“جرسة” في “البزريل”

الأديب مازن ح. عبّود

وصل “جرسة” إلى “كفرنسيان” بعد رحلة طالت إلى “البزريل” أي “البرازيل”. رفع قبعته البيضاء، وحيّا مستقبليه في mazen-1باحة المطار واحداً، واحداً. وقد كان بانتظاره هناك كل من مؤيدي الفريق البرازيلي في كرة القدم في “كفرنسيان”، وأبناء بيته. وافوا جميعاً لاستقباله. فارتدى المؤيديون للفريق البرازيلي ثياب اللعب وابناؤه والعائلة أفضل ما عندهم من ألبسة، وفق العادات والأصول. أطل عليهم بثيابه المرقطة، والبسمة لا تنفك تغادر وجهه، الذي احتله أنف حرفته الأيام عن مساره، فبانت من مخارجه أشجار كغابات المطر.
لاعب شواربه وأعلن لهم التالي من باحة الوصول: “والله العظيم اشتقت لكم”. وابتسم ابتسامته. وراح يصدح: “أهلا بالربع أهلا بكفرنسيان. والله عدت. “وحياة العذراء” رفعت اسمكم عالياً. “تقبريني” يا امرأتي لو كنت ورأيت بأم العين. نعم صرت أنا “جرسة” شغل الأمكنة الشاغل، حيث ما حللت سهلا. و”حياة مار أنطونيوس”. أخبركم بكل ذلك بالتفصيل لاحقاً”.

ركب السيارة. وجرت من خلفه سيارات الأقارب التي أرخت زماميرها ترحيبا بالعائد الكبير. وعندما وصل إلى كفرنسيان. نحر له خروف. وحمل على الاكتاف. وأدخل إلى صحن المنزل حيث أعدت الأطايب. فتح حقائبه وراح يخرج منها الهدايا. وقد أحضر لهذا عصفوراً صخرياً، ولذاك قطعة لحم اهترأت، ولتلك عذراء سوداء. ما نسي أحداً. حتى إنه أحضر للكلب فضلات طعام من “الريو”. وقد دعي “برهوم” وأهله الى العشاء، وذلك لأنهم من أهل الحي.
وما هي الا لحظات حتى سأله القوم: “كيف كانت البرازيل؟ وكيف تفاهمت مع أهل البرازيل؟؟.

فردّ عليهم بلا تلكؤ: “البرازيل منذ اكتشفها “فسق من غانا” (أي “فاسكو دي غاما) هي مؤخرات جميلة على رمال المحيط. هي أغنياء يتنعمون. وفقراء يجرون وراء طابة في مرجة خضراء. إنها بلاد الخير والفقر.

أما عن موضوع التواصل، فقد كنت أفهمهم بالنظرة وأجيبهم بالإشارة. وكنّا نتواصل “وحياة الله”. إلا أنني عدت فتلقنت بعض الانكليزية. فصرت اقول “التنك يو” أي شكرا، بفصاحة. عجيب هذا البلد حيث أنّ التنك أضحى فيه وسيلة للشكر”.

ففرح المدعوون بذكائه وفطرته. فأثنوا على مواهبه. فتابع:lawha-  daiia

“إلا أني هناك أعلنت حربا على الإمبريالية”.

فسألوه: “كيف؟”.

فاجاب:

“يا “طرزان” كنا نتناول الفطور في نزل “شيرين تم” (أي فندق الشيراتون) في “كبو جبّانة” أي “كابو غابانا” على الرمل. وأنا كنت اضرس طعامي، إلى أن اكتشفت رجلا أشبها يجلس ورائي. فأبلغت أنه طيار أمريكي. رفعت شوكتي وأشرت بها إليه كي يراه مضيفي “الخواجا جرجي”. فما كان إلا أن نهرني الطيّار. وطلب إليّ إعادة شوكتي إلى قواعدها، تحت طائلة الاعتقال. ووافى مرافقه كي يركلني. فدبّ المشكل “وحياة العذراء”. ولولا تدخل “الخواجا جرجي” لكنت أرديته. فالموضوع في مثلل هذه الحالات ليس موضوع شوكة خرجت من الصحن بل “قلوب ملياني”. إنه فصل من فصولي مع الإمبريالية”.

