اختتمت مديرية الدراسات والمنشورات اللبنانية في وزارة الاعلام، أعمال وفعاليات ندوة “تأصيل التراث العربي: رؤية بين الحداثة وتحديات المستقبل” التي أقيمت على مدى ثلاثة أيام في قصر الاونيسكو، برعاية وزيري الإعلام والثقافة رمزي جريج وريمون عريجي، وبالتعاون مع المنظمة العربية للتنمية الإدارية في جامعة الدول العربية والمعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعة اللبنانية.
اليوم الأول
بعد جلسة الافتتاح في اليوم الأول، انعقدت الجلسة الأولى التي أدارها المدير العام لوزارة الإعلام الدكتور حسان فلحة ممثلا بمدير “اذاعة لبنان” محمد ابراهيم، وتمحورت حول دور التراث في تشكيل الهوية وتفاعلها مع الآخر فضلا عن آليات المحافظة عليه.
وعن ذاكرة الخطاطة واللوحة والضوء، رأى الدكتور قصي الحسين أن “ذاكرة اللوحة الفنية لدى التشكيليين العرب اليوم، لا تقل قوة عن ذاكرة الخطاطات العربية في التأثير على الفن البصري. كما قدر للخطاطة أن يكون لها تأثيرها على الفن النظري والعقلي”.
وعن قيمة المخطوطات العربية ودورها في حفظ التراث، لفتت الدكتورة غريد الشيخ محمد إلى ما تتعرض له المخطوطات العربية من سطو منظم بوسائل عديدة وكثيرة، أهمها الترحيل باسم التداول العلمي تارة وبحجة أنها إرث شخصي يحق لمالكها التصرف بها، مشيرة إلى ضرورة اتباع منهج رسمي صحيح للمحافظة على التراث: أولها وضع قوانين تنظم انتقال الكنوز العربية وتمنع خروجها من الأراضي العربية، فضلا عن تكليف وتشكيل متخصصين في التحقيق العلمي للمخطوطات يضمن الأمانة في إخراج النص بإشراف لجان عربية وبجدول زمني محدد.
وتحت عنوان “تفاعل الأمة مع تراثها”، رأى الدكتور لؤي زيتوني أن “التراث هو الثروة المستدامة للأمة”، مشيراً إلى “رصد التراث على مستويين فكري حضاري، زمني – شعبي، معتبراً أن التراث هو حركة في التاريخ لتعميق النزوع في الوجود والتأثير فيه، ولهذا يصبح استلهامه استمراراً لتجديد حياة الأمة، رابطا بين النماذج الاعتقادية المستمرة عبر الأجيال والتي تعطي فهماً حول طبيعة الكون والحياة وبعض المفاهيم التراثية، ولا سيما فكرة الفداء التي ولدت في بلاد الرافدين بوصفها فكرة خلاص البشر من التهديد الذي يشكله القحط.
واعتبر أن أسطورة “إنانا ودوموذي” أو “تموز وعشتار” أو “آدون وعشتار” وغيرها تأتي من النماذج الفدائية لتشكل منهجا تفكيرياً حضارياً تغلغل في تراث الأمة، فتحولت فكرة الفداء عبر العصور، لافتاً إلى أنه “من هنا لا يمكن فصل فعل الفداء الذي قام به “جول جمال” في خمسينيات الماضي وفهمها إلا بوصفها استمرارية لفكرة الفداء تلك”.
وعن مفاهيم الحداثة والهوية التراثية دعا الدكتور جوزف مفرج إلى ضرورة “التكامل بين الحداثة والهوية التراثية فلا تصبح الحداثة “كتقليعات الموضة” التي تأخذ نماذج المظهر من دون الجوهر”.
اليوم الثاني
توزّع اليوم الثاني للندوة على جلستين، وأدار الجلسة الأولى عميد المعهد العالي للدكتوراه في الاداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية الدكتور طلال عتريسي الذي ثمن جهود المشاركين، آملا الإفادة من بحوثهم في المجال العملي.
