الوزير السابق جورج سكاف
أبا الأُنس،
أهلاً بعودتك الى زحلة الغالية،
أنتَ فيها ما يتجاوز المَسامعَ إلى ما بعدها، يقدّر قدرها ما تناولته في حياتك وفي أدبك وشؤون الفكر والخلق والبديهة، تتفانى في بذل غواليك في مجالسها ومحاضرها التي تحيا متجدّدة في ذكراك.
غِبتَ عنها غيبةً لم تألفها منك، فكنتَ كثيرا ما تذهب وراء سراب برّاق، في مغامرة تستكشف فيها الكون وتحيا الوجود، وتعود من فراغ لتقوم بعمل جديد ياخذ منك ولا يأخذك، تتلقى علوما حديثة تبرع فيها ولا تستهويك. لكن معالم الانسان الزحلي فيك تترسخ في مجاورتك ومكالمتك، بين أهلك وأصدقائك ومحبيك. كأن كل فترة منها لا تزال تعيش بعد غيابك. يلتذ الزمانُ أنها كانت منه. والعمرُ كله يكاد يُحتسب منها.
غيابك كان قاسيا على زحلة وعلى رفاقك، ودّعتهم بوديعة من غُربَتيك كما ودّع أمير الشعر بطل الاستقلال:
ما على الحُبِّ إن مضى الأَحبابُ تسلمُ الذّكريات والأَسبابُ
ذكرياتك كثيرة:
لي ذكرى خبأتها في الزوايا لا تُنفّّضْ عنها غُبارَ التراب
إنتظرتكَ في الزوايا الحميمة، لا يُضيرها غبارُ السنين، يُعتّقُها فتطيب، كما الخمرة المعتقة تطيب مع تقادم الايام.
ذكريات بقيت لتهنأ بها وحدك وتؤنس اصحابك:
وإخالني وحدي ألمّ بقيّةً من ذكريات في الطريق عتاق
في كل زاوية أرى أثرا لما أودعتُ من روحي ومن أعماقي
أسبابك كثيرة أيضا ومتعددة، وإن كنت مقلاًّ في نشرها، لم يصدر لك إلا ديوان واحد، ديوان تتكدس فيه الأبياتُ من مُوشّى ومُنضَّر، يطول فيها التأمل وقد غلبَ على بعضها موضوع المناسبات إلا أنها في وجدانيتها ما يطيب انصرافه الى غير ذاته ليجدَها في مجامِر القلوب. لها من المحاسن اوائلها وأواسطها وأواخرها، ومن الخَيَلاء التي لا جفوة فيها، حسبُها انها تقيم في صميمك وحسبك أن تقيم على حروفها، ولا يغريك منها مثلما يغريها إكتناه الدنيا.
أعيش الحياة رؤى من فراغ تسمّر في المِخمليّ المُحال
على الظن تبدو كما ليس أبهى فدنيا الجمال وراء الجمال
وَصََفك كبيرُ الصحافة فاضل سعيد عقل بالطوّاف، طوّاف أدب وطوّاف شعر، طوّاف سفر عبر نفسك و طوّاف صحافة وطنية وطوّاف إنسانية مع الكبار الأَبرار.
في كتابه” انيس خوري شاعر الوجد والوجود” وجدك الدكتور متري نبهان مقداما ومتعددا، مجموعة في فرد، قفزت من معهد الحقوق الى العمل الوظيفي، ومنه الى سراب الصحافة باصدار مجلة اسبوعية، يوم كانت االصحافة السياسية محور العمل الوطني، فيجبهك الفراغ وتعود الى الدراسة المتخصصة بالهندسة الزراعية في فرنسا، لتعود مجددا الى الصحافة المتخصصة وتصدر مجلة “العالم الداجن”… لكن عبقريتك المتأصلة في الإبداع الشعري كانت تعيدك دائما الى الينابيع حيث لك المنبر بقصيدة زحلية في كل مناسبة، تؤرّخ لعظماء العصر، وتعزف على اوتار القلب حُبّاَ بالجمال وتجديدا لعهد قديم “فما أشهى الهوى إن جُدّد العهدُ”، واعتزازا بعطاءِ رفيق او حزنا على فراق صديق. وتفوز بمباراة شعر فتطل على قلعة المجد بعلبك من علُ بنظرة شُموخِ شاعر.
وجد الدكتور نبهان، أن قليلَََك كثير، فبين آثارك من المخطوطات والقصائد والأحاديث والمحاضرات ما يملأ مجلدات عديدة، ولعل أجملها تلك المساجلات والمناظرات والمداعبات بينك وبين اترابك، وهي إن جُمعت تُغني الاجيال المقبلة بمؤلفات تطلعُ من دار الخلود.
