د. محمود الـــذوادي*
لا تزال إشكالية المجتمع المدني/ الديني تتفاعل في عالمنا العربي والإسلامي. ولا يزال الجدل قائماً حول أهمية العقل البشري ودوره الأول والوحيد في تأسيس النظام الاجتماعي للمجتمع الإنساني من جهة، وأولوية النصوص الدينية في تسيير شؤون الأفراد والمجتمعات من جهة ثانية. فهل يؤسّس التوفيق بين الاتجاهين لمجتمع إنساني يكون بمثابة المجتمع الأمثل في القرن الحادي والعشرين؟
مقولتنا بخصوص الجدل الدائر في عالمنا العربي والإسلامي منذ عقود قبل الربيع العربي حول إشكالية المجتمع المدني/ الديني تتمثل في أن كُلاً من المنظورين متحيّز في رؤيته لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع الإنساني الأفضل. فأصحاب المنظور المدني يرون أن العقل البشري يجب أن يكون هو المكلف والمسؤول الوحيد في تأسيس النظام الاجتماعي للمجتمع الإنساني، وكل ما يمسّ حياة الأفراد والجماعات فيه. فهم يؤمنون بأن لا مصدر للمعرفة الإنسانية غير عقل الإنسان. فهو الأول والأخير في كل ما يمكن أن يحقّقه معشر البشر على وجه هذه الأرض. ومن ثم، فهم ينكرون مبدأ وجود الرسالات السماوية، أو يرفضون تدخلها في شؤون الناس والمجتمعات إن هم اعترفوا بوجودها أصلاً.
أما المنظور الديني الإسلامي المحافظ (إذ إن هناك تيارات مختلفة من التفكير الإسلامي اليوم)، فهو الذي يعطي الأولوية للنصوص الدينية في تسيير شؤون الأفراد والمجتمعات. فالمجتمع المسلم المعاصر، في نظر التفكير الإسلامي المحافظ، ينبغي أن يتقيّد كل التقيّد بما كان عليه المجتمع المسلم الأول في عهد النبي (ص) والخلفاء الراشدين على الخصوص. فلا مجال إذن للعقل والاجتهاد والتكيّف إسلامياً مع مقتضيات العصور. ومن المؤكد أن الطالبان – حكام أفغانستان قبل أحداث 11 سبتمبر 2001- كانوا يمثلون المنظور الديني الإسلامي الأشد تحفظاً على الإطلاق في العالم الإسلامي في العقود القليلة الماضية.
وهكذا فالمنظوران، في رأينا، متحيّزان. وككل موقف متحيّز، فإن رؤية كل منهما لا يمكن أن تكون إلا ضيقة وقاصرة وجاهلة أو متجاهلة لطبيعة الأشياء، كما يقول ابن خلدون.
فعلى مستوى أول، المعرفة العقلية، مهما تكثّفت مصادرها وفروعها وتكاملت، فإنها تبقى مع ذلك معرفة تتّسم دائماً بإمكانية الخطأ والصواب. فهي معرفة مزدوجة الطبيعة، تشبه في ازدواجيتها طبيعة الإنسان نفسها، والمتمثلة في كون الإنسان جسماً وروحاً.
فكما أن هذين العنصرين جعلا من كينونته مسرحاً للجدلية والتوتر والصراعات والحركية داخل ذات الإنسان، فإن ملمحيْ الخطأ والصواب للمعرفة البشرية جعلا منها ظاهرة دائبة الحركية والاجتهادات والتأزم والصراعات والجدلية المستمرة، من دون الظفر المؤكد بتاج المصداقية المطلقة لموسوعة المعرفة الإنسانية. أي أنها معرفة تظل دائماً مزيجاً من الشك واليقين.
وفي هذا مؤشر بالغ الدلالة على أن المعرفة العقلية البشرية المرتكزة على التفكير الإنساني وحده لا يمكن النظر إلى مصداقيتها ويقينيتها إلا بشيء من التحفظ على الأقل. ويرجع هذا إلى حدّ كبير إلى ما يتمتّع به العقل المفكر في نشاطاته الفكرية، من مرونة وحرية فسيحتين، تجعلان إمكانية الصواب والخطأ واقعاً دائم الاحتمال في أيّ معرفة يتوصل إليها الإنسان بجهده الخاص. وهكذا يبدو وكأن الصعوبة لتحقيق مصداقية كاملة في المعرفة العقلية الإنسانية هي الثمن الذي يدفعه الإنسان مقابل ما يتمتّع به من قدرة على التفكير الحر. وتنسجم هذه الرؤية كثيراً مع من يرى أن عصرنا هو عصر انعدام اليقينيات Le temps des incertitudes على مستويات عدّة.
