أحيت الرهبانية الأنطونية المارونية، الذكرى الرابعة والعشرين لتغييب الأبوين البير شرفان وسليمان ابي خليل في قداس ترأسه الرئيس العام للرهبانية الأباتي داود رعيدي في دير مار يوحنا القلعة – بيت مري، مركز الرئاسة العامة الصيفي، عاونه فيه النائب العام الأباتي انطوان راجح، والأبوان المدبرين مارون بو رحال وريمون هاشم، في حضور لفيف من الرهبان والراهبات، ورئيس بلدية الحدث جورج عون، واهل الأبوين المغيبين وجمع من الاصدقاء. خدمت القداس جوقة الأب البير شرفان بقيادة الاستاذ فادي شرفان.
بعد الانجيل المقدس، ألقى الأباتي رعيدي عظة جاء فيها: “لقد رُفِع عنَّا الأبوان ألبير وسليمان ورَفَعا أنظارَنا معهُما إلى فوق، إلى غايةِ تكرُّسِنا لله الذي منهُ البداية وإليه النهاية! غيَّبتهُما الظروف، ولم يغيبا يومًا عن بالِنا، بل يعشيان معنا في كلِّ مناسبةٍ وفي كلِّ حدثٍ، حتى إنَّ بعضًا من أحداثِ رهبانيَّتنا تأخذُ منهما المعنى، لكي نتابع المسيرة ونعرفَ معنى الشهادة. ويمكنُنا القولُ بأنَّ حضورَهما بيننا وجوديًّا، وهو أكثرُ كثافةً من حضورِهما الجسديّْ وأقوى. فأنْ نستذكرَهُما، هي وقفةُ عزٍّ وإباءٍ نقفُها جميعًا معهُما ومن خلالهما، لنَفْقهَ الأعمقَ في حياتِنا وتكرُّسِنا، فهذه الذكرى ليست ذكرى شؤمٍ كما قد يتراءى للبعض، إنها ذكرى البطولة، محطةُ التحوُّل في تاريخ الرهبانيَّة الحديث، إذْ تجمعُ بين أهميَّة العيش الرهباني وغاياتِه”.
“أربعًا وعشرينَ سنةً مرَّت، وكأنها البارحة… لا! بلْ إنَّها اليوم؟! لأنَّنا شعبٌ قلَّما يتعلَّمُ من التاريخ دروسًا، وقلَّما ينظرُ إلى الآخرين كأنهم جزءٌ منهُ، وإذا قام أهالي المفقودين ولم يقعدوا للمطالبةِ بأولادهم أو بإخوتِنا، إنَّما لكي تأخذَ القضيَّةُ معناها. وأعتقدُ أنَّ هذا هو حالُ أفرادِ الجيش والقوى الأمنيَّة المخطوفين اليوم، وقد انضموا إلى هذا الرعيلِ منَ المفقودين… ليس فقط للمطالبة بأولادهم بل لكي يعطي اللبنانيون القيمة للشهداء والذين يقدِّمون أنفسَهُم لفداءِ الوطن والذودِ عن أراضيه وحمايةِ حدودهِ…
فالقضيَّةُ ليست قضيَّة أسماءٍ، إنَّما وجوهٌ أرادت أن ترسمَ وطنَ المحبَّة والسلام والتكامل، وطنًا يشكِّلُ جسمًا واحداً مكوَّنًا من مسلمين ومسيحيين؛ من شهداء قدَّموا ذواتَهم لبنائِهِ؛ من أشخاصٍ رسموا معالمهُ بموتهم أو بفقدِهِمْ! وما يدهشُنا اليوم كما دُهشْنا سابقًا أنَّ السياسيين، يتقاعصون منْ جهةٍ على المضيِّ قُدُمًا بالمطالبة، ومن جهةٍ أُخرى، وهي أكثر ألماً، ينظرونَ إلى العددِ وليسَ إلى القيمة. نحنُ نعلمُ أنَّ الجيشَ والمواطنون يبنونَ الوطنَ بدمائِهِمْ، ولكن من واجباتِنا نحنُ المواطنين أن نثمِّنَ العطاءَ والدماء، ونرسمَ وطنًا جديداً يخرجُ من رَحِمِ المعاناة ولا يداورُ فيها”.