وعن دور التشريعات في حفظ وحماية التراث رأى مدير مكتب الاستشارات الدولية والقانونية في دبي الأستاذ محمد ناصر، أن “فشل النظم القضائية في تلبية حاجات المجتمع وحاجات السوق، علاوة عن جنوح الشركات الغربية إلى استبعاد النظم القضائية عن العقود المبرمة في الدول العربية وإخضاعها عامة لنظم غربية، قد ولد حالة ضمور في الفكر القانوني العربي”، داعياً إلى “اتخاذ إجراءين لازمين يساهمان في حفظ التراث، أولا: أن تقر جامعة الدول العربية مشروع قرار يعلن أن الجرائم الواقعة على التراث العربي جرائم ضد الإنسانية. ثانياً: أن تصدر تشريعات لا إقليمية في الدول العربية تحاسب على الجرائم التي تقع على التراث العربي حتى ولو وقع خارج نطاق اختصاصها”.
وعن جهود هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية في سلطنة عمان في حفظ الوثائق العمانية، عرض الدكتور عبد العزيز بن هلال الخروصي لآلية العمل المتبعة لدى وزارة التراث والثقافة العمانية والتي اعتمدت نظاماً عصرياً للأرشفة مهمته حفظ الذاكرة والتاريخ الشفوي للتراث العماني، عبر فريق مختص يرصد ويتابع ويحلل الروايات الشفوية العمانية ليحفظها للأجيال.
وعن الأسباب المؤدية إلى تلف ودمار المصادر التراثية عرض الدكتور نسيب حطيط للمنظمات الدولية التي تعنى بالتراث وللمواصفات الدولية للعنصر التراثي والمعايير الثقافية والطبيعية، فضلا عن المؤسسات الدولية المكلفة بحماية التراث، لافتاً إلى أن مأساة التراث العالمي، خاصة التراث المعماري وملحقاته قد ظهرت من نافذة الهدم للمباني والأحياء القديمة لإعادة بنائها لتحقيق الربح المادي، ففي بيروت مثلا هناك ألف وستمائة مبنى تراثي قد دمر منها 80% وفي طرابلس 150 معلما أثريا لم يبق منها إلا 30 معلماً.
وعن منجزات مركز التراث اللبناني عرض الشاعر هنري زغيب للأساليب المتبعة في المركز والهادفة إلى لملمة التراث المحلي والبحث عن التراث الموزع خارج لبنان، واصفا المركز بأنه الذاكرة التوثيقية لمختلف الأعمال الفنية اللبنانية الصوتية والبصرية والمنحوتات التراثية فضلا عن أنشطة رديفة.
وعن العلاقة بين تأصيل التراث والحداثة، رأت أستاذة القانون الدولي في الجامعة اللبنانية الدكتورة هالا أبو حمدان أن “التأصيل هو التجديد من الداخل ولا بد من النظر إليه بثلاثة أبعاد من خلال نقد التراث ونقد الحداثة ثم تأصيل التراث والحداثة في عقولنا.
ثم تحدثت عميدة كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية الدكتورة أسماء شبلي عن البحث العلمي للعلاقة بين التراث والحداثة، فاعتبرت أن كليهما يرتبطان بالمنظومة الإرشادية التي تتحكم بالشرق والغرب، مشيرة إلى أن تأثيرات المستشرقين وانبهار بعض المثقفين العرب بالحداثة الغربية من العوامل التي تكون قد رسخت في أذهاننا صورة شرق متخلف وصورة غرب صاعد نحو الحداثة، فاختلط عليها مفهوم الحداثة والحضارة.
ودعت في ختام الجلسة الأولى إلى العمل على استيلاد مستغربين أمثال جورج قرم وإدوار سعيد يتقنون فهم مدلولات ما يجري في الغرب.
الجلسة الثانية
أما الجلسة الثانية، فأدارها المدير العام لوزارة الثقافة فيصل طالب الذي تحدث عن العولمة وعلاقتها بالتراث والحداثة وتحديات التبعية الثقافية. وتساءل هل الحداثة في أوروبا هي ذاتها في الصين واليابان، معتبراً أن الخصوصية الثقافية لأي أمة هي ثقافة مفتوحة على العالمية في وجه العولمة.
ودعت الدكتورة مهى خير بك إلى ضرورة تحديد المفاهيم والمصطلحات للوصول الى تعريف جامع للعولمة لأن مفهومها الحالي يفيد التعميم ويضمر فعلا إلغائيا.
وأشارت إلى ضرورة المشاركة في صناعة العولمة ليتحول الإنسان العربي من موقع رد الفعل إلى موقع الفعل.
