الأديب مازن ح. عبّود
لا أعرف ماذا أكتب إليك يا بني “اسحق”، وأنا فوق عالق ما بين السماء والأرض، في طائرة استمع إلى فصول فيفلدي الأربعة وأنا أفتكر بك وبأمك؟؟
أتمنى لو يكتب لي فاقرأ مستقبلك يا بنيّ. آمل لو كان بإمكاني أن أرى كيف ستكون فصول حياتك؟؟ إلا أنّ رؤية الغد هي بيد من يملك الأيام أو لمن تعطى إليه هذه الموهبة. لا، لست رائياً. ولا أسأله أن اكون. لإني، وإن عرفت، لن أقدر أن أضيف إلى شعرك شعرة واحدة.
إنّ الغد لله يا حبيبي. والحاضر لنا ومن صنيعتنا على قدر ما أعطينا. أما الماضي فهو للحنين والذكريات والأموات.
لا أعلم يا بني إذا كان حسن أن يولد المرء في أرض كأرضنا ويتكبد كل هذه المخاض؟؟ أنا لم أختر أن أولد هنا. إلا أني لا أتلكأ عن أداء مهمة أنيطت بي لمّا أوجدت. ومن ثمّ أضحيت بشرياً يحاول أن يكون إنساناً من فوق. أكره الهروب لأنّ في الهروب جبناً.
لا تلمني يا بنيّ يوما لذلك. ولا تلم من أراد لنا أن نولد، فنكون له ها هنا. فهو عارف بما اعطانا.
فإني أسلمت أمرك وأمر إخوتك الذين لم يولدوا بعد إليه. فهذه حضارتنا، وهذا ما تعودنا عليه…
أرى عيونك أمامي يا ولدي تتحرك كي ترصد العالم من حولك، والعالم ليس حصراً “كفرنسيان”. ليس العالم أفضل منها لا بل هي هو على قدر ما اختبرته أنا وأمك.
ضحكتك يا بنيّ تعشعش في أذنيّ، وتطربني أكثر من أيّ، ممن أعشق سماعه من عظماء هذا الدهر، ممن تلمسوا الألوهة فنوناً، فسقطت عليهم النغمات زخات، زخات…
ضحكتك تجعلني أكتب. وفي دمعتك الكروية رأيت أشياء وأشياء حتى قبل أن أولد. ابصرت حاملا، تسأل خالقها أن يرزقها صبياً. صبي بصوت جهوري وأحلام امبرطورية وروح فقر. صبي ببهاء وموقع لكن بروح. كانت تجلس جانباً قرب ايقونة التقبيل عند مدخل كنيسة القديس إيليا، والدموع في عينيها. أتت كي تستقبل إيليا، بطريرك انطاكيا الذي قدم إلى “كفرنسيان”. كان الترتيل ملائكيا. عاين البطريرك “الياس” قلباً يضخ كلمات من ندى تروي شعب موسى العطشان إلى كلمة سواء. كانت عجقة ودراجات ومقتدرون.
وتطلع “برهوم” ملياً في الدمعة الكروية والبلورية. فتعرف إلى “المقتدر” الذي كان يجلس في مقدمة صحن الكنيسة. لقد كان هو نفسه ذاك المقتدر الذي بان فجأة في حياته بعد ثلاث وثلاثين سنة، كي يطرحه إلى الموقع الذي يحتله اليوم. لقد كانت تلك الحامل أمه. وكان الجنين هو.
ثمّ تطلع في عيني ولده فأبصر نفسه رضيعاً يسرح ويمرح في أحضان جدتيه وأنسبائه. فاسحق يشبهه “ابراهيم”. فكان أن توقف عن التفكير. وراح يتمتم صلاة قلبية كان قد حفظها، وصار يتلوها أوتوماتيكيا. غاب إلى لا مكان ولا زمان. ما سأل القادر شيئاً لأجل ولده. فهو العالم بالبشر ويصنع ما يوافقهم.
ثم رجع من حيث ذهب. عاد إلى عيني ولده في مخيلته. نظر في الدمعة الكروية البلورية، وقال: “ما الأرض إلا دمعة حب على جبين المقتدر. وما نحن إلا ومضة في فلك الأكوان”.