الوزير السابق جورج سكاف
المبادرة الوطنية لمئوية اعلان دولة لبنان الكبير اطلت هذا العام بحفل في سراي الحكومة التي تقوم مقام رئاسة الدولة
لتؤكد أن لبنان، رغم الفراغ الرئاسي واستباحة الحدود الجردية من الداعشيين بخطف جنود لبنانيين لمبادلتهم باطلاق سجناء يقيمون امارتهم ضد الدولة وهم في السجن، وبحضور رئيس جاء بعد فراغ ليترك بعده الفراغ، أكدت ان لبنان الذي حمل البطريرك الحويك الى فرساي امنية جميع ابنائه في المطالبة بالاستقلال والسيادة، لا يزال يؤمن بانه، بعد ما يقارب المئة سنة، لا يزال ينشد اعلان قيام دولة لبنان في دستور يجسد جوهر التراث اللبناني وخصوصية رسالة لبنان الحضارية والانفتاحية في بيئته الخاصة وفي محيطه الحيوي وفي عالم انتشاره.
فرحة البطريرك الحويك ببشارة الاستقلال، قد لا ينغصها اليوم التساؤل بحسرة: ماذا فعلتم بلبنان وقد جعلتموه من دون رأس. ويرى ان دولة لبنان الكبير مستمرة في بطريركية اعطيت مجد لبنان واذا كانت مرجعية فرساي قد خفت بريقها فلها اكثر من مرجعية في العالم تجعل مجد لبنان اكثر من وطن مستقل يقوم على التعايش بل رسالة تفاعل بين مختلف الديانات والحضارات في هذه المنطقة من الشرق المشتعلة بنزاعات طائفية ومذهبية وعرقية تهدد العالم بإرهاب اصولي يقض مضاجعه. وطمأن اسقف بيروت، التي صارت عاصمة لبنان دولة الكبير، البطريرك الحويك، اب الاستقلال، بان الللبنانيين جميعا لا يزالون متشبثين بالاستقلال اليوم أكثر من اي وقت مضى، وانما لو توقظ ضمائر نواب الامة وتكون على مستوى المسؤولية بانتخاب رئيس للجمهورية.
والمؤلم ان يقول الرئيس الذي حضر الاحتفال وقد ترك الحكم في فراغ رئاسي: انه انتابه الحزن والاسى وهو يشاهد الوطن يشيخ، لان فكرنا السياسي لم يتطور بل تقهقر الى ذهنية رجعية، ما حول دولة لبنان الكبير الى دول كبرى في الوطن الصغير. تجتهد في صياغة اقتراحات قوانين انتخابية وانظمة ودساتير وعقد مؤتمرات تأسيسية تحول المشاركة الوطنية من تمثيل الامة الى خيارات متقوقعة وتمثيل مذهبي ضيق.”
ولكن رئيس حكومة المصلحة الوطنية كان اكثر تفاؤلاً اذ رأى انه بعد “اربعة وتسعين عاما بقي الكيان اللبناني صامداً على رغم كل المحطات الصعبة التي عبرها منذ اول ايلول 1920. وقال: ان الكيان الوطني اهتز مرارا ولم يسقط،، مر بكثير من الازمات والفتن والانقسامات الداخلية واستورد من ازمات الغير ما هو فوق طاقته وبقي صلبا ثابتا. فقد ارسى الاباء المؤسسون استقلاله على صيغة خلاّقة سُمّيت الميثاق الوطني شوهها العجز عن بناء دولة قوية والخلاف المتمادي على طبيعة وآليات عمل النظام السياسي، وحاول ميثاق الوفاق الوطني في الطائف ان يضع لها تسوية تاريخية باصلاحات سياسية ولكن المواقف الملتبسة منه وعدم تطبيق جميع بنوده افقدته سلطاته الشرعية فاخفق في تنفيذ الاستحقاقات الدستورية في مواعيدها واهمها انتخاب رئيس الجمهورية”.
