القاص الأردني عبد الكريم حمادة
أمتار معدودة فقط، تلك التي تفصل بين خمس فوهات وبين ذاك الجسد المرتجف .. تماسك على ساقيه معصوب العينين، بعصابة سوداء تدلى أحد طرفيها ساتراً نصف وجهه تقريباً، بينما كانت يداه مقيدتين خلف ظهره المنحني إلى الأمام قليلاً…
قدماه عاريتان، وبنطاله الرّثّ قصر عن تغطيه كامل ساقيه، أما قميصه الذي انفرج شقّاه من الأسفل فبدا بياض بطنه المحيط بسرّته، فلم يبق له من الأزرار سوى زرّ واحد .. وكما تبدو سرّته من بين شقّي قميصه، كان هو يبدو متوسطاً شقّي ذلك الجدار القذر الملطخ بلون أحمر داكن يميل إلى السواد …
ـ أريدُ أن أُحصي خمسة ثقوب في صدر هذا الوغد .. مفهوم، صرخ الضابط ذو البزّة الأنيقة، والحذاء الذي يلهثُ لمعانهُ.
ـ أريد خمسة ثقوب .. قالها ثانية، وهو يوجه نظراته إلى جمع الجنود خلف الفوهات وقد رفع يده، مفرقاً بين أصابعه، إشارة إلى تأكيده على الرقم خمسة..!
تحرك بضع خطوات، وهو ما يزال رافعاً يده ومفرّقاً أصابعه، ثم هبط بيده أثناء توقفه، قبل أن يصرخ ثانية وبصوت حازم ومدو فيما كانت يده تتحرك إلى الأعلى مع تحرّك شفتيه ولسانه بالأمر الحازم؛ صَّوبْ ..
انتقضت الفوّهات الخمس، في اللحظة التي انتقض فيها الجسد الذي بانت سّرته، وهو يفرج شفتيه المنتفضتين، بما لم يكن لأحد أن يسمع إلا أن هناك شفتين تنتفضان أو ترتعشان خوفاً … صلاةً… تمتمات .. لا أحد يدري في تلك اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت.
لحظات من سكون يرتعش خيم على تلك الباحة، وصمت مطبق، لم يقطعه سوى دخول متعجّل لرجل يرتدي فوق ثيابه (مريولاً) أبيض، ويحمل حقيبة سوداء صغيرة…
– لقد تأخّرت أيّها الطبيب، كاد أن يفوتك المشهد .. قال الضابط مبتسماً وهو يتوجّه نحو الرجل ذو (المريول)، ماداً يده إليه لمصافحته…
– خمس دقائق، لم أتأخر سوى خمس دقائق فقط … رد صاحب المريول، وهو يقبل على الضابط، قبل أن يدخلا في حديث تخّللته ابتسامات أول الأمر، ثم ضحكات عالية أخيراً …
قال الجندي خلف الفوّهة الأولى، محدّثاً نفسه وهو يصّوب فوّهته وعينيه نحو ذلك الجسد … إنه خالد … أجل خالد .. المسكين تزامن خروجه لشراء بعض الحاجيات مع اندلاع إحدى المظاهرات ، فقبضوا عليه .. ولكن ..!
خالد ذو جسد ممثلئ مقارنة بصاحب هذا الجسد الهزيل …؟
أووه .. ما أغباني، أربعة شهور كافية لإذابة جسد ممتلىء في تلك الزنازين .. خالد، يكره السياسة، ولكن .. لا بد أنه أكره على الاعتراف بشيء ما تحت التعذيب .. الكل يعترف تحت التعذيب ..!!
– الهيئة … بياض الجسد … الـ … ربما هو ابن خالتي عصام …؟!
قال الجندي خلف الفوهة الثانية : ربما ، فمنذ عام وعصام مفقود … داهموا منزلهم، فعثروا على كتاب ممنوع … لا بد أنه اعترف بشيء ما، … الكل يعترف تحت التعذيب..!!
– فيه الكثير من الشبه بنزار ، يا إلهي!
قال الجندي خلف الفوهة الثالثة … لو كان نزار عضواً في ذلك التنظيم السّري الذي اتّهموه بعضويته لكنت أول من يعرف، نزار صديق الطفولة ولا أسرار يخفيها عليّ… ولكن لا بد أنّه اعترف تحت التعذيب .. الكل يعترف تحت التعذيب..!!
