كلود أبو شقرا
لم تقوَ الهجمات التي تعرض لها وادي النصارى في السنوات الأخيرة، إبان النزاع المسلح في سوريا، على اقتلاع أهله من أرضهم، فإذا كان كثر هجروه هرباً من الإرهاب والإرهابيين، إلا أن معظم الأهالي صمدوا بأرضهم، رغم أقسى أنواع العذاب التي ذاقوها، إلى أن انزاحت الغيمة السوداء عنهم وتحررت أرضهم من الإرهاب، فعاد من هجروا إليه، وتوجت هذه العودة بزيارة بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي، الذي رفع الصوت عالياً في زمن اشتدت فيه الأهوال ، مذراً بقول البطريرك إغناطيوس هزيم: “إذا كان قدر البعض أن يدمر، فإن قدرنا أن نبني ونبقى”.
زيارة البطريرك يازجي
اكتسبت زيارة البطريرك يوحنا العاشر يازجي لوادي النصارى أهمية خاصة، بسبب خصوصية المكان وتوقيت الزيارة والتصريحات التي ادلى بها، فقد خدم فيها أبا وأسقفاً رئيساً لدير مار جرجس الحميراء، وجددت زيارته اللقاء برعيته التي خدمها لفترة غير قليلة. وهي معقل نضر ومتقدم وحضاري في محيطه الجغرافي، تعرض لهجمات وتهديدات بغية تهجير هذه الشريحة الواسعة من المسيحيين من تلك المنطقة، وهو يقاوم هذه الموجات.
كذلك تعتبر الزيارة تحدياً لحضارة حفر القبور والخوف ولـ”الداعشية” برمتها، وكل ما يتعلق بها، وذلك باعادة تثبيت إيمانه وا إمان جماعاته بوطنهم ورفضه للطائفية، ودعوة الأهالي إلى التسبث بأرضهم، مؤكداً أننا “سنبقى رسل محبة وتسامح في هذا المشرق”.
في عظة له أكد البطريرك أنه لمس، في الزيارة الأخيرة كما في غيرها، كيف يولد الانسان في كنيسة أنطاكية طفلاً يرضع حليباً مشبوكاً بالأصالة والإيمان والحفاظ على هذا الإيمان، وأن الكنيسة تترجم إيمانها بحب للإنسان والوطن، وأن أبناءها متمسكون بأرضهم وأنهم قدموا الشهداء في سبيل الحفاظ على الوطن.
من قلب وادي النصارى توجه يازجي الى المجتمع الدولي: “نقول للمجتمع الدولي ولكل ذوي القرار في هذا العالم، كفى تكفيراً وإرهاباً وتزييفاً لحقائق الأمور وكفى تصديراً لهمجياتٍ وامتطاء للشعارات. كفانا تصريحات مزيفة تدعو لاستقبال المسيحيين. إن خير ما يفعله العالم لخير المسيحيين والمسلمين هو نشر ثقافة الحوار في مشرقنا، ومحو ثقافة السيف. إن قطرة دم إنسانٍ بريء تراق هي أقدس من كل شعارات الدنيا. اقطعوا عن بلادنا يد الإرهاب وأوقفوا سيل السلاح وردوا سفنكم إلى موانئها. نحن لا نُحمى بسفن الحرب ولا بسفن التهجير. نحن نُحمى بغرس السلام في ربوعنا. نحن مغروسون هنا منذ ألفي عام، هنا ولدنا وهنا عشنا ونعيش وهنا نموت. نقولها رغم مرارة ألمنا وغصات قلوبنا، وبكل فخرٍ وإيمان وثقة بالله: فيْءُ زيتوننا أكثر دفءً من مواقد الغربة…”.
جلجلة وادي النصارى
قلعة الحصن التي تشرف على وادي النصارى وعلى مساحة واسعة من حمص وريفها والطريق الدولي بين حمص وطرطوس، كانت النقطة الأخيرة للمسلحين في ريف حمص الغربي الذين استخدموها لاستهداف القرى المسيحية المتعايشة مع قرى الجوار المسلمة، ولطالما ترددت أصداء المعارك التي دارت بين الجيش السوري والمسلحين التكفيريين في بلدة الزارة المحيطة بقلعة الحصن في وادي النصارى الذي ذاق قسوة الموت بعدما سقط شهداء كثر من ابنائه دفاعاً عنه.
