الأديب مازن ح. عبود
قرر الحاكم المنفرد في كفرنسيان، ذاك الجالس على كرسي خيزران في قاعة المحكمة التي تلونت بالعشب وخيطان العنكبوت، تسطير أحكام متشددة بحق كل مخل بالانتظام. فيد العدالة طويلة وللضرورة أحكامها. ثمّ إنّ السباب والشتم والضرب بالأحذية والبندورة والخيار، ممنوع منعاً باتاً في كل أحياء “كفرنسيان” المحفوظة من الله. فكل مخالفة ستوصف اعتداء سافراً ومحاولة للنيل من السلم الاهلي، لا بل محاولة اغتيال ينص على عقوبتها الكتاب الخاص بالجزاء الذي حفظه ظهراً عن قلب ويتشوق لتطبيق بنوده بنداً بنداً.
هذا ما نقله عنه مساعداه “أبي النسم البريتالي” و”أبو الحن الشيري”. وقد قيل إنه سيبت بملف “فرنسا” من حارة الكاثوليك التي عنّفت كلامياً جارتها “أفدوكيا” من أولاد حارة الروم، وذلك بحضرة مقدمة البرامج “لطيفة” التي كانت تطل على عموم “كفرنسيان” من الشاشة الصغيرة كل يوم جمعة قبل الحمام، في برنامج “طنجرتك وجمالك والابراج ” والتي انكبت الجارتان على مشاهدته معاً.
وصلت إلى “برهوم” أخبار الجلسة المزمع عقدها. فقرر أن يحضرها كي يعاين بأم العين كيف يقف الناس أمام ديّان كفرنسيان. وكيف يسطر ويتلو عليهم أحكامه الصادرة باسم الشعب ولأجله. غصت غرفة المحكمة في تلك الجلسة بالناس حتى إنّ الكاتب و”الام باشر” احتارا في ترتيبب بروتوكول الجلوس. حضرت كل فرق التشجيع والاستهزاء. وقيل إنّ “ابي النسم البريتالي” كان مكلفًا بنقل وقائع الجلسة إلى “خواجات كفرنسيان” لتحليل الحكم. وكي يبنى على الشيء مقتضاه. فالاستثمار بالأحكام أمر غير ممنوع، ذا ما كان الاتجار بها غير مسموح.
بداية دخلت “فرنسا” قاعة المحاكمات. فعلا تصفيق مشجعيها. وما كان سعادة “سعادة” قاضي قضاة كفرنسيان قد حضر بعد. خلعت نعليها، وركنتهما على المدخل كي تظهر احتراما واجلالا للعدالة التي تعول عليها لفك رقبة “أفدوكيا” من حارة الروم.
ومن ثمّ وصلت “أفدوكيا” إلى المحكمة مدججة بعصاها التي كانت تعكز عليها. وقد أحاط بها “أبو عكر الشيري وأبو لولو السوقي”. وقد بدت عليها علامات التأثر والإهانة.
وما هي إلا لحظات حتى دخل القاضي سعادة “سعادة”. وقف الجميع احترامًا. عاد من حيث ولج إذ اشتمّ رائحة أرجل كريهة في الجو. فعاين حذاء مركوناً على المدخل. سأل عن صاحبه. فقيل إنه لفرنسا. فانبرى وناشدها قائلا: ” شو يا فرنسا جايي بكامل قوتك؟؟ هلمّ يا فرنسا اسحبي اسطولك”. فساد الهرج والمرج في قاعة المحكمة. ولمّا ّ سأل عن غزارة الحشد في القاعة. أجابه كاتب المحكمة أنّ عدد المشاهدين ازداد نظراً إلى أهمية الجلسة.
بدأ الاستجواب لكن من دون أن توافي المقدمة “لطيفة” التلفزيونية، الشاهدة الوحيدة في الملف. وقد قيل إنها رفضت أن تمثل أمام الحاكم المنفرد، لأنها ما شاهدت وما سمعت شيئاً، حتى أنها لا تعرف “كفرنسيان” وطرقها. وهذا ما أغضب القاضي “سعادة” الذي استلّ مطرقته. وقرأ حكمه. وقد سطر بحق مقدمة البرنامج حكماً غيابياً منعها بموجبه من دخول أراضي “كفرنسيان”، والتحليق في أجوائها والإبحار في مياه بركها تحت طائلة الملاحقة والسجن والجلب مقيدة اليدين الى حضرته. وأحال الحكم الى “الكركون”، أي “مغفر” الدرك. وقد قام الشاويش “لظلظ” بتبليغ الحكم. حيث أنه كسر شاشة التلفاز ضمن فقرتها الصباحية. وحاول إيداعها حكم القاضي. غير أنها فرت. فكان أن أبلغ القاضي أنّ المحكومة مجهولة الإقامة.
وانطلق “ابي النسم البريتالي” و”ابو الحن الشيري” في سوق “كفرنسيان”. وكانا يتفاخران برجولية القاضي “سعادة” في “كفرنسيان” الذي استطاع إصدار حكم بحق “لطيفة العفيفة” المقدمة الشهيرة، غيابياً.
اما “افدوكيا”، فقد غضبت من نجمتها. وسمعها الجيران تنهر الشاشة الصغيرة. سُمعت، تصرخ بـ “لطيفة”: “ارحلي. أنت جبانة. فالساكت عن الحق شيطان أخرس”. وأضحت “افدوكيا” تستتر كل ما بانت شخصية على الشاشة لها القدر والقيمة. ثمّ صارت تتفادى النقار مع زوجها في حضرة التلفاز المضاء مغبة أن يسمع أحد من شياطين الشاشة أقوالها، فيدلي بها إلى المحكمة في حال حصل مكروه. إلا أنها ما كانت تستحي باطلاق العنان للسانها، إذا ما شاهدت الرئيس “اوباما”، وذلك لأنه لا يفهم العربية، ولانّ له حصانة، ومن ثمّ فإنّ سيف قاضي كفرنسيان لا يطاله.
وفرحت “فرنسا” لانها افلتت من العقاب لانعدام الشهود. إلا أنها أبلغت “ابا النسم” أنّ الحكم أتى لمصلحته،ا بفعل حضور أسطولها الذي اجبرها القاضي على ازاحته من مدخل قاعة المحكمة. واعتبرت أنّ الاحتكام إلى القانون من دون قوة، هو كدخول معركة من دون سلاح.
امسك “ابو النسم البريتالي” بـ “برهوم” وسأله رأيه بعدالة “كفرنسيان”. فأجابه أنّ العدالة هي على مقاس فهم الناس. ومن بنى بيوتا من رمال أسكنها أوهاما يلزمه قصور عدالة من هباء تنفضها الرياح. ما فهم “أبو النسم” من كلام “برهوم” شيئاً. إلا انه نظر في اساريره وعينيه فرأى أنه كان مرتاحا. فظنّ أنّ رأيه في عدالة “كفرنسيان” إيجابي. فحمل ذلك إلى القاضي “سعادة” ومضى.