*
الغائب الأكبر عن احتفالية اول ايلول من يستذكره خليل رامز سركيس في “صوت الغائب” في حديثه عن االذي خط بيده الكثير من مواد الدستور والتعديلات، وشدَّدَ على ضرورة قراءة دُستور الوطن وفَهمِ روحه لا نصّه وحسب. بدقة وبُعد نظر. ميشال شيحا الذي صاغ النِّظام على حرية لا تتجزأ، تتجاوز حقلي الدين والسياسة الى الاقتصاد، حيث يصبح العمل والتجارة وانتقال الأشخاص والرساميل، عملا ثقافياً في الحوار بين لبنان والعالم، دون تمييز بين شرق وغرب. ويقول: اذا كان لبنان لا يزال ينعم بهذه الحُرِّية حتى اليوم، فلأنها أصبحت ثروتَه الكُبرى، ثروة لا تُقاس في ضيق مساحته بل في اتّساع عقله. وقد جعلت مسرحه الكونَ بأسره”.
ظلّ ميشال شيحا مرجعاً دستوريا لكل العهود المُتعاقبة. يُساهم في صُنع اللَّحظات اللبنانية الحاسمة، يطلُّ كل صباح بافتتاحية في جريدة “لوجور”، تتناول مختلف الأحداث فتكون له الكلمة الفصل في مختلف الأمور. وتجلى فكره الوطني الشامل في محاضراته في “الندوة اللبنانية” التي جمعت في كتاب بعنوان “لبنان في شخصيَّته وحضوره” احتُفِل بصدوره عام 1962 في قصر فرعون، وقدمه وزير الخارجية آنذاك فيليب تقلا بقوله: ليس من السهل الحديث عن ميشال شيحا الذي جمع في شخصه من المؤهلات والكفاءات المنوّعة إلى حدّ التناقض، ولكنه بقدرته العجيبة نجح في التوفيق بينها، وجعلها روافدََ نهرٍ واحد لهدفٍ واحد هو لبنان… استطاع ميشال شيحا المثالي الواقعي في آن أن يُقيمَ، بفضل ذكائه الرحب، جسوراً بين عبقرية الحُلم وعبقرية الواقع، فصار لبنان بلدَ الحُلم والواقع معا”.
حول دوره في وضع الدستور، وكان مُقرّر اللجنة اللبنانية لوضع الدستور مع البرلماني القدير شبل دموس، يذكر خليل رامز سركيس” شيئا عن مُضادةٍ شَجَر أمرُها بين شيحا وبيهم في مجلس العُمَرين، كما قيل عن البرلمان الذي يضم عُمَر بَيْهُم وعُمَر داعوق، و”ذلك انه في أثناء التباحث النيابي في بعض مواد الدستور إحتدت المناقشة بين بيهم وشيحا، وإذ احتدت المناقشة واتسعت شِقَّةُ الخِلاف انسحب الرجلان الى غرفة مجاورة في خلوةِ مُصارحةٍ طويلة كان فيها للحكمة وسلامة الحِِسّ الشعبي فصلُ القول والغعل. في لحظةٍ من لحظات الوعي ويقظة الضمير والشعور بالتَبِعات أدرك النائبان أن ما يجمع أهلَ البلد الواحد أهمّ مما يفرقهم، ومما قاله بيهُم لشيحا: اذا نحن اختلفنا فمَن يتفق بعدنا؟ لا غنى لنا عن التفاهم او نُخرب البلاد. ثم عاد الرجلان الى الجلسة وقد تفاهما، فأُعلِن الاتفاق على الدستور وعُيِّش الوفاق”. فاين ذلك الوعي الوطني في مجلسنا اليوم الذي تحكمه سلبيتان تعطلانه مداورة الواحدة بالتغيب عن الجلسات التشريعية والاخرى بالتغيب عن الجلسات الانتخابية.
*
ما يؤثر عن ميشال شيحا ان التاريخ المُخلد على شِقّ قلمه بقي الأوّل من ايلول 1920، ففي هذا التاريخ من السنة التالية كتب افتتاحيته بعنوان أول أيلول احتفالا بذكرى اعلان دولة لبنان الكبير، وظلّ في كل سنة يحتفي بهذه الذكرى بافتتاحية تحمل العنوان ذاته: أول أيلول. وكان آخرها سنة رحيله وبالعنوان ذاته فقال: في 1920 حققنا الكيان، وفي 1943 نلنا الإستقلال، وآلمه ان نسير القهقرى فقال: إذا كان النسيان آفةَ الإنسان فإنه لدى الشعوب والدول يعرّض للفناء، فلنبقَ موحدين أقلّه على شيء واحد: على حُب لبنان.