رغم قساوة الحرب، بقي أغلب المسيحيين في هذه المنطقة رافضين ما تردد من أن بواخر أوروبية وأميركية مستعدة لحملهم إلى شتات العالم، وفضّلوا الموت في أرضهم. لم يرهبهم تنكيل التكفيريين بجثث أبناء المنطقة الذين وقعوا في أيديهم خلال المعارك، بل ازدادوا إصراراً على الصمود في أرضهم.
مرمريتا أكبر بلدة مسيحية في وادي النصارى، إلى جانب بلدة الحواش، وغالبية أهلها من الروم الأرثوذكس. قبل الأزمة السورية كانوا سبعة آلاف نسمة. أما اليوم، فيسكنها أكثر من ثلاثين ألفاً، بعدما لجأ إليها المسيحيون المهجرون من حي بستان الديوان في حمص والحميدية ومدينة القصير.
بعدما كانت مرمريتا أحد أهم مراكز الاصطياف في سوريا، عانت بدورها من ويلات الحرب، تظهر قلعة الحصن على جبل أقل انخفاضاً إلى الجنوب الغربي من مرمريتا، ويمكن للناظر في أيام الصفاء أن يرى جبال الأرز اللبنانية وجزءاً من سلسلة جبال لبنان الغربية.
في ساحة الدلبة، تنتصب الشجرة العتيقة كنقطة المحور. الطريق من الساحة تنحدر يساراً إلى حارة السهلة في وسط البلدة التاريخية القديمة، وجنوباً، نحو الحارة التحتانية ودوار الباسل. تتوزّع حارات الدقارة والحارة الغربية والفوقانية حول الدلبة، ويتوزع الأهالي على عائلات يازجي، سلامة، عين الشايبة، سلوم، الخوري، هزيم، كرم، شوك. حمل أبناء مرمريتا السلاح للدفاع عن منطقتهم، ووقع فيها شهداء ومدنيون،
وادي النصارى
يضم وادي النصارى مجموعة قُرى تتبع إدارياً محافظة حمص، وتقع في ريف حمص الغربي، وهي منطقة سياحية زراعية بامتياز، تتميز بارتفاع المستوى الثقافي والتطور في شتى المجالات، من أبرز معالمها جامعة الوادي الدولية الخاصة وجامعة الحواش الخاصة، ومنشآت صناعية منها شركات أدوية وغيرها
من أبرز المعالم أيضاً، دير مار جرجس الحميراء في بلدة المشتاية في وادي النصارى. في الماضي كان كهفاً تحيط به أكواخ الرهبان البسيطة، وكان مدخله من الجهة الجنوبية من الحجر الأسود. في القرن السادس الميلادي شيّد الإمبراطور “يوستيانوس” البيزنطي الكنيسة القديمة. وفي القرن السابع عشر بنيت الكنيسة الجديدة فوق الدير القديم، ثم شيد الطابق العلوي الذي يحوي غرف الزوار والحجاج. يحتفظ الدير بنسخة من العهدة النبوية التي وجهها عمر بن الخطاب إلى كنائس الشرق، وتنصّ على حمايتها وممتلكاتها وشاغليها وعدم الاعتداء عليها.
يتبع الدير “العرضي”، سوق قديمة تعود إلى مئتي عام طولها حوالي خمسمائة متر وعرضها حوالي خمسين متراً. في محيطها دكاكين صغيرة أنبوبية مقعودة من الحجارة على طراز الأقبية، وهذا السوق تقليدي يرافق مناسبة عيد الصليب، ويفتح أبوابه أسبوعاً واحداً من 17 أيلول حتى 14 منه. وتشهد ساحة الدير بهذه المناسبة نشاطات إجتماعية بين أهل الوادي وأدبية وأمسيات زجل.
كذلك من أبرز معالم الوادي قلعة الحصن، هي قلعة صليبية مسجلة على لائحة التراث العالمي تقع في بلدة الحصن، تعتبر واحدة من أهم قلاع القرون الوسطى المحفوظة في العالم.
في وادي النصارى، غربي دير مارجرجس، يقع نبع الفوار، يفور ماؤه تلقائياً من دون انتظام، ويعد لغزاً علمياً قديماً، وهو عبارة عن هوة داخل مجموعة من الصخور الكلسية في باطن الأرض، حيث تتفجر المياه من الجهة الشمالية في الهوة لتعود وتدخل في عمق الأرض من جهة الجنوب، وبعد فترة زمنية غير معروفة، تتفجر المياه من الجهة التي دخلت منها وبكميات هائلة، وتسير المياه في نهر العطشان، واللافت أن المدة التي تخرج فيها المياه من باطن الأرض على شكل فوران غير معروفة، فهي تمتد بين ساعة وأربع ساعات، وقد يفور مرات في اليوم الواحد وقد لا يفور في الشهر أكثر من مرة..
