ لا علاقة له بالأديان، لأنه بعدٌ إنساني محض.

أما حين تتحوّل الإستعارة الى حقيقة جافة، فإنها تصير رعباً مطلقاً ومجموعة من الكوابيس المتلاحقة. لا يمكن لعيني الحبيبة أن تكونا شرفتين، على ما زعم السيّاب، أو أن «تُرسم الأرض إجاصة أعني ثدياً» كما اقترح أدونيس، أو أن تكون «عيونُ نساءِ الشام أقداحُ» كما في قصيدة لنزار قبّاني، ففي اللحظة التي تقرأ فيها الإستعارة كحقيقة يزول سحر الأدب وينحلّ بعده الروحي.

وهذا ما سبق أن اشارت اليه التجربة السوريالية في مطالع القرن الماضي، فالفعل السوريالي، بحسب الشاعر الفرنسي اندريه بروتون، هو أن تحمل مسدساً وتنزل الى الشارع وتطلق النار. كان بروتون يؤلف صورة شعرية وعلى هذه الصورة أن تبقى في مكانها ككلمات، والا فإنها تصير دعوة الى الجريمة.

من النادر أن تتحوّل الإستعارة الى ما يشبه النبؤة العلمية، لكن عبارة بول ايلوار: «الأرض زرقاء كالبرتقالة»، اثبتت أن هذا الإستثناء ممكن ويؤشر الى طاقات الخيال غير المحدودة.

أعود الى الإستعارة الدرويشية التي بدأتُ بها لأنها حمّالة أوجه، إذ نستطيع أن نقرأها في سياقها التاريخي لنقول أن شاعر فلسطين الكبير كان يصف بواقعية الوضع العربي في السبعينيات. استعار درويش صوت الشاعر، بحسب الوصف الذي أطلقه المعري على المتنبي، وأقام «على قلقٍ كأن الريح تحتي/ أسيّرُها يميناً أو شمالا»، ليهجو أنظمة الإستبداد العربي، في صورة المئذنة التي يعتليها لصوص السلطة من أجل تناسي الموضوع. فالموضوع هو الحاضر المحاصَر الذي يتم تغطيته بالحنين الأندلسي البائس.

كان درويش يقصد فلسطين حين تكلم عن حلب، وكان يعني الكذب عندما أشار الى الأندلس. ففلسطين ليست الأندلس، إنها حلب سيف الدولة المحاصرة بالروم على الجانبين: «وسوى الرومِ خلف ظهرك رومٌ/ فعلى أيِّ جانبيكَ تميلُ».

في السبعينيات لم يكن لصوص السلطة يعتلون المآذن، كانوا قوميين وعلمانيين أو هذا ما ادعّوه لأنفسهم، وكان مشروعهم الفعلي هو «بعث» شكل حديث من أشكال الحكم المملوكي. فأقاموا الجمالك أو الجمهوريات الوراثية، وقمعوا ونهبوا بلا حدود. «المئذنة» في قصيدة درويش كانت استعارة ولم تكن حقيقة. إنقلابيو «الإنبعاث» الكاذب اعتلوا الإذاعات والتلفزيونات ولم يعتلوا المآذن. تلاعب الشاعر بالمعاني وكسر نوستالجيا الأندلس والإنبعاث الكاذب، وأخذ قارئه الى الحقيقة العميقة التي بنتها الإستعارة.
لم يدُر في خلد الشاعر أن الأيام الآتية على العرب سوف تقوم بتدمير الإستعارة محوّلة اياها الى واقع سياسي يمتد من العراق وسوريا ولبنان الى ليبيا واليمن…

والحق يُقال أن الإسرائيليين سبقوا الجميع الى شرب هذه الكأس، فقد قاموا بتحويل الأسطورة الدينية التوراتية الى تاريخ وواقع سياسي، مجردين الدين من أبعاده الروحية وقيمه الإنسانية، ومحولين الإيمان الى وصفة للهمجية. وهذه مسألة تحتاج الى مناقشة خاصة، ليس مكانها هنا.

نعود الى الإستعارة الدرويشية التي صارت واقعاً، ننظر الى ما يجري بعين العقل فنرى الآتي: الخليفة البغدادي يقاتل في كوباني والأنبار ويشرف على القتل من مئذنة جامع نور الدين زنكي في الموصل، الرقة مستباحة بالكامل، أما في لبنان فلم تكتف «النصرة» و»داعش» في عرسال، بل أعلنت القتال في طرابلس الشام وفي عكار في شمال لبنان، حزب المقاومة الإسلامية يقاتل في القلمون، الديكتاتور السوري يقاتل في ريف حماه، هذا من دون أن ننسى بنغازي وسيناء والحرب الزيدية-الشافعية في اليمن.

البغدادي يبعث الخلافة، و»القاعدة» تبعث السلفية، وحزب الله ومن خلفه ايران يبعثون الفقيه ويولونه على الناس، وبشّار الأسد هو الباعث الأعتق لأنه ينتمي الى حزب البعث الذي تحوّل من بعث العرب الى بعث المماليك في زمن انحطاطهم. حواة ومغتصبون يعتلون المنابر والمآذن ويمسكون بتلابيب حنين غامض الى ماضٍ لم يأخذوا منه سوى استبداده ووحشيته، يدعون لما يشبه الأندلس في الوقت الذي يقوم فيه الإحتلال الإسرائيلي بوضع اليد على القدس.

القدس محاصرة بالقمع والإرهاب والإستيطان، أطفال المدينة يُقتلون، المسجد الأقصى في خطر حقيقي وداهم، والدم في شوارع المدينة العتيقة.

الحواة والمغتصبون يبررون انحطاطهم وذلهم واستبدادهم بالحنين الى أساطير الماضي، تاركين القدس لشعبها في مواجهة آلة عسكرية متفوقة، تريد مسح حاضر العرب وماضيهم، والدوس على راهنهم وذاكرتهم.

الحواة والمغتصبون يقودون المشرق العربي الى الإنحطاط الشامل بإسم اليقظة والإنبعاث، وحلب محمود درويش، أي فلسطين، محاصرة بالغزاة. مغولان يتناوبان على تحطيم المجتمعات العربية، وفوقهما طائرات التحالف الأمريكي التي تتفرج بالقصف، وتدفع العرب الى التوغل سقوطاً في الهاوية.

الطفل السوري الذي لطّخه وحل المطر في أحد مخيمات النازحين العشوائية في لبنان، هو توأم الطفل الفلسطيني الذي قتله رصاص الغزاة في القدس.

يا إلهي، هل صارعلينا أن نكره استعارة المطر السيّابية لأنها تلطّخ وجوه الأطفال السوريين اللاجئين بالوحل والمذلة؟ أم صار علينا أن نرفض استعارتنا للأندلس، لأنها صارت وسيلة القتلة لحرف أنظارنا عن فلسطين والإستمرار في قتلنا؟

هل نجح السفهاء منّا في «بعث» إنحطاطنا وحده؟ أم ماذا؟

*****

القدس العربي 28-10-2014

اترك رد

%d