مساء الخير شيخ عبد الله…

الكاتبة رشا الأمير

قبل أشهر، حين قرّرت دار الجديد ـ الدار التي اصطفيتَ مطمئنًا أواسط التسعينيّات إعادة نشر مؤلفاتك ـ تذكيرَ الملأ alailyبمرور مئة عامٍ على مولدك، ومن بعد أن هاتفتُ الزملاء في النادي الثقافي العربي، المولج بتنظيم معرض الكتاب العربي، لأذكّرهم بالمناسبة ولأتمنّى عليهم، ولو من باب رفع العتب أن يحسبوا حسابك في عداد مُكَرَّميهم هذا العام فيضيئوا لك شمعة على هيئة ندوة أو ما يعادلها ـ عقب ذلك خطر لي، لا لسبب واضح، أن أزورك حيث أنت الآن تحت التراب فقصدتُ مقام الإمام الأوزاعيّ الذي يقع ضريحك في حديقته الخلفية.

لستُ ممن يستأنسون بزيارة الموتى أو يكسّرون أعتاب المقابر ولكن الشوقَ يحتاج أحيانًا إلى ما يُسَلى عنه؛ وذلك اليوم، لأشهر خلت، اشتقتُ إلى تلك الساعات التي أتيح لي أن أقضيها بين يديك مستزيدة بشغف من تجاربك، متعلمة، بلا تكلف، من حديثك رغم صوتك الخافت الأقرب إلى الهمس.

متذرعًا بعزلتك، كنت دائم الحرص على السؤال، بشيء من المكر، كلما زارك زائر، عما هنا وهناك من أخبار لا تنقلها اليوميات التي كنتَ تطالعها بدأب وأناة. وكان سؤالك في الأكثر مدخلاً تتعمده، على سبيل التأهل والترحيب، لتفضي إلى ما عندك من تعليق على هذا الحدث أو الحديث أو ذاك.

اليوم، إذ أخطّ لك هذه الكلمات، لا جديد عندي أطالعك به. الجديد، على الأرجح، بل على اليقين، عندك، ولو أن التراب من فوقه ومن تحته.

rasha al amir wa abdallah alaily

رشا الأمير والشيخ عبدالله العلايلي

لأيام، زار مفتي الجمهورية الجديد على رأس وفد مشيخي العلماء مقام مضيفك الإمام الأوزاعي وامتدحه بوصفه: “إمام الوحدة الوطنية وإمام العيش الواحد في لبنان وفي بلاد الشام”. بالجملة عرَّج أيضًا على قبر جارك الرئيس رياض الصلح وامتدحه بوصفه من “رجالات الاستقلال” مستطردًا إلى التذكير بأن “رجالات الاستقلال كانوا من كل الطوائف اللبنانية”. صحيح أنه تذكير بما قد يفترضه الواحد منا، والواحدة، أمرًا نافلاً ولكن هيهات…

لست أدري هل اتسعت زيارة المفتي ليلقي عليك التحية، ولو من بعيد، أم لم تتسع ولكن، سِيّان كان ذلك منه أم لم يكن، فهاهنا نحن بلا زيادة ولا نقصان ـ بل أكاد أقول إننا، حرفيًا ومجازيًا، حيث انتهى بك المقام، وحسبك للنكاية بنا، أن تسترجع مطلع معلّقة عنتر وأن تهزّ رأسك مترنمًا: “هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّم؟”، وأن تسترسل فتشرح بأن الفعل «رَدَمَ» يُستعمل للباب بمعنى سَدّه، ومنه قول العرب على سبيل التوسع «ثوب مُرَدَّم» أي مُرَقَّع، ومتابعة لفكرة الرَّقْع هذه قول عنترة: «هل غادَرَ الشُّعَراءُ من مُتَرَدَّم؟»: أي هل من كلام يصلح بعدُ أن يُلْصَقَ بَعْضُه ببعض أم أنَّ من سبقونا لم يَدَعُوا مقالاً لقائل؟

أسمعك تسترسل في شرح مطلع معلقة عنترة وكيف سار الفعل “ردم” في آفاق العربية من معنى السد إلى ما استقر عليه اليوم من استعمال، وأكاد أحدس إلى أين تريد أن تصل بنا بعد هذه التغريبة اللغوية:

“هل للإمام الأوزاعيّ أو لرياض الصلح وغيرهما من جيراني في هذا المقام أن يدحرجوا الصخور التي رَدَمْنا بها على أنفسنا الأبواب؟ ولا أستثني نفسي: أنا الراقد هنا بعد ثمانين عامًا ونيف قضيتها، على قلق، أعتنق فكرة وأنبذ أخرى، وأركب المغامرة تلو الأخرى من مغامرات العقل والسياسة، وأحاول، ما وسعني، أن اعلّم العربية كيف تصيخ السمع إلى شقيقاتها من اللغات، وكيف تردّ السلام بأحسن منه ـ هل لشيء مما دعوتُ إليه، كتابة أو خطابة، وعدَّه كثيرون مشاغبةً في غير محلها، وحَمَلَه الآخرون على محمل المؤامرة المبيّتة في مكاتب الكومنترن ـ هل لشيء من ذلك أن يُقَدّمَ أو أن يؤخّر؟

عام 1978 تشجّعتُ ونشرت رسالة فقهية صغيرة تحت عنوان “أين الخطأ؟”؛ (ولكيلا يساء فهمي أضفت إلى هذا العنوان الذي لم يفتني ما يحمله من وجوه وأعتاب عنوانًا فرعيًا لا يحتمل التأويل هو “تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد”). قصدتُ من تلك الرسالة التنبيه على اثنين: أولاً على أن الحَرْفيّة العمياء في قراءة بعض النصوص الدينية قد بلغت الزّبى أو توشك، وثانياً أنَ النصوص تلك، بلا استثناء قطُّ، ليست أبوابًا موصدة، بل قولي أبواباً مردومةً، بقدرة قادر لا رادّ له.

لم يَسُؤْني أن عتب علي بعضٌ من أصدقائي، وأن خالف علي بعض آخر وإنما ساءني أنني اتُّهِمت بما لا تحمد عقباه واقترن الاتهام بقلة الناصر… ولأن الشيء بالشيء يذكر، ومن باب الملاطفة ليس إلا ـ لا شماتةَ ولا من يحزنون ـ، فلقد كانت بدايةُ الحملة على الكتاب، وعلى الفقير إلى ربه، الراقِدِ اليومَ هنا، بين المتوسط غربًا والضاحية شرقًا، وهي حملة أتت أكُلَها بأنْ غَيَّبَت الكتاب ست عشرة سنة…”.

لَسْتُ أدري كم حصّة المتخيّل من هذه الرواية وكم حصّة النقل الصحيح، فلا أنت يا شيخي أنت، ولا أنا أنا. في ما بين هاتيك الأيام، يوم وافقت بعد تردد طويل أردت منه اختبار صبري وعنادي على أن تستأنف دار الجديد نشر مؤلفاتك، ومن عدادها “أين الخطأ؟”، وأن تنشر نفسك بيننا بعد عزلة صفيقة كانت أشبه بالتمرين على الموت ـ ما بين هاتيك الأيام واليوم، تدفقت تحت جسورنا، كما تحب إحدى اللغات أن تقول، مياه كثيرة كلّها، على ما يقول قائلهم، “بلون الغرق”…

اترك رد