“بين الضفتين لحظات عربية في الثقافة الفرنسية”

بقلم: الباحث خالد غزال

تشكل قضية العلاقة بين عالمنا العربي والغرب معضلة قديمة – متواصلة من خلال النظرة الأحادية الجانب التي يتخذها كل طرف، بحيث يغلب، في الاجمال، موقف يتسم khaled-ghazalبرفض كل واحد للآخر. لا ينبع الموقف من فراغ، فالتاريخ مليء بالاحداث المتناحرة والعداءات المتبادلة، التي لا تزال تترك آثارها في الوعي على كلا الضفتين. لكن على رغم هذا التنافر، هناك محطات مضيئة في العلاقة بين العالمين، تجد تعبيرها في التلاقح الفكري والثقافي، في اطار الحضارة الإنسانية الشاملة، وبعيدا من منطق صراع الحضارات. من تلك المحطات المهمة ما استطاع الكاتب ابرهيم العريس ان يلقي الضوء عليه في كتابه “بين الضفتين، لحظات عربية في الثقافة الفرنسية”، عن “مركز الشيخ ابرهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث” في البحرين وتوزيع “دار العودة” في بيروت.

يفتتح العريس كتابه باستعادة السجال الذي لم ينقطع حول حملة نابوليون بونابرت على مصر أواخر القرن الثامن عشر، بين قوى ذات وزن لا ترى في الحملة سوى جانبها العدواني الناجم عن الغزو، وقوى أخرى ايضا ذات وزن في الفكر والسياسة ترى في الحملة جانبا آخر غير العداء، هو ما نتج من الحملة من انجازات حضارية انعكست إيجابا على الثقافة والعلوم، وشكلت فاتحة نهضة انتشرت معالمها في مصر وأقطار اخرى من العالم العربي. هذا السجال الخلافي استعر مجددا في السنوات الأخيرة ولم ينج منه كتّاب وأدباء تلقحوا بالثقافة الفرنسية من أمثال طه حسين، فشملهم عداء الأصوليات الصاعدة والفكر المعادي للتقدم. يقدم الكاتب وجهة نظره في حملة نابوليون، فمن دون إنكار السلبيات التي رافقتها والتي تنتمي الى الممارسة الاستعمارية، فيشير الى انه “في ذهن بونابرت وفي خيالاته، كان هدفه ايديولوجيا وتنويريا بقدر ما كان سياسيا واقتصاديا. ونحن لو أغفلنا هذا الجانب، سنعجز ليس فقط عن فهم الحملة نفسها، بل عن فهم الذهنية التي كانت تسود الحياة السياسية والفكرية في فرنسا التي كانت بالكاد نسيت ثورتها في ذلك الحين، وسنعجز أيضا عن فهم الدوافع التي حدت بالنهضويين العرب من الطهطاوي الى زكي نجيب محمود ولويس عوض، الى عدم التعامل مع الحملة باعتبارها عملا عدوانيا احتلاليا”.guilaf

قضية سجالية اخرى لم تنقطع حتى اليوم تتصل بالاستشراق والمستشرقين والنظر الى تراثهم وكتاباتهم، بين من يقرن الاستشراق بالاستعمار فلا يرى في المستشرقين سوى عملاء ينشرون ثقافة الاستعمار المعادية للعرب والمسلمين، فيما يرى آخرون ان الاستشراق ذو وجهين، ايجابي اعطى الثقافة العربية احيانا اكثر مما اعطاه العرب من خلال ابحاثهم وتحقيقاتهم في التراث العربي الإسلامي وفي قراءة الحضارة العربية، ولا تزال كتاباتهم مرجعا اساسيا في فهم مجريات الحاضر، كما يوجد مستشرقون غير موضوعيين في قراءتهم لمجتمعاتنا.

يقدم العريس صورة عن بعض المستشرقين الذين يشكلون علامات مضيئة في الثقافة العربية، فيتحدث عن جاك بيرك ومكسيم رودنسون واوليغ غرابار وجان مالوري وغيرهم عبر حوارات أجراها مع بعضهم.

يمثل جاك بيرك أحد النماذج الأساسية للقاء الضