الأديب الياس خوري
أحدث إنتصار الثورة الإيرانية عام 1979 حالة من الزهو الثوري في أوساط المجموعات الشبابية اللبنانية والفلسطينية في بيروت، وامتلأت المدينة بشعار: «اليوم ايران وغداً فلسطين» الذي تحوّل الى ملصق ملأ حيطان المدينة.
في ذلك الزمن كانت الثورة الفلسطينية وحلفاؤها اليساريون اللبنانيون، يعيشون أزمة الأفق السياسي، بعد الدخول العسكري السوري الى لبنان، واغتيال كمال جنبلاط، وانهيار حلم انتصار الحركة الوطنية في الحرب الأهلية اللبنانية.
الثقل العسكري الفلسطيني عاد الى الجنوب، أما الحركة الوطنية فبدأت تترنح تحت ضربات قمع النظام السوري، وبدأت صفوفها تتشقق وخصوصا في الجنوب، مع صعود حركة «أمل» كإطار شيعي متحالف مع نظام الأسد.
جاءت الثورة الإيرانية كمفاجأة مذهلة بلبلت كل الحسابات، وكمؤشر مبكر على سقوط اليوتوبيا الشيوعية التي سيتم استبدالها باليوتوبيا الإسلامية.
وقد تسنت لي فرصة الذهاب الى طهران من ضمن وفد فلسطيني كبير ترأسه ياسر عرفات، حيث اجتاحتني مشاعر متناقضة، فمن جهة أولى وقعت تحت تأثير سحر الخميني وشخصيته الكارزمية وقدرته على قيادة واحدة من أكبر الثورات الشعبية في التاريخ المعاصر، ومن جهة ثانية أصبت بالخيبة خصوصا بعد لقاءاتي برفاقي اليساريين من تنظيمي فدائيي خلق ومجاهدي خلق، الذين كانوا يعيشون خوفا كبيرا من سيطرة الملالي على الثورة، وهو خوف سرعان ما ثبتت صحته مع تصفية التنظيمين اليساريين وإبادة المجموعات اليسارية المستقلة، وتدمير حزب توده الشيوعي والقضاء على حركة تحرير ايران، التي كانت أحد أشكال العمل الاسلامي التقدمي المتأثر بالمفكر علي شريعتي.
عاصفة الثورة الإيرانية شكّلت للكثيرين من رفاقنا الفلسطينيين واللبنانيين مخرجا من أزمتهم الفكرية، فبدأت الدعوات الى تبني الخيار الإسلامي كوسيلة لإعادة نسج العلاقة بالجماهير، وكإطار فكري جديد بعد تداعي الماركسية وخصوصا بتلويناتها الماوية، عقب فشل الثورة الثقافية وانهيار عصابة الأربعة، أي كتلة ماو في الحزب الشيوعي الصيني.
ولولا الإنزياح الأيديولوجي نحو الإسلام، لما قامت تجربة حركة التوحيد الإسلامي في طرابلس، التي ستنتهي بمسلسل من الاغتيالات بلغ ذروته التراجيدية باغتيال القائد الشعبي الطرابلسي الفذ خليل عكاوي «أبو عربي».
لم تنجح الأسلمة اليسارية الفتحاوية التي قادها منير شفيق ومعه مجموعة من الكوادر والمثقفين في حل معضلة العزلة اليسارية، على الرغم من أنها قدمت نماذج نضالية كبرى وكوكبة من خيرة الشهداء: أبوحسن قاسم ومروان وحمدي، كما نشأت الكتيبة الطلابية على تماس وثيق معها، بما قدمته من نموذج نضالي باهر.
ولكن سرعان ما جاء الإسلاميون أنفسهم الى الساحة، من الجهاد الإسلامي الى حماس، ومع القاعدة تغير المشهد بشكل جذري، وخصوصا بعد الإحتلال الأمريكي للعراق. ودخل عامل جديد ليعطي الصراع اشكاله الوحشية، هو عامل الصراع المذهبي السني-الشيعي، الذي سينتشر كالنار في الهشيم، وسيكشف ان اليوتوبيا الإسلامية ليست سوى شكل للتدمير الذاتي والانتحار المجتمعي.