لم تعرف الفراغ يوما في حياتكً وبقيت تعيشُ في فراغ
أهيم وراء الفراغ وألقى سرابا تراءى لعيني مياه
في خطى الشعراء جميعا “نقّّلتَ فؤادَك حيث شئت من الهوى”، ولكنّك أُعطيتَ وحدك أن ينقّلك فؤادُُك (ابو فؤاد) حيث حطّت مناقلاتُه الدبلوماسية، يلملم هو أشواكَ بني البشر ليبني كوخا في السماء، وتتنشق انت أريج المناخات العُلى، فيغنى شعرُك بروحية كل موقع: في الهند اخذت روحانية صافية ليست إلا في أعالي التيبيت، وعلى ضفاف السين توهَّجت قصائدك بألق عاصمة النور، وفي القارة البرازيلية تآخيت مع جورج جرمانوس الذي جاء زحلة ليتوئم نادي زحلة مع النادي الزحلي في ساو باولو، فتوأوتما معا زحلة البردوني مع زحلة الامازون.
من هناك ودعت زحلة وداعك المؤلم، وأبى اصدقاؤك هنا ان يصدقوا أنك هجرت عروس شعرك فناجاك صديقك االأقرب خليل فرحات، وقد رأى الوجود يفرغ من دونك
كأن وجودي بغير أنيس يتيمٌ الى كل ربٍّ يثيب
ناشدك العودة
كأنك زحلة في العُسر يسر وفي الضَّيم كِبر وخلق مهيب
ها انت تعود الى زحلة الحبيبة قامة شموخ في حديقة الشعراء، بين من أستوى على عرش المُخلّدين ومن سيتبع، أسماؤهم تتلاحق، تستحث الخطى، لتكتمل كوكبة المبدعين من زحلة، في كل مجال.
هذه الحديقة كانت حُلما ذات يوم. ومع ان الاحلام تبدأ كبيرة وتُصدم بالواقع فتضمُر، إلا في زحلة فهي تنتشي من تحقيق ذاتها وتكبر.
أيام المحافظ الممتاز نصري سلهب – وكل محافظ يأتي زحلة يصير أعزّ عليها من بنيها – كُلّف أيضا بمهام البلدية فصار أكثر الزحليين حماسة للقيام بعمل يليق بمدينة الابطال. جاءنا مع سعيد عقل للتداول في ان يكون لزحلة شعار يرمز إليها كما بُرج إيفل لباريس، اتفقنا على إقامة تمثال، عند مدخل المدينة، لإلهة الخمر والشعر..
تحول الاحتفال برفع تمثال شعار زحلة الى مهرجان فنّي لكل لبنان، باستحضار تمثالين لادونيس وعشتروت من محترف بصبوص في راشانا أقاما في الحديقة العامة، وتبارى الزحليون في تزيين الحديقة برسوم من الفسيفساء، واجران تصب المياه في البركة حول نافورة تتلاعب بمياهها الالوان والانغام.
تصدّر الاحتفال الصحف بعنوان كبير: زحلة فلورنسا الشرق.
اخذ الحُلم يكبر، سنة بعد سنة، باحتفالات البلدية والمجلس الثقافي والاندية الزحلية في تكريم كل زحلي لمع اسمه في أي سماء، في الشعر والأَدب، أو في الفنون جميعا، بنُصبِ او شارع او ساحة، كما سيكون لكل مُبدع في العلوم الإنسانية والفضائية، ولكبارنا في العمل الوطني الذين ساهموا في وضع الدستور وإنجاز المشاريع الكبرى، وكل من رفع اسم زحلة عاليا هنا وفي بلاد الانتشار.
لم يقف الحلم عند جماليات فلورانسيّة بل صار اولمب آلهة لعبقريين مُبدعين من زحلة.
ابا الانس ها أنت تستوطن الحديقة كما
عشت طيرا شاردا ليس يُغريه فَنَن
يسكن الحي الذي قلبه فيه سكن
انتقلت من السراب والفراغ الى هناءة الخلود،
تظل بعد الموت تكمّلها درباًً، فخلف المُنحنى الخُلد
تتنقل برفقة المُخلدين في هذه الحديقة، حديقة الشعراء، ويا نِعمّكم تكملون من جنة خلودكم مسيرة الألق لدى أجيال جديدة ترنو اليكم بفخر واعتزاز، وتسير على خطاكم في الإبداع والترقّي نحو ذُُرى عِلّيّين.
زحلة 24 أكتوبر 2014