هل يبدأ العرب بالتعامل مع منصفيهم في الغرب؟

الكاتب عبد الله بن علي العليان

المفكّرون العرب ضائعون اليوم في متاهات عدّة: متاهة الأفول لانعدام دورهم، ومتاهة الهرب أو الانسحاب من logo fikrالمشهد، لأنهم لم يعودوا مقبولين في مجتمعاتهم.. ثم متاهة الصمت والنفي الذاتي.. فكيف يلتفتون إلى قيام حوارٍ مع الآخر الغربي الذي يتقاذفهم في إعلامه بشتّى الأوصاف والنعوت، باستثناء فئة قليلة من أولئك الغربيّين، مُنصِفة للعرب بتاريخهم القديم، وحتّى بحاضرهم الذي يشوّهه الآخرون كلّ يوم، فضلاً عن تشويههم لأنفسهم؟

يطرح بعض المفكّرين والباحثين المنصفين في الغرب، وفي البلدان العربية، فكرة تأسيس حوار ثقافي واجتماعي بين الغرب والعالم العربي والإسلامي. هدف هذا الحوار هو إبعاد شبح الصراع والتوتّر والتوجّس بينهما، والقائم منذ أطروحة “صدام الحضارات” وانتهاءً بأحداث الحادي عشر من سبتمبر.

إن الدعوة هذه إلى الحوار هي جديرة بالدعم والمساندة السياسية والإعلامية العربية بغية تشجيع دعوات الإنصاف المطروحة، مقابل المقولات الداعية إلى الصراع والمناطحة، بدلاً من الحوار والتفاهم الموضوعي القائم على تبادل المصالح، وأوّلها قيام علاقة بين الطرفين على أسس سلميّة وأرضيّة مشتركة بين العرب والغرب، بعيداً عن النظرة الاستعلائية، ونفي الآخر وإلغائه وإنكاره.. وكذلك استبعاد الأفكار المسبقة عن العرب والمسلمين، واعتبارهم العدو الجديد، بعد سقوط الشيوعية وانهيار أنظمتها.

إن الموضوعية والتعامل العادل مع القضايا العربية والإسلامية هما من الركائز المهمّة لقيام ثقة متبادلة تسهم في نقل الصورة الإيجابية الواضحة للعلاقة المتبادلة المبنيّة على النزاهة والعقلانية، بدلاً من التهويل والمزايدة، وزرع سوء الفهم والتوجّس، وهذا ما طرحته نظرية “صراع الحضارات” وبخاصة بين الإسلام والغرب. فالمسلمون من الناحية المنطقية، لا يسعون إلى الصراع، وليست لديهم المقدرة لخوضه، لأنهم في صراع آخر..Jean-Francois_Lyotard.-1jpg

لكن مع التخلّف والبناء وتأسيس تنمية إيجابية وتغيير الواقع الراهن نحو آفاق رحبة ومتقدّمة. هذا هو صراعنا القادم كما نعتقده ونسعى إليه نحن العرب، كسوانا من الشعوب الأخرى. ففكرة الصراع المقبل والمواجهة المرتقبة بين الإسلام والغرب، مقولة مصطنعة غذّتها الصهيونية وبعض المؤسّسات الإعلامية لغاية في نفس يعقوب! وحوار الحضارات هو أفضل صيغ التفاهم والتقارب بين الشعوب والتسامح الثقافي. فهو يسهم في صياغة الحضارة العالمية الجديدة في حال قُدِّر لها النجاح والتشكّل، لكن ليس على النمط العنصري الذي يظهر في الكتابات الحديثة، والذي يقوم على تشويه صورة الشخصية العربية، ومن أبرزها كتاب دافيد برايس الدائرة المغلقة تأويل للعرب، حيث يتنبّأ برايس بأن العرب لن يستطيعوا الخروج من دائرة التخلّف أبداً!