وعن تحديات التبعية الثقافية ميز الدكتور عاطف عطية بين الثقافة والتثاقف من حيث المصطلح وعقد تلازماً ضرورياً بين مفردات الثقافة والتثاقف والهوية، لافتاً إلى وسع الهوة بين العرب والعالم المتقدم، ولا سيما في مجال البحث العلمي، متسائلا عن السبب الحقيقي لهجرة الأدمغة، داعيا إلى ضرورة دعم البحث العلمي والاستفادة من نقل التكنولوجيا بهدف نقل المعارف لأغراض تطبيقية وتشجيع الابتكار، مطالباً بضرورة العمل على تمكين المرأة وحفظ الطفل والحد من الهجرة وتحديد العلاقات الدولية بما تقتضيه المصلحة العربية العليا، فضلا عن تمتين العلاقة مع الاتحاد الأوروبي.
وعن أهمية اللغة العربية في التحديث والأصالة رأى الدكتور ميشال كعدي أن اللغة العربية ليست كيانا خشبياً، لافتاً إلى أن التراث العربي قد وقع في شرك المؤامرة الهادفة لإلغائه، مشيراً إلى العجز العربي الواضح في مواجهة الأخطار المحدقة بالتراث، وأوصى بالعمل الجدي للحفاظ على التراث، رافضا القصور اللغوي في بعض الوسائل الإعلامية، فضلا عن الكتابة بلغة الإنترنت والـ “فايسبوك”. ودعا إلى رفض القناصل والسفراء الذين لا يتكلمون اللغة العربية.
وعن غلبة الدخيل على الأصيل تحدث الدكتور أسعد سكاف، فدعا إلى تفعيل العمل على عملية الاقتراض اللغوي التي من شأنها الحفاظ على الهوية اللغوية دون أن يمنعنا ذلك من الانفتاح على كل ما هو جديد.
ثم تحدث الدكتور وجيه فانوس عن الهوية الثقافية، فاعتبر أن “حيوية العيش قد أثبتت أن الأمر ليس في حقيقته صراعاً بين قوى متعارضة فيما بينها، بل أن حيوية العيش الإنساني أثبتت أن ما يفرض وجوده على الهوية الثقافية هو من صلب ما يحتاج إليه الإنسان في حقيقة الاحتياجات الجوهرية لعيش زمنه، معتبراً أن الحداثة تحمل في طياتها محفزات تغيير الأمر الذي يتطلب الانفتاح عليها بنهوض الهوية وليس اللامبالاة”.
اليوم الثالث
أما جلسة اليوم الثالث فأدارها المدير العام لوزارة السياحة ندى السردوك التي تكلمت عن تجربة وزارة السياحة في الحفاظ على التراث.
وعن تأصيل التراث الأدبي العربي، نفى الدكتور عبد المجيد زراقط مقولة إن المعرفة الأصل قد صدرت من الغربيين، وانتقد بعض التجارب في دراسة التراث الأدبي التي تكتفي بدراسة مختارات من النصوص وتجزئتها بحجة الحداثة، داعياً إلى ضرورة دراسة النص كوحدة كاملة. واعتبر أن ما تكلمت به العرب من منثور الكلام أكثر بكثير وأفضل مما تكلمت به من جيد المنظوم، الأمر الذي يشير إلى تعدد الأنواع الأدبية التراثية الملهمة للآخرين.
بعد ذلك، تحدث الدكتور نبيل أبو نقول عن جذور وتطور الدبكة اللبنانية بوصفها موروثاً ثقافياً، فرأى أنها ليست وليدة الصدفة بل متجذرة في التاريخ اللبناني منذ مئات السنين ومرتبطة باحتفالات البعث والاحتفالات الجنائزية عند الفينقيين، ثم تطورت مع الزمن وانتظمت معالمها في ما بعد لتشكل الهوية الثقافية التراثية لكل منا.
وعن الزجل اللبناني وتجربة وزارة الثقافة مع الاونيسكو في حفظ التراث اللامادي، رأت الدكتورة مادلين نجار أن فكرة حصر ورصد التراث الزجلي قد انبعثت من اتفاقية الاونيسكو شأن صون التراث الثقافي اللامادي في عام 2003، حيث أبرم لبنان هذه الاتفاقية بموجب قانون رقم 2070، وفي العام 2008 اصبحت جاهزة للتنفيذ، ثم بموجبها تم تنظيم ورش عمل ودورات تثقيفية تجوب المناطق اللبنانية، تشجع على ممارسة التراث الزجلي، توثقه وتحفظه في الذاكرة للمستقبل.