“ألا يستحقُّ هؤلاء الأشخاص وقد بلغوا الآلاف أن نقفَ لنرى إذا كنَّا قد بنينا لبنان على مستوى طموحاتِهم وتضحياتِهم ودمائِهم؟ أليسَ من المناسب أن ننحني إجلالاً لهم ونعترفَ أنَّنا قصَّرنا عن بناء وطن يليقُ العيشُ فيه؟ أليس منَ الضروريّْ أن نتوقَّفَ عن بيع الوطن للنازحينَ الفلسطينيين، أو السوريين، أو العراقيين، تحتَ ألفِ حجَّةٍ، كأنَّ كلَّ طائفةٍ صارت تحمي أبناءَها دون الوطن! إنَّ الخيانةَ الكبرى ليست بِفَقْدِ شهداءٍ ناهزَ عددهم المائة ألف في لبنان، إنما ألا نكونَ على مستوى المسؤوليَّة التي مات الكثيرون لأجلها، وغيرهم خُطفوا، أو سُجنوا، أو عُذِّبوا… وأن نتراجع بالميثاق الوطني أو بالوفاق الوطني، ونبيعَهُ لكلِّ عابرِ سبيلٍ… فهل خوفُنا على النازحين صار يفوقُ خوفَنا على المواطنين؟ إنَّ غياب الأبوين ألبير شرفان وسليمان أبي خليل هو جزءٌ من تلك القافلة التي تبني لبنان حتى ولو غابت عن أنظارنا”.
وأضاف: “إنَّ أبوينا هؤلاء هما ماثلان أمامَ أعيُننا في الرهبانيَّة الأنطونيَّة ويسهمان في بنائِها وإعلاء روحانيَّتِها وشهادتها تمامًا ككلِّ راهبٍ فينا، إنَّهُما جزءٌ من كياننا المتحرِّك، كأنَّهُما يتحرَّكان معنا لشهادةٍ أفضل… وليس أجمل من إنجيل اليوم يُفهمُنا دورَ المكرَّس الذي أقامهُ سيِّدُهُ “ليعطي الطعامَ في حينه”. طوبى لهما، واسمحوا لي أن أقولَها بالفمِ الملآن، طوبى لهُما لأنَّهُما صارا هما أنفسهما القوتَ الحيّْ، وقدَّما ذواتَهُما ذبيحةً عنَّا وعن المؤمنين. وأعتقدُ أنَّ المكرَّسَ للربِّ أو أيِّ مسيحيٍّ، يبلغُ الكمالَ عندما يصبحُ هو نفسُهُ خبزاً مقدَّسًا مكسوراً في قلبِ الكنيسة. أليست هذه رسالة ُكلِّ أبٍ وأمٍّ؟ أليست هذه رسالةُ كلِّ جنديٍّ، أليست هذه رسالةُ كلِّ مكرَّسٍ أن يصيرَ هو نفسُهُ قوتًا للآخرين؟ طوبى لهؤلاء الأشخاص الذين كانوا أُمناءَ لوصيَّةِ المخلِّص، والذين يحثُّونَنا لنكونَ أُمَناءَ مثلَهُم على الوديعةِ وعلى الآخَرين”.
“فالمفقودونَ همُ اليوم أكثرَ حضوراً من المقيمين، لأنهم يشكِّلون المعنى للمجتمع، ويشكِّلون بُنيةَ الوطن الموعود الذي نسعى لبنائِهِ فسحةَ محبَّةٍ وسلامٍ للجميع. فلا نريدُ اليوم أن نتكلَّمَ عن أربعةٍ وعشرينَ سنة، إنَّما نريدُ أن نحملَ كلَّ الشهداءِ والمغيَّبين، والمتضرِّرين، منذُ بدءِ الحربِ اللبنانيَّة الأخيرة إلى اليوم، التي تداخلت فيها مصالحُ الدولِ كافَّة، لنضعَهُم أمامَنا على مذبحِ الربِّ قوتًا للعالم، ونسعى لأن نأكُلَ مِنْ خبزِ كرامتِهِمْ وسَخائِهِمْ في سبيلِ حياةِ الوطن، لأنَّهم يعيشونَ فينا ويبثُّونَ فينا الحياة رغم غيابِهم الأليم، لذا نحنُ كأنطونيين لا نستذكرُ إخوتَنا في ١٣ تشرين الأوَّل فقط، لأنَّهُما الرهبانيَّة، إنَّهُما الوطن، إنَّهُما الروح التي تبثُّ فينا الحياةَ كلَّ يومٍ، فنتأمَّل أن يحذُوَ اللبنانيون حذْوَنا في هذا الموضوع”.
وقال أيضاً: “واسمحوا لي أن أقولَ بأنَّ أخَويْنا ألبير وسليمان هما علامة للتكرُّس والطاعة والحضور في الأديار، وكلُّ مكرَّسٍ مدعوٌّ، على مثالِهِما، لأن يؤدِّي شهادةً حتى ولو أدَّت إلى الاستشهاد، فليس مِنْ مكانٍ أمينٍ يهربُ إليه الراهب، لأنَّهُ في كلِّ موقعٍ يشكِّلُ شهادةً، وعَلَمًا، وتحدِّيًا إيجابيًّا ورسالةً.