اي قلم ميثاقي سيكون له شرف كتابة مقال اول ايلول 2020 ويزيد على قلم ميشال شيحا الاستقلالي باننا حققنا دستور الاستقلال 1943 ولكننا في وثيقة الوفاق الوطني، في الطائف، توصلنا الى اصلاحات سياسية صدقها مجلس النواب وصارت في صلب الدستور في 5-11-89، ولكن المواقف الملتبسة منه، كما يقول الرئيس سلام، وعدم تطبيق جميع بنوده افقدته سلطاته الشرعية فاخفق في تنفيذ الاستحقاقات الدستورية في مواعيدها واهمها انتخاب رئيس الجمهورية”.
*
تصدرت وثيقة الوفاق الوطني، رزمة اصلاحات سياسية، اختصرت وصارت مقدمة للدستور وجزءا لا يتجزأ منه. زادت من الالتباس فيه اذ اخذ منها ما يلائم البعض وبدل تبديلا ما يوافق البعض الآخر. وكما قال جبران خليل جبران: “يبتهجون بسن القوانين وابتهاجهم أكبر حين يخرجون عليها”.
أهم هذه الاصلاحات السياسية (المادة 17) أناطة السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء، بعد ان كانت بيد رئيس الجمهورية يتولاها بمعاونة الوزراء، على ان يجتمع دوريا في مقر خاص، ويتخذ قراراته توافقيا واذا تعذر ذلك فبالتصويت. وحتى الان وبعد خمس وعشرين سنة، لم يحصل مجلس الوزراء الذي انيطت به السلطة الاجرائية على مقر خاص ولا على نظام داخلي وجهاز اداري مستقل يخوله القيام بمسؤولياته، فاختزل مجلس الوزراء برئيس الحكومة، يملك وحيدا في سراي الحكم. ومع ان الدستور وسع صلاحيات الوزير ليكون على رأس كل دائرة ومصلحة، فلا تزال كل الشؤون الادارية، محاسبة وتفتيش وخدمة مدنية، وكل المجالس التنفيذية، مجالس المشاريع الكبرى ومجالس المهجرين والجنوب، كما المجالس العليا لطوائف معينة ومحاكمها الشرعية تابعة له وليس من يرعى مختلف الاحوال الشخصية حكوميا، كما هي في بلدان مجاورة في عهدة وزير، مما يفرضه النص الدستوري الذي يقول بعدم التمييز بين اللبنانيين وانهم سواء امام القانون.
*
ويبقى السؤال الكبير ماذا حل برئيس الجمهورية؟
يؤكد الدستور على انه رئيس الدولة، وهو يسهر على احترام الدستور، يسمي رئيس الحكومة، استنادا الى استشارات نيابية ملزمة، ويصدر مرسوم تسمية رئيس مجلس الوزراء منفردا، ويصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة. كما اعطي صلاحيات مضافة لم تعط لأي ملك بان برد قرارات مجلس الوزراء وقوانين لمجلس النواب لتعديلها، او الطعن بها امام المجلس الدستوري لالغائها.
لم يتمكن اي رئيس، في جمهورية ما بعد الطائف، ان يكون رئيس دولة، واخذ قصر الرئاسة في بعبدا يضمر شيئا فشيئا الى ان وصل الى فراغ تلو فراغ، سواء بوجود رئيس او من دون رئيس. فمنهم من تنازل عن سلطاته الى ولي نعمته يحكم على هواه، ويترك له مقعدين وزاريين للصهر ولصديق العائلة. وآخر ترك الحكومة تتصرف على هواها ولا يهتم بها لاعتبارها “حكومة بتراء” بدلا من ان يعتبرها فاقدة الشرعية او مستقيلة ويدعو المجلس النيابي الى استشارات ملزمة لتأليف حكومة جديدة.
صارت رئاسة الدولة سلعة للتداول في الاوساط السياسية للتسلية او لتحسين مواقع النفوذ خارج مؤسسات الدولة. ارتأى البعض إبقاء الرئيس في قصر الرئاسة، بعد انتهاء ولايته، حتى انتخاب من يخلفه ويتسلم المسؤولية مكانه، واقترح آخرون تعديل مادة وحيدة من الدستور تتعلق بحق الترشح للرئاسة لينتخب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرة، دون تعديل في صلاحياته ومهامه. اي ان يصبح لدينا رئيس جمهورية لنظام رئاسي يحكم جمهورية نظامها برلماني، رئيس يمثل الشعب اللبناني باسره وعليه ان يستشير استشارات ملزمة نوابا يمثلون اجزاء من الشعب لتعيين رئيس الحكومة، وهو الحاكم المختار من الشعب باسره لا يستطيع ان يعين موظفا ولا ان يصدر مرسوما الا بتوقيع رئيس الحكومة والوزير المختص. بتعديل او من غير اي تعديل صارت رئاسة الدولة مركزا مرموقا للفراغ.