يرتفع في بلدة الناصرة على قمة جبل السايح تمثال سيدة الوادي، أكبر تمثال لمريم العذراء في الشرق الأوسط، يبلغ طوله ثلاثين متراً مع القاعدة الحجرية، دشّن عام 2009 ضمن فعاليات مهرجان القلعة والوادي.
من أبرز شخصيات الوادي يوحنا العاشر يازجي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، جوزيف عطية حائز على أول ميدالية سورية بتاريخ الألعاب الأولمبية في أولمبياد لوس آنجلوس في الولايات المتحدة الأميركية، وهو من بلدة عمار الحصن. عيسى أيوب، شاعر ومؤلف مسرحي كتب أغاني لكبار المغنين العرب، وحاز جوائز منها الجائزة العالمية لأغنية الطفل في مهرجان النقود الذهبية في إيطاليا عن أغنية “يا أطفال العالم ” باللغتين العربية والإيطالية.
يوحنا يازجي
تَسَلم يوحنا يازجي رئاسة دير القدّيسِ جاورجيوس الحُمَيراء البطريركيِ في وادي النضارة بين 1993-2005 حيثُ أسَسَ رهبنةً، وأنشأَ مدرسةَ التنشئةِ الإكليريكيّةِ على صعيدِ البطريركيّة. وساهم في تأسيسِ ديرِ السيّدةِ للراهباتِ في بلمانا – طرطوس.
انتخَبَه المجمع الأنطاكي المقدَّس عام 1995 أُسقفاً على منطقة الحصن في وادي النّضارة، أبرشيّةِ عكار. وفي 2008 عاد المجمعُ الأنطاكي المقدَّس وانتخبه ميتروبوليتاً على أبرشيةِ أوروبا.
بالإضافةِ إلى النشاطِ الكنسيِّ الداخليِ، كان له حضور خارجيٌ أيضاً على المستوى المسيحيِ عامةً، والأرثوذكسيِّ خاصّة. وله مواقفُ إنسانة، وطن ومسكونيةٌ هامّة، عَبَرَ عنها في المؤتمراتِ والحواراتِ الكنسية والوطنيّة. وقد اشتهرَ بوضوحِ الرؤيا واعتمادِه كلمةَ الحَقِ معياراً لكلِّ الحلول. عَرَفَ كيف يَجمَعُ الشَملَ الداخلي، ويدعو إلى الحوارِ والمصالحةِ بين جميعِ الأَفْرِقاء.
معروف أنهُ حيثما حَلّ ونَشطَ، ظَهَرَتْ للحالِ نهضةٌ كنسيَةٌ لامعة وقوية. فقد عُرِفَ بقربِه من الشبابِ، وبدعوته لهم إلى خدمةِ الكنيسةِ والوطنِ والمجتمع. في مراحلِ خدمتِه الكنسِية، عُرِفَ بحكمتِهِ في العملِ الإداريِّ والمُؤَسَساتِي، ويتميّزَ بدماثة الخُلق وسَلاسة الطَبع ولين المَعشر.
في 22 نيسان 2013 اختطف شقيق البطريرك المطران بولس يازجي، رئيس أساقفة حلب للروم الأرثوذكس، خلال عودته من مهمة إنسانيّة من ريف المدينة برفقة رئيس أساقفة حلب للسريان الأرثوذكس المطران يوحنا إبراهيم الذي خطف بدوره في حين قُتل السائق، وقيل إن المهمة الإنسانية كانت فك أسر مخطوفين، وقد تواترت أنباء عن كون الخاطفين شيشان.
بعدما طالت مدة الخطف، أصدر البطريرك بياناً، في أحد الشعانين، دعا فيها الكنائس إلى إلغاء “الاحتفالات الخارجية” وربط شريط أسود على الصليب وحاملات الشمع، مع إنشاد الترتيلة التقليدية “إني أنا عبدك” التي كتبها بطريرك القسطنطينية يوحنا الصوّام، طلباً لتحرروادي النصارى من إحدى هجمات البرابرة فتمّ له الأمر، وكان البابا فرنسيس طالب فورًا بإطلاق سراح المطرانين، وكذلك فعلت منظمة التعاون الإسلامي، واعتبرته عملاً منافيًا لتعاليم الإسلام..
كلام الصور
1- وادي النصارى
2- البطريرك يازجي
3- تمثال السيدة العذراء
4- كنيسة مار الياس الحواش
5- قلعة وادي النصارى
6- يازحي يضع حجر الأساس لقسم العيادات في مستشفى الحصن