لذا يغدو من الأهمية الاعتراف بالتقاليد الحضارية المميّزة للشعوب والثقافات، كمنطلق مهمّ لإعادة صوغ التفاهم الجديد بين الحضارات، والاعتراف بمتطلّبات البقاء والتوازن في العطاء الكوني، بعيداً عن الهيمنة والأفكار المسبقة والموروثة، والتي تقوم بدور سلبي في تعميق الاختلاف وإثارة العداوة. هذه الصورة نفسها التي يطرحها بعض الباحثين عن العدوّ الجديد والمواجهة القادمة بين الإسلام والغرب، وهي في الواقع مجرّد أفكار رُسمت في الذهن (العداوة المستدامة) عن شعوب وحضارات معيّنة، من دون توافر أيّ معايير علمية حولها.

في كتابه ما بعد المجتمع الصناعي، تقرير عن المعرفة، يقول الفيلسوف الفرنسي ليوتار إن ” أهمّ معالم المرحلة الرابعة من معالم المعرفة الإنسانية هو سقوط النظريات الكبرى وعجزها عن قراءة العالم”، ويقصد بذلك أساساً الأنساق الفكرية المغلقة التي تتّسم بالجمود ومن أمثلتها كما يقول الكاتب، الأيديولوجيات، فضلاً عن سقوط الحتمية سواءً في العلوم الطبيعية كما عبّرت عن ذلك فلسفة العلوم المعاصرة أم في التاريخ الإنساني. إذ في رأيه، ليس ثمّة حتمية في التطوّر التاريخي من مرحلة إلى مرحلة؛ على العكس، التاريخ الإنساني مفتوح على احتمالات متعدّدة. ومن هنا رفضه لمقولة النموذج الخطّي الصاعد من أدنى إلى أعلى، لأن التاريخ الإنساني قد يتقدّم، ولكنّه قد يتراجع أيضاً.. إذ انتهت الحتميّات، ولن تنجح سوى فكرة الاعتراف بالآخر، والحوار معه، واحترام تمايزه الثقافي والحضاري.john espezetto

وللإنصاف نقول إن بعض الباحثين والأكاديميّين والسياسيّين الغربيّين ينتقدون بشدّة تصعيد العداء مع العرب، ويستنكرون مقولات المواجهة المقبلة، والصراع الحضاري بين الإسلام والغرب. ومن أبرز هذه الأصوات، المحاضرة الشهيرة التي ألقاها الأمير تشارلز، ولي عهد بريطانيا، في جامعة أكسفورد، أواخر القرن الماضي، والتي انتقد فيها حملة الصحافة البريطانية على الإسلام، وأشاد بقيم التسامح ودور الإسلام الحضاري في إثراء الحضارة الأوروبية نفسها، داعياً إلى الحوار والتفاهم بين الحضارات لما فيه خير البشرية والإنسانية.

نعتَ إدوارد جيرجيان، مساعد وزير الخارجية الأميركية الأسبق لشؤون الشرق الأدنى وجنوب شرق آسيا، نعتَ الحملة المحمومة على العرب بـ”الخطر المقبل”: ” نحن على خلاف مع هذا التصوّر الذي لا يرى في الإسلام إلا أيديولوجية تحاول أن تصادم الغرب أو تهدّد السلام .. الحرب الباردة لا يجري استبدالها بمواجهة جديدة بين الإسلام والغرب، ذلك أن الحملات الصليبيّة انتهت منذ وقت طويل. كما أن الأميركيّين يعترفون بالإسلام على أنه أحد أعظم الأديان الذي له أتباعه في قارات الأرض كافة، ونحن كغربيّين نعترف بالإسلام، بصفته قوّة حضارية تاريخية من بين الكثير من القوى التي أثّرت في ثقافتنا وأثْرَتْها”.

المستشرق الفرنسي الراحل جاك بيرك قال في هذا الصدد: “يعتبر الغرب اليوم، ويا للأسف، أن الإسلام عموماً هو مصدر مباشر موجّه ضدّه.. فقد قرأت مؤخّراً كلاماً عن تهديد موجّه إلى أوروبا من طرف عدد من البلدان الإسلامية.. والغرب يوجّه احتياطيَّه الاستراتيجي نحو الجنوب البعيد، بعدما كان موجّهاً لوقت طويل نحو الشرق، وأن العرب والإسلام هما العدو الواجب قهره.. مثل هذا الكلام مبالغ فيه ويحتاج إلى دليل”.

