إشكالات اقتصاد المعرفة في الوطن العربي

الأكاديمي والكاتب المغربي يونس بلفلاح

يمرّ النظام الاقتصادي بأزمة بنيوية عميقة، فالتوجه الرأسمالي الذي صُمّم للعصر الصناعي لم يعد قادراً على مجابهة logo fikrالعصر التكنولوجي الذي يفرض تلاشياً للجغرافيا والزمن، وثورة رقمية وتواصلية واسعة، ثم انفتاحاً شاملاً للأسواق. الأمر الذي يجعلنا أمام مخاض التحوّل من اقتصاد عالمي إلى اقتصاد عولمي، تتجلّى محدّداته في السرعة، والتشبيك، والتنافسية، والمعرفة.
كيف يتجلّى إذن دور اقتصاد المعرفة في التنمية الاقتصادية؟ وهل إن البلدان العربيّة قادرة على جعله خياراً استراتيجياً ومصعداً للإقلاع التنموي السريع؟

تبرز المعرفة كمحرّك فعّال للتنمية الاقتصادية في ظلّ الندرة المتزايدة للموارد الطبيعية، من طاقة ومزروعات وعدم قدرة الإنتاج التقليدي على مسايرة التطوّر الاجتماعي. الأمر الذي يُظهر الأهمية البالغة لاقتصاد المعرفة كرافعة للنموّ والازدهار، وللعلم كقوّة دافعة للتنمية الإنسانية والعمرانية. ويُعرَّف اقتصاد المعرفة بوصفه مساراً تراكمياً يستند في موارده إلى إنتاج المعارف ونشرها في مجالات النهضة الاقتصادية، من تعليم و تدريب وبحث وابتكار، معتمداً في ذلك على آليات تعزيز ديناميّة الارتقاء المعرفي، مثل توطين التكتّلات الجهويّة، المناطق الصناعية، الأقطاب التكنولوجية. هذا فضلاً عن المؤسّسات التعليمية والبحثية والمعاهد الفكرية التي تشكّل منابع لصياغة الحلول المبتكرة وصناعة السياسات الداعمة للإنتاج المحلّي والكفاءة الاقتصادية. ونتيجة لذلك، فإن اقتصاد المعرفة يمثّل رافداً غنيّاً يثري رصيد الدولة بنموٍّ مُستدام وثروة وطنية هائلة.

في هذا الصدد، وبحسب ما جاء في ” تقرير مؤتمر الأمم المتّحدة للتجارة والتنمية ” للعام 2010، والذي يحمل عنوان الاقتصاد الخلّاق: خياراً ممكناً للتنمية، يسهم اقتصاد المعرفة بنسبة 80% من الناتج الداخلي الخام للدول المتقدّمة ويخلق 70% من فرص العمل فيها، كما أنه مِشعل التنمية لدول عدّة؛ فقد ضاعفت الهند معدّل نموّها ثلاث مرّات في عقد واحد، ورفعت اليابان مصادرها من المنتجات والخدمات المعرفية بنسبة 60 %، كما احتلّت هونغ كونغ المرتبة الثالثة عالمياً في جلب الاستثمارات الأجنبية نتيجة وجود بيئة حاضنة لمؤسّسات الاقتصاد المعرفي.

ويواجه اقتصاد المعرفة عموماً تحدّيين أساسيّين؛ يتمثّل الأول في بناء سلسلة قيمة المعرفة وإنجاز العمليات الإنتاجية التي يترتّب عنها تجديد هيكلي للعمل في ما يخصّ التنظيم والتنسيق والمراقبة، وكذلك إدارة الرأسمال البشري في الأقطاب والتكتّلات الاقتصادية باعتباره العمود الفقري لاقتصاد المعرفة. والثاني يرتبط بالتقسيم الدولي لهذا الاقتصاد، إذ تتركّز أنشطته عند دول الشمال التي يتوفّر فيها تفوّقٌ علمي وتكنولوجي ومحفّزات لاستقطاب التمويلات المالية بعكس دول الجنوب. حيث نجد أن اقتصاد المعرفة يتوزّع على ثلاثة تصنيفات: دول تنتج المعرفة كالولايات المتّحدة الأميركية وألمانيا، دول تدير المعرفة كماليزيا وسنغافورة، دول تستهلك المعرفة وعلى رأسها الدول العربية.

أوجه خلل الاقتصاد المعرفي العربي

في ضوء ما يشهده العالم العربي من تغيّرات تقتضي النهوض الاقتصادي، يسطع الاقتصاد المعرفي كخيار استراتيجي ومصعد للإقلاع التنموي السريع، يُمكّن الانخراط فيه من استدراك العقود العجاف من الجمود للالتحاق بالركب الحضاري العالمي. وهذا يستوجب من الدول العربية التصدّي لعوائق مركّبة تُفسَّر على مستويين:

أولاً: ضعف النظام التعليمي والبحثي وقصوره: بيّن تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2011، وعنوانه مجتمع المعرفة: المفهوم والإشكاليات (2011) أن العالم العربي يعاني من فقر معرفي كبير، أصبحت على إثره الجامعات العربية منتجة للبطالة بنسبة 30% مقارنةً بـ 3 % فقط في دول منظّمة التعاون والتنمية الاقتصاديةOECD، وراعية لهجرة الأدمغة بنسبة 35% عالمياً لا يعود إلى الوطن الأم إلا نصفها. كما أن الإنفاق العربي على البحث العلمي لا يتجاوز 0.2 % بينما تخصّص الدول المتقدّمة 4 % من ميزانيّتها للبحث والتطوير. ويبلغ مجموع المنشورات العلمية العربية ما مقداره 1.4 % من الحصّة العالمية، في حين تحقّق البلدان المتقدمة 70%، ولا تمثّل براءات الاختراع العربية سوى 0.1 % عالمياً. كما لا يزيد عدد الترجمات العربية على خِمس ما تترجمه تركيا على سبيل المثال. ترجع هذه التباينات العميقة إلى غياب رؤية محدَّدة للبحث العلمي تتماشى مع أولويّات الدول العربية، وعدم تحلّي المنظومة التعليمية بأهداف واقعية تأخذ بعين الاعتبار القدرات العربية والمواهب الموجودة فيها. وبالتالي، فإن حجم تأثير المعرفة على الأنشطة الاقتصادية يبقى هزيلاً، وهذا ما يظهر بوضوح من خلال انقطاع الصلة بين البحث العلمي وآليّات اتّخاذ القرار على المستوى العربي.

ثانياً: خلل اقتصادي ومؤسّساتي: يتمحور هذا الخلل في نكوص القطاع العام وركود القطاع الخاص. الأمر الذي أعاق المبادرات الاستثمارية والمقاربة التشاركية بين مؤسّسات البحث والمعرفة والمقاولات التكنولوجية، ولاسيّما مع اندثار التنافسية بسبب الفساد الإداري والتبعية الاقتصادية، ما انعكس سلباً على روح المبادرة والإبداع. أضف إلى ذلك ارتهان البنية المؤسّساتية العربية الناجم عن التمركز الاقتصادي في جهة دون غيرها، والتضاؤل الواضح لأجهزة الوساطة التمويلية التي تتبنّى المشروعات التكنولوجية والمنشآت التطويرية لاقتصاد المعرفة في شكل رأسمال استثماري أو رأسمال مجازف.

إلى جانب ذلك، يستدعي اقتصاد المعرفة امتلاك نظام ابتكاري مترابط الأوصال ومتفاعل العلاقات بين جميع الفاعلين، من جامعات ومراكز أبحاث، وشركات تكنولوجية، ومصارف تمويلية تشارك في أنشطة إنتاجية معرفية على هيئة علاقات تعاونية، ترمي إلى تجهيز المعارف وضبطها مع الحاجيات المطلوبة بغية تحصيل ابتكارات ذكيّة توازي غزارة الفروع العلمية المستحدثة، وهو نظامٌ تفتقر الدول العربيّة إليه.

وفي النطاق ذاته، فإن إرساء مرتكزات اقتصاد المعرفة في الدول العربية رهين بوجود إرادة سياسية قوية وحركة مجتمعية فاعلة ومناخ أعمال مشجّع، من شأنها العمل على تصوّر شامل ذي مدخل سياسي – ثفافي وناتجٍ اقتصادي. إذ إن امتلاك التكنولوجيا وحدها لا يعدو كونه تحديثاً سطحياً لا دلالات له على بنيان المجتمع.

مقوّمات الانتقال نحو أفق أرحب

لعلّ ما تقدّم يشير إلى وجوب تسليط الضوء على القيم الاجتماعية السائدة وعلى ضع العلم في سلّم القيم، فضلاً عن مدى سيادة التفكير العلمي في الأوساط الاجتماعية، وذلك من خلال الانكباب على سياسة علميّة رصينة تكون حرية التفكير والتعبير ركن الزاوية فيها. سياسة تسعى إلى إعداد متكامل للناشئة وإلى تحفيز الإبداع والابتكار من خلال استراتيجيات قويمة تعي مقدرات المعرفة، من محاور ووسائل البحث العلمي. هذا علاوةً على دورها في تحسين جودة التعليم عبر أساليب متجدّدة تصقل ملكات التنقيب والاستكشاف والقيادة لدى المتعلّمين، وتسهم في رسم معالم جديدة للهياكل الاجتماعية والسلوك الاقتصادي و الأداء المؤسساتي في العالم العربي.

وفي سياق متصل، يستلزم تفعيل السياسة العلمية حوكمة جيّدة للدوائر المتدخّلة في الحقل المعرفي، ناهيك بترسانة قانونية تحمي حقوق الملكية الفكرية وتيسّر تسجيل براءات الاختراع. كما يجب أن تنصّ مقتضياتها على تنويع الأبحاث في المبنى والمعنى من حيث النهج (أبحاث أساسية أو أبحاث تطبيقية) والتخصّصات (علوم إنسانية، اجتماعية، دقيقة،…) مع الاهتمام بالدراسات المستقبلية لاستقراء الاتجاهات والمتغيّرات الممكنَة والمحتمَلة. وهذا من دون إغفال مكانة القوّة الناعمة للمعرفة عبر دبلوماسية علمية عربية تتابع البعثات العلمية وترصد الإنتاج الفكري في الخارج وتقيم تضامناً تعليمياً عربياً وتعاوناً بحثياً مشتركاً.

على هذا، فإن المبتغى الأسمى لاقتصاد المعرفة يتجلّى في التأسيس لمجتمع المعرفة القائم على إنتاج تلك المعرفة وتوظيفها في مناحي التنمية الإنسانية كلّها، عبر تنظيم عقلاني لآلياتها، وكذلك عبر ترشيد الموارد والتحكّم في تسييرها والإسهام الأمثل للعنصر البشري في عملية اتخاذ القرار الوطني. فالعالم العربي مطالَب بإقامة اقتصاد معرفي خلّاق يجرّم احتكار المعارف ويحارب التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، بحيث يتبلور عنه كيانٌ عربي متين تكون الحرية والمعرفة و التنمية إكسير جدارته.

******

(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق

اترك رد