وكأنَّنا، إضافةً إلى تمثُّلِنا بالمصلوب، اخترنا أن نكونَ عاموديين واقفينَ كالمناراتِ التي تضيءُ إلى البعيد وتشكِّلُ مرجعيَّةً لمسافاتٍ مُتراميةٍ. هكذا كانَّ أخوانا المغيَّبان منارة؛ كانا على استعدادٍ، ككلِّ راهبٍ منَّا، وككلِّ جنديٍّ في وطننا، وككلِّ مواطنٍ، على استعدادٍ لتأدية الرسالة بالعملِ اليومي، وإن اضطرُّوا، فبالعطاءِ الكليّْ. فما أجملَ أن نأخذ وقفةً، ونتأمَّلَ بعمقِ تكرُّسهما وبعمقِ رسالةِ كلٍّ منَّا، لنخلعَ عنَّا الخوف، ونتجلبَبَ بالجرأة للعملِ في كلِّ مكانٍ على اتِّساعِ الوطن والعالم. ولا نعتقِدَنَّ بأنَّ التقوقُعَ يحمي، فإنَّ المخطوفين، والمفقودين، والشهداء، والمعوَّقين في لبنان يحمونَ الوطنَ أكثرَ منْ كلِّ المتكلِّمين والمتحذلقين ومُمتَهِني السياسة”.
“في وقوفِنا اليوم إذن، محاولةٌ للتشبُّهِ بهما، للدخول في منطِقِهِما، منطقِ العطاء، الذي لا يكتفي بأن يعطي الطعامَ في حينه، بل أن يكونَ هو نفسُهُ، على مثالِ المسيح معلِّمِنا وإلهنا، قوتًا حيًّا للبشريَّة، قوتًا يعزِّزُ الوجود ويعطيه معنى، قوتًا يحوِّلُ خوفَنا إلى شجاعةٍ وعطاءٍ وتجرُّدٍ، قوتًا يعيدُ إلى الوطن قِيَمَهُ وأولويَّاتِهِ، ويُعيدُ إلى الحياةِ رونَقَها، وإلى المحبة التي سادت وتسودُ بين اللبنانيين على مختلف انتماءاتِهم جمالَها. فنحن في لبنان نعيشُ في سفينةٍ، ومن خصوصيَّاتِ السفينة أنَّها تتأرجحُ دومًا على المياه ولكنَّها لا تغرق، فإمَّا أنْ نخلُصَ سويَّةً، وإمَّا أنْ نضيعَ سويَّةً، فلا يُزايدنَّ أحدٌ على الآخر بغيرتِهِ على الوطن، بل لنسعى أن نكونَ أُمَناءَ للدماء والحياة والإعاقات التي قُدِّمت على مذبح هذا الوطن ليبقى رسالةَ حبٍّ وسلامٍ… ولنعتَمِدْ لغةً جديدةً لا يمليها علينا الرُعبُ والتخوين، بل التعاون والانفتاح على المستقبل، فإنَّ الشعوبَ مُجتمِعَةً عرَفَتْ أيَّامَ النهضة يومَ كانت تُقيمُ بينها الحوار الصافي والبنَّاء، يومَ قبِلت وكرَّمت شهداءَها وبنت على تقدماتهم صُروحَ العلمِ والكرامة”.
“فقط بهذه الطريقة نريدُ أن نستذكرَ أخوينا المغيَّبَين الأبوين ألبير شرفان وسليمان أبي خليل، ونستحضرَ معهُما عوائلَ الذين فقدوا أولادهم وما زالوا مثلنا يفتِّشون عنهُم؛ كما نستحضرُ أيضًا في هذا القداس عوائلَ الشهداءِ وأولادَهُم، ونصلِّي مع المعوَّقين الذين خسِروا الكثير من مَقدراتِهِمْ الجسديَّة من أجلِ لبنان. وبدلَ أن نُصلِّي من أجلهم، سأطلبُ إليهم أن يصلُّوا من أجل لبنان ويُمطروا علينا النعمَ السماويَّة والقِيَمَ الوطنيَّة والإنسانيَّة، التي نحنُ بأمسِّ الحاجة لها لنبني حياتَنا والوطن”.
وأنهى عظته بقوله: “ونُصلِّي من أجل جيشِنا الذي هو علامة الاستعداد الدائم للعطاء، علَّنا نتمثَّلُ بهم في كلِّ عملٍ وإدارةٍ وموقفٍ، لكي نبني وطنًا نابعًا من عطاءاتِ أبنائه، أولئكَ الذين زُرعوا في أرضه خطفًا واستشهاداً، أو الذين يحصدونَ اليوم ثمارَ آبائِهم وعطاءاتِهم. وليفضْ علينا الربُّ من نِعَمِهِ لنكونَ شفَّافين في تعاطينا مع بعضِنا البعض، وفي إدارة أمورِ الوطن، على أساس أولويَّة العطاء وليس الأخذ… وليكنْ اللهُ في عونِنا لما هو خيرُ الصالحِ العامّْ لكلِّ اللبنانيين”.