على مستوى ثانٍ، وعلى الرغم من إشكالية الصحة والزلل التي تتّصف بها المعرفة البشرية، فإن ذلك لا يجب أن يؤدّي إلى تهميشها كما يذهب إلى ذلك المنظور الديني الإسلامي المحافظ. ممّا لا شك فيه أن التفكير العقلي هو أهمّ صفة ميّز بها القرآن الإنسان على بقية الكائنات الحيّة الأخرى. فالآيات القرآنية المتحدثة عن سمة التفكير المميّزة للإنسان عديدة: ” ولقد كرّمنا بني آدم… وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا”، تشير بالتحديد إلى ميزة القدرة على التفكير عند الإنسان.
ومن ثم، كثر عدد الآيات الداعية إلى التفكير والتأمل ” إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون” ، “إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون”، “إن في ذلك لآية لقوم يتذكرون”، “ثم ارجع البصر كرتين”، “ويتفكرون في خلق السموات والأرض”. فالدعوة إلى أهمية التفكير في القرآن كانت دائماً موّجهة إلى الإنسان. وهذا يعني أن التفكير هو ميزة الإنسان الكبرى، التي تفصل بينه وبين بقية المخلوقات بطريقة جذرية قاطعة.
فالدعوة إلى التقليل من شأن التفكير عند الإنسان تتعارض مع موقف الإسلام المستوحى من القرآن والسنّة، كما أنها تتناقض أيضاً مع مقولة الإسلام المشهورة، وهي أنه دين عقل ونقل، وليس دين نقل فقط. ومن هنا، فالمنظور المدني، وما أريد أن أطلق عليه هنا بالمنظور القرآني الحق، يكادان يتطابقان من حيث إعطاء كل منهما أهمية مركزية لدور العقل الرائد في فهم الكون وتسيير شؤون الناس ومجتمعاتهم. وهكذا فصفة “مدنية” (استعمال العقل) المجتمعات لا ينفرد بتبنّيها المنظور المدني وحده. وإنما يشاطره فيها، بكل جدية وحماس، المنظور القرآني الأصيل.
وعلى مستوى ثالث، فالمنظور القرآني الحق يرى أن الاعتماد على العقل وحده في بناء وتنظيم المجتمع وتربية أفراده وتسيير شؤون أهله أمر غير كاف لتشييد المجتمع الإنساني الأمثل. إذ إن المعرفة الإنسانية، التي مصدرها العقل الإنساني وآليات تفكيره، هي معرفة، كما رأينا، تبقى دائماً عرضة للخطأ والصواب وللصحة والزلل والصدق والكذب كما قال ابن خلدون.
ومن هنا يمكن فهم مشروعية مجيء الرسالات السماوية، التي تحمل المعرفة اليقينية والقول الفصل، خصوصاً بالنسبة إلى القضايا الاجتماعية والأخلاقية، التي تمسّ المجتمع الإنساني وأفراده. فالوحي السماوي يصبح بهذا الاعتبار مطلباً ملحّا، يحتاج إليه الإنسان لترشيد نفسه بمعرفة يقينية في قضايا الاجتماع والأخلاق الشائكة، التي يصعب حسمها بسهولة بالتفكير العقلي وحده لمصلحة الصواب في إشكالية الصدق والكذب. وكمثال على ذلك فمشكلة تعاطي الخمور في المجتمعات الغربية لم يفلح العقل الغربي الوضعي التجريبي في معالجتها.
تنتشر عادة شرب الكحوليات في تلك المجتمعات بطريقة واسعة جداً. وبتعبير علم الاجتماع، يمكن القول بأن تناول المشروبات الكحولية في تلك المجتمعات يمثل نمطاً سلوكياً جماعياً عند الأغلبية الساحقة من سكان المجتمعات الغربية. ونظراً لمدى انتشار تعاطي الكحوليات في المجتمع الفرنسي، على سبيل المثال، فإن السلطات الفرنسية بدأت في أواخر القرن الماضي تنصح مواطنيها بالشرب باعتدال بدل الإعراض الكامل عن شرب الكحوليات التي أثبتت البحوث والتقارير في كل المجتمعات مدى عدد المضار والأخطار والأمراض الجسمية والاجتماعية والنفسية التي يسبّبها نمط تعاطي شرب الكحوليات جماعياً في المجتمع.