– فؤاد… نعم، إنه فؤاد، ابن جارنا الخباز، أعرفه من أصابع قدميه، كنّا نهزأ به لطول أصابعه، وخاصة أصابع قدميه… أعرف أصابعه…
قال الجندي خلف الفوهة الرابعة … لقد قبضوا عليه منذ ستة شهور ولا أحد يعرف لماذا؟!
المسكينة أمه، تكاد تفقد عقلها، بل هي فقدته فعلاً، فهو الوحيد المتبقي لها بعد أن أخذت منها الحرب ولديها هاشم وعبد العزيز … لا بد أنه اعترف بشيء ما … الكل يعترف تحت التعذيب..!!
– تباً لذلك الزرّ اللعين … لو انتفح ذلك الزرّ، لعرفت تماماً، فصدره يقطع كل ظنوني ..! قال الجندي خلف الفوهة الخامسة … وكيف يخفى عليّ أمره، إننا زملاء خندق واحد، أنا وهو .. آه رشدي … لقد أنقذ حياتي، لقد تلقى عنّي صلية المدفع الرشاش، بكل شجاعة وتضحية، ثم بقي حياً، خمسة ثقوب، تركت تلك الصلية في صدره، ولم يمت، أعجوبة..!
لا أحد يعرف بأية تهمة قبضوا عليك يا رشدي .. آه … ولكن لا بد أنها خطيرة .. ولا بد أنك اعترفت بشيء ما .. فالكل يعترف تحت التعذيب..!!
قهقهة عالية تسابق الضابط والطبيب، حينما توجه الضابط إلى الجنود منبها، فقطع عليهم تلك التساؤلات الدفينة التي كانت تدور في دواخلهم .. عاد الضابط إلى مكانه، وتوجه إلى الجنود
ـ أريد خمسة ثقوب في صدر هذا الخاسىء الجبان… واضح..؟؟
ـ استعد … صوّب …
تهاوى الجسد على ركبتيه قبل أن يهوي بصدره على الأرض مثيراً المزيد من الغبار المتطاير حوله …
– الآن، أقسم ، إنه هو … هكذا تماماً، هكذا تماماً، هكذا سقط عندما أُصيب في المرة الأولى … اللعنة … اللعنة على كل من أضاف ثقباً آخر إلى صدرك… قالها الجندي خلف الفوهة الخامسة، وهو ينظر إلى وجوه الجنود عن يمينه… وحينما كان الطبيب يتقدم نحو ذلك الجسد، كان الجندي خلف الفوهة الخامسة ما زال يحاول قراءة وجوه بقية الجنود، فوجوههم تشبه وجهه تماماً .. لم يكن يدري لماذا … تركهم وهو يمدّ ببصره مثلهم إلى حيث بدأ ذلك الطبيب يقلب الجسد، ثم خلع الزر المتبقي، وبدأ يتفحص الجثة أمامه …
عاد الطبيب إلى حيث يقف الضابط، الذي شرع بإخراج سيجارة من علبة تبغه، ثم بدأ إشعالها في الوقت الذي صار الطبيب قبالته …
– هل مات ذلك الكلب كما يجب..؟
– أجل، ولكن …
– ولكن ماذا؟!!
– اخبرني، هل سبق لكم أن أعدمتم هذا الرجل من قبل؟!!
– ماذا تقصد؟ قالها وهو ينزل سيجارته من فمه …
– لم أجد في صدره سوى آثار لخمسة ثقوب سابقة… إنها إصابة قديمة..!
– كيف مات إذن؟
– على الأرجح بالسكتة.
صوب الضابط عينيه إلى الجنود الخمسة، وهو يفغر فاه قليلاً قليلاً … فيما كان دخان سيجارته يتصاعد، في اللحظة التي بدأ فيها دخان الفوهات، الأبيض يخبو …
في تلك اللحظة تحديداً شرع الطبيب في تدوين تقريره … نظر إلى ساعته، ودون في نهاية التقرير…
زمن الوفاة، الساعة الخامسة مساءً.
****
كلام الصور
1- اللوحة للرسام التشكيلي العراقي علاء بشير