لي هاملتون رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي الأسبق، قال في إحدى الندوات التي عقدت في مبنى الكونغرس منذ سنوات، وحضرها باحثون ومفكّرون من بلدان مختلفة: “إنّني أرفض بعض طروحات الأكاديميّين والتنبّؤات التي تتحدّث عن صراعٍ بين الحضارات، وأعتقد بأن هناك مصلحة مشتركة في الإصلاح السياسي وليس بالضرورة أن يكون على النمط الأميركي”.

المفكّر الأميركي المعروف البروفيسور جون إسبوزيتو، رئيس مركز التفاهم الإسلامي المسيحي في جامعة جورج تاون، وصاحب الكتاب المعروف التهديد الإسلامي .. حقيقة أم خيال، قال عن قضية الصراع مع العرب التي أُثيرت في الغرب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، والتي سلّطت خلالها وسائل الإعلام الضوء على التهديد الأصولي والخطر الإسلامي المقبل: ” أنا اعترف بوجود إعلاميّين ومحلّلين سياسيّين وكتّاب أعمدة بارزين في الصحف الأميركية، يزيدون من التوتّر بين الإسلام والغرب، ويبرزون الإسلام على أنه تهديد للغرب، لكن مع ذلك ثمّة منصفون ومعتدلون؛ لكنّ المسلمين للأسف لا يسمعون إلا الأصوات المتطرّفة التي تعادي الإسلام وتشوّه صورته… وهؤلاء، وعلى الرغم من أن معظمهم من اليهود، إلا أنّنا لا نريد أن نركّز على أنّهم هم وحدهم الذين يثيرون العداء بين الإسلام والغرب، إذ هناك غيرهم أيضاً، وهم كتّاب كبار أيضاً، في الصحف الغربية، يشعلون العداوة بين الإسلام والغرب، بحجّة أن الإسلام دين لا يقبل بالحوار بين الحضارات، وأنه قائم على العداوة للأديان والحضارات الأخرى، ويعملون على إبادته”.lee-hamilton.-1jpg

البروفسور الأميركي جون فول أستاذ التاريخ في جامعة نيوهامبشير، ورئيس رابطة دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتّحدة الأميركية، وأبرز المفكّرين الغربيين المنصفين والمهتمين بالفكر الإسلامي قال منذ سنوات: “إن هناك تحاملاً غربياً ضدّ الإسلام من دون شكّ، لكن الأميركيّين بدأوا يدركون، وبصورة متزايدة، أن هناك مسلمين أميركيّين مخلصين، وهذا من وجهة نظري شيء إيجابي”؛ وأضاف قائلاً: ” إن التغطية الإعلامية الغربية المعادية للإسلام، التي ربطت الإسلام بالإرهاب، هي جزء من تحيّز قديم ومن تحامل قائم في الحضارة الغربية التي ما زالت تتعامل مع الإسلام والعالم الإسلامي بالعقلية الصليبية”.

هذه الآراء المنصفة والمنطقية في الغرب، لا بدّ أن تجد لها أصواتاً عربية لتعلو بالتفاهم والحوار بين الحضارات، ولتطالب بنبذ مسلك الإقصاء والهيمنة وإلغاء الآخر، إذا ما أريد للإنسانية أن تتعايش في سلام، وأن تتقارب في ثقة واطمئنان، بعيداً عن الأفكار العدائية للثقافات الأخرى.

ومن الحقّ القول إن مؤسّسات عربية عدّة، ومنها “مؤسّسة الفكر العربي”، اضطلعت بدور مهمّ في السنوات الفائتة، في مسألة العمل الجادّ على قيام حوار مع الغرب، سواء عبْر حوار سياسي أم فكري أم ديني، وأقامت نشاطات مختصّة مهّدت لمؤتمرات في هذا الشأن.

****

(*) باحث من سلطنة عُمان

(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق

اترك رد