وبعبارة أخرى، فالتحليل العقلي، والتشخيص العلمي لمساوئ تعاطي المشروبات الكحولية على المستويين الفردي والجماعي، لا يزكّيان تبنّي شرب الكحوليات كنمط سلوكي جماعي بالنسبة إلى صالح المجموعة البشرية وأفرادها. من ثم، فمواصلة إقرار المجتمعات الغربية الحديثة لتعاطي الكحوليات جماعياً تمثل مفارقة لافتة للنظر.
من جهة، تُعرف هذه المجتمعات بمدى إيمانها القوي باستعمال العقل والعلم في التعامل مع شؤون الحياة. ومن جهة ثانية ، فهي تكاد تلغي كلياً الاستفادة من نور العقل ونتائج البحوث العلمية المختلفة، التي لا تكاد تجد إيجابيات في تعاطي المشروبات الكحولية من طرف الأفراد والمجتمعات. إن ما يفسر تلك المفارقة الواضحة هي قواعد نمط السلوك الجماعي المحبّذ ثقافياً واجتماعيا لتعاطي المشروبات الكحولية. وتتجلّى هنا المفارقة عند الباحث الاجتماعي بين منطق كل من التحليل العقلي ورصيد المعرفة العلمية ، من ناحية، ومنطق كل من الثقافة والتقاليد السائدة في ذلك المجتمع نفسه، من ناحية أخرى .
وبتعبير علم الاجتماع، فإن ثقافة شرب الكحوليات في تلك المجتمعات تساند معطيات/ وقائع الثقافة الاجتماعية فيها. فالملاحظة الميدانية للمدن الفرنسية، وفي طليعتها العاصمة باريس، تشير إلى مدى حضور ثقافة شرب الكحوليات، وانتشارها في المجتمع الفرنسي. إذ توجد بكثافة ثلاثة محلات في هذا المجتمع لشرب الكحوليات تبدأ كلها بالحرف b، وهي حانة bar ، وحانة صغيرة bistro، ومشرب جعة brasserie .
أما وضع انتشار شُرب الكحوليات في الاتحاد السوفياتي سابقاً، فقد قرأنا عن حملات الزعيم غورباتشوف ضدّ عادات التخمّر، وفي بعض المجتمعات الغربية الرأسمالية مثل كندا هناك حملات ” إذا شربت الخمر فلا تسق سيارتك” (If you drink don’t drive ) لتحديد مضار تعاطي الكحوليات بالنسبة إلى حوادث الطرقات. إن هذه الحملات المتزايدة هنا وهناك لا تمثل إلا معالجة جزئية (التقليل من حوادث الطرقات) لمشكلات تعاطي الكحوليات، التي تمسّ الجانب الشخصي والعائلي والاجتماعي للفرد والمجتمع.
وعلى الرغم من تجمّع الكثير من المعطيات العلمية المؤكّدة على الجوانب السلبية لهذا التعاطي جماهيرياً، فإنه لا ينتظر من سلطات هذه المجتمعات أن تتخذ قراراً عقلياً حاسماً مثل ذلك الذي جاء به الوحي السماوي للأمة الإسلامية. فمسألة تداول الكحوليات لا تطرح في تلك المجتمعات على مستوى علمي عقلاني فحسب، وإنما تتدخل فيها أهواء الناس وميولهم وعاداتهم الثقافية (منظوماتهم الثقافية)، التي أصبحت جزءاً من اللاشعور الجماعي لتلك الشعوب. فمجيء الوحي في هذه القضية الشائكة وأمثالها ليرشد الناس ويهديهم إلى ما هو أقوم، يشكل مطلباً ضرورياً، يحتاج إليه البشر للتزوّد بمعرفة يقينية حاسمة. فتحريم الوحي القرآني لتعاطي الخمر حلّ جذري بالتأكيد لهذه المعضلة المطروحة، خصوصاً على المجتمعات المدنية، لأنه حلّ من نوع “اقطع الرأس تنشف العروق”، كما يقول المثل التونسي.
فالمجتمع الإنساني الأمثل في القرن الحادي والعشرين اليوم، أو في الماضي القديم، أو في المستقبل البعيد، لا يبدو أنه قابل للتحقيق إلا في تلاحم جدلي بين المعرفة الإنسانية والمعرفة السماوية، أي عندما تقع هندسة المجتمع كنتيجة لحوار بين الهدي السماوي ونور العقل الإنساني هنا على الأرض. إنه باختصار مجتمع حوار النقل مع العقل كما قال أهل الذكر المسلمون الأولون.
*********
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق
(*) أستاذ علم الاجتماع – جامعة تونـــس
كلام الصور
1- باريس
2- ابن خلدون
3- موسكو