ثمّ تقدمت منه ابنته “جميلة” سائلة:

“هل أحببت المطاعم والأطعمة هناك؟؟”.

فأجابها:

“مطاعمهم قصور. وأطعمتهم تملأ المجلدات. تقرأ مجلداً كي تأكل “بزقة”. ما هذا الغباء والهباء؟؟ إلا أنهم صاروا في النهاية يعرفون ماذا آكل. فصاروا يحضرون لي اللحمة والبطاطاـ ويحضرون كؤوس نبيذ للمص والمدغ. أبلغهم بذلك الخواجا الذي هو “وحياة الله” آدمي. فأروح أمدغ واضرس. ويفرح الحضور. وعندما أفرغ من الأكل. أنظف أسناني بأصابعي. فاخرج ما علق بين أضراسي منها. وأروح أرمي به على العاريات، علهنّ يستترن، حتى كنت أطرد. فالمطلوب تنظيف الجيب ورمي ما فيه، وليس ما بين الأضراس. فيتدخل “الخواجا جرجي” والله إنه رجل آدمي. وسأهديه أكلة عصافير عربون شكر له”.

سأله “أبو عكر” عن النساء البرازيليات، فقال:

“قلة أدب وأجساد عارية. إلا أني لا أجد جسداً أجمل من جسد أم “الياس”. أقسم بالعذراء السوداء أني كنت انهرهنّ حين التقيهنّ. أين الحياء يا جماعة؟؟ وحياة “مار انطونيوس أب الرهبان” صار أبو “طنسى” يا “امرأة” (وتطلع صوب امرأته)، بكل تواضع، شغل الجميع الشاغل، أين ما حلّ. وصاروا يرصدونني حين آكل أو أشرب أو أكلمكم هاتفياً. صار “محسوبكم، و”حياة مار جرجس”، محطّ اهتمام “الريو”. فترتسم الضحكة على وجوههم إذا ما رأوني. زرعت فيهم الفرح “وحياة الله”. إنّ البشرية تحتاج إلى الضحكة”.

وعن أغرب شيء شاهده في رحلته، أردف:

“اغرب ما رأيته أن قطعة من البلاستيك حلّت محل الذهب والعملة. صاروا يمررونها على ماكينة، دون أن تسدد شيئاً. صار بإمكانك أن تشتري “ريو” بقطعة بلاستيك يا بشر. أما هذا؟؟”.

وختم قائلا:

“لم نستطع أن نلتقي “طرزان” هناك، بسبب وجوده خارج شاشة الحياة. البزريل (أي البرازيل) يا جماعة هي بلد الطبيعة الخلابة والعبادات والجنس. ففيها تتمايل الأجساد العارية في الشوارع على وقع الموسيقى في رقصة الصنج (أي السامبا). وكل قلة الهيبة تتم تحت نظر تمثال “يسوع المخلص” اللاتيني المحيا، الذي كبروه كي يراهم.

في البزريل (أي البرازيل) يتعايش الغنى والفقر والتلال والأودية. إنها أرض البزر كما يدل اسمها “البزريل”. إنها أرض الفوارق الشاسعة والأدغال والقرود. وهي حتما بلد كرة القدم التي تشغل أرجل من يفترشون الشوارع. إنها “الريو” التي تفتقر إلى نصب “فسق من غانا” (أي فاسكو دي غاما) البرتغالي. هذا الذي يبدو أنها قد حقدت عليه. فقد ادخلها عبثية مجاهل العالم من جمالية وبساطة المجاهل. “البرزيل” يا جماعة، بلد أطيب لحمة بقر وغنم وحتى بشر. إلا أنّ “جلاميط” اللحام “نجيب” تبقى أطيب من لحوم العالم كلها “وحياة العذراء”. و”الله العظيم” لن أترك “كفرنسيان” مهما حصل”.

سجل “برهوم” كل ما أدلى به “جرسة” حرفياً وما دار في تلك الليلة من أحاديث. وأحبّ أن أضيفه إلى كتابي. ففعلت…

اترك رد