غير أن الثقافة السياسية العلمانية واليسارية رفضت أن ترى، او كانت عاجزة عن تلمّس عمق مأزقها. الحزب الشيوعي العراقي الذي ضمر كثيرا بفعل القمع الصدّامي ونتيجة أزمة التفكك التي ضربت اليسار بعد سقوط الإمبراطورية السوفييتية، انضم الى مجلس الحكم الذي انشأه الأمريكيون وترك لأبي مصعب الزرقاوي والقاعدة مهمة مقاومة الاحتلال الأمريكي، ومن جهة أخرى بدأ حزب الدعوة الشيعي في اعداد نفسه لتسلم السلطة في العراق تحت الاحتلال.
لم نرَ الى أين يمضي بنا الإنهيار الحتمي للاستبداد الذي أعلنته ثورات الربيع العربي. من المرجح أن التيارات السياسية العلمانية اعتقدت أن النموذجين التونسي والمصري سيسودان، وهما نموذجان قاما على اتكاء الحركة الشعبية على الدولة من أجل اسقاط الاستبداد. في تونس تم تحييد الجيش، واستندت الحركة الشعبية الى التراثين النقابي والعلماني، وفي مصر رضيت الحركة الشعبية بالمخرج الذي قدمه الجيش، فوقّعت صك تهميشها بيديها.
الاستثناءان التونسي والمصري، على تباينهما وهشاشتهما، ليسا قابلين للتطبيق في بلاد لا جيش فيها كليبيا والعراق، أو تحول جيشها الى ما يشبه ميليشيا السلطة كما في سوريا. لذا دخلت سوريا في الحرب الأهلية وتبعتها ليبيا ويتبعهما العراق اليوم. وفي الحرب الأهلية تشكّل النموذج الإسلامي الذي يقلّد الايرانيين وحزب الله ولكن من موقع النقيض السني، وصارت بلادنا مسرحا للصراعات الإقليمية التي وجدت تعبيرها المحلي والعالمي الأمثل في «داعش» و»النصرة» واخواتهما.
قامت آليات الحرب الأهلية بطرد شباب الثورات من الثورة، فالتنسيقيات السورية على سبيل المثال لم تعد تملك أي جواب على آلة القمع الوحشية التي استخدمها النظام، والجيش الحر، الذي لم يدعمه احد، بدأ يتلاشى لمصلحة الإسلاميين الذين تدفقت عليهم الأموال الخليجية وفتحت أمامهم الحدود التركية.
عمليات طرد الثوار من الثورة، هي المأساة التي تعيشها بلادنا اليوم، وهي تتهاوى بين قبضة الاستبداد وقبضة «داعش»، والقبضتان تتحركان تحت سماء تحتلها طائرات التحالف الأمريكي، وهو تحالف لم يستقر على هدف، وليس من المستبعد أن يتحول الى جزء من آليات التفتت، بحكم التناقضات التي تعصف به.
ليس ذنب «داعش» وأخواتها أننا لم نرَ، بل الذنب هو ذنب عجز قوى التغيير بمختلف تياراتها عن بلورة مشروع جديد بعد تهاوي اليوتوبيا اليسارية وتحللها، فجاءت «داعش» لتملأ فراغاً سياسياً وروحياً بوهم دولة الخلافة، التي ليست سوى مشروع حروب أهلية وإقليمية لا نهاية لها.
«داعش» ليست فقاعة أتت من لا مكان، انها محصلة هزيمة قوى التغيير، لذا ليس من المستغرب أن تستقطب الضباط البعثيين المسرحين من الجيش العراقي بعد حلّه، وليس مفاجئاً أن تتحول الى عنصر جذب دولي، في زمن ما بعد الحداثة وما بعد القيم الذي صنعته النيوليبرالية، لكن المستغرب فعلا هو أن لا تشكّل الكارثة التي نعيش بداية وعي جديد يبدأ في بلورة مشروع البديل.
وهنا يجب التنبه الى ما يجري في فلسطين بعد انتصار الصمود في غزة. الفلسطينيون الذين يعيشون هول الاحتلال يعرفون أن هناك هولا أكبر قد يكون في انتظارهم، هو هول عدم نجاحهم في بلورة وحدتهم النضالية في مشروع مقاوم يضمّ الجميع، ويسمح للتعدد وللتمايز بين الإسلاميين والعلمانيين بأن يكون عامل وحدة لا عامل تصدّع.
الرهان العربي الجديد يبدأ في فلسطين، وعلى الفلسطينيين أن يعلموا أن مسؤولية من يمتلك بوصلة المنطقة تحتّم عليه أن يقدّم نموذج الخروج من هاوية التفكك.
********
(*) القدس العربي، 14-10-2014