زمن الفراغ الرئاسي حاليا أعادنا الى زمن المبادرات في الاصلاح السياسي، الى مبادرة اطلقها قبل عقود الدكتور منوال يونس فاقترح انشاء مجلس رئاسي يمثل الطوائف الست الكبرى، ينتخب لمدة ست سنوات ويتناوب اعضاؤه الرئاسة مداورة سنة فسنة، كما هو متبع في سويسرا مثلا، وللرئيس صائب سلام اقتراح مماثل. وقد يكون هذه افضل حل للبنان المتعدد الطوائف، فتشعر كل طائفة بالاطمئنان وبانها غير منتقصة الاهمية بالنسبة الى طائفة أخرى، فلا نعود بحاجة الى مجلس شيوخ ينشأ بعد الغاء الطائفية من الانتخابات النيابية. وتظل الطوائف الكبرى تتمتع بمواقع عديدة مميزة في السلطات المالية والعسكرية والقضائية…
*
ومن أهم من اقرته وثيقة الوفاق الوطني اعتماد قانون انتخابي خارج القيد الطائفي، يحقق التمثيل الشعبي الصحيح في دوائر انتخابية، على اساس المحافظة بعد اعادة النظر في التقسيمات الادارية، توفر اللامركزية الادارية والانماء المتوازن. وحتى الان لا نزال نعتمد قوانين انتخابية مفصلة عل قياس أصحاب النفوذ والزعامات المناطقية والطائفية. اما الغاء الطائفية السياسية فلم يتم تأليف حتى الهيئة الوطنية لدرس واقتراح طرق تنفيذها، حتى ان ما اقترحته اللجنة الوطنية لتطوير القانون الانتخاب باعطاء الذين أقر القانون حقهم بشطب المذهب او الطائفة عن الهوية لم يعطوا حقهم بالتمثيل، اي ان يكونوا طائفة مدنية صارت من أكبر الطوائف اذا ما اضيف اليها كل الذين اختاروا الزواج المدني او استحصلوا على جنسية ثانية من بلد غير طائفي. كما اننا لم نتخط مشكلة انتخاب غير المقيمين باعتماد الانتخاب الرقمي من اي مكان من غير لوائح شطب ولا فرز اصوات، فتظهر النتائج فورأ عند الاقتراع.
سنظل ننتظر طويلا قانون انتخاب جديد يؤمن التمثيل الشعبي تمثيلا صحيحا، طالما ان المجلس اغلق على نفسه واطمأن الى انه سيد نفسه في التمديد. يتغلب على الفراغ بفراغ تشريعي يضمن بقاءه تمديدا مديدا.
ونتأسف على ما انجزناه من الاصحات السياسية سواء بانشاء مجلس دستوري لمراقبة دستورية القوانين. او المجلس الاقتصادي الاجتماعي، اذ ان المجلس الدستوري لا يستطيع مراقبة دستورية القوانين، بل النظر في القوانين التي يطعن فيها الذين وضعوها، واذا ما احرج بطعن من سواهم فلا يكتمل النصاب ليجتمع. والمجلس الاقتصادي ترك ليسقط بمرور الزمن عليه دون تجديد، وكانت النتيجة في فوضى معالجة الاوضاع المعيشية كمثل تقطيع سلسلة الرتب والرواتب واعتباطية زيادة الرسوم والضرائب.
في مئوية اعلان دولة لبنان الكبير نبحث عن اللبنانيين الكبار، فنفتقد رجال الدولة الرجال.
صحييح انه لا يمكن الغاء الدولة ولكن الدول يمكن ان تزول شيئا فشيئا, ان تشيخ ويموت بعضها، بتفشي الفراغ امن سلطة الى سلطة ومن مؤسسة الى مؤسسة، ومن جماعة الى جماعة .