شهادات مشاركة وتوصيات
في ختام الجلسة سلم مستشار المنظمة العربية للتنمية الدكتور نواف طبشات ومدير الدراسات والمنشورات اللبنانية خضر ماجد، شهادات مشاركة للقيمين على الندوة والباحثين المشاركين. واختتمت الندوة بمجموعة توصيات اتت على النحو التالي:
1 – توجيه الشكر إلى المنظمة العربية للتنمية الإدارية ومديرية الدراسات والمنشورات في وزارة الإعلام والمديرية العامة لوزارة الثقافة والمعهد العالي للدكتوراه بالآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية بالجامعة اللبنانية على جهودهم في تنظيم هذه الندوة.
2 – مطالبة المنظمة بزيادة الاهتمام في هذا المجال وعقد مجموعة من المؤتمرات والندوات وورش العمل المتخصصة في مجال إدارة المصادر التراثية، وضرورة أن يكون ذلك سنوياً وفي جميع الدول العربية.
3 – التركيز على الاهتمام أكثر بالإبداع والمبدعين في مختلف المجالات الإبداعية لنؤسس للمستقبل تراثاً حياً.
4 – مطالبة المنظمة والوزارات والمؤسسات المعنية بزيادة الاهتمام بحفظ وتوثيق التراث العربي.
5 – مطالبة وزارات التربية والتعليم والتعليم العالي ووزارات الثقافة والإعلام في الدول العربية بضرورة تضمين المناهج التعليمية موضوعات تتعلق بالتراث العربي لنشر الثقافة التراثية وتعريف الطلبة بتراث أمتهم.
6 – مطالبة الوزارات المعنية بضرورة زيادة الاهتمام باللغة العربية وتأكيد أن لغتنا جميلة ومتطورة وتستطيع استيعاب التقدم العلمي ومحاربة كل ما شأنه التقليل من أهمية اللغة العربية.
7 – المطالبة بإيجاد آلية لحصر التراث العربي ووضعه على خريطة التراث العالمي، وكذلك إيجاد آلية عربية لاعتماد مواقع تراثية عربية.
8 – المطالبة بزيادة الاهتمام بالتراث المعنوي وتوثيقه وحفظه.
9 – المطالبة بزيادة الاهتمام بضرورة صيانة مصادر التراث على الأسس العالمية لحفظها من التلف والدمار والسرقة، وكذلك عرضها في المتاحف المتخصصة للتعريف بها.
10 – المطالبة بإصدار التشريعات الخاصة متضمنة عقوبات مشددة لكل من ينتهك ويتعدى على التراث.
11 – الاهتمام بالمخطوطات والوثائق وحفظها وإتاحتها لكل الباحثين، ومطالبة الجهات المعنية بضرورة إعادة المخطوطات المسروقة والموجودة لدى الدول الأخرى والمتاحف الغربية.
12 – الاهتمام بالأدب العربي من رواية وشعر وقصة وحكاية وحفظه وتشجيع المبدعين على الاهتمام بهذا المجال.
13 – منع استخدام المواقع الأثرية لغير الأغراض المخصصة لها وبشكل يحافظ عليها ولا يعمل على تدميرها.
14 – استحداث جائزة أو جوائز عربية للمؤسسات والأفراد الذين يحافظون على التراث العربي والإسلامي.
15 – تخصيص أيام أو أسابيع للتراث العربي للتعريف به وتشجيع الاهتمام به.
16 – تعزيز دور التراث في حفظ الهوية العربية واعتبار التراث نقطة انطلاق النهضة العربية الجديدة، واعتبار الحداثة بوصفها فعلا ابداعياً تجديدا مؤصلا للتراث العربي.
17 – ضرورة قيام المؤسسات الإعلامية والثقافية بإنتاج برامج ثقافية وفنية تسلط الضوء على المصادر التراثية المادية وغير المادية، كذلك الاشخاص الذين لهم إسهامات كبيرة في التاريخ العربي.
18 – ضرورة وجود تشبيك بين المؤسسات التراثية العربية.
19 – إصدار دورية عربية موحدة محكمة تعنى بالتراث العربي.
كلام الصور
1- 2- 3- 4- 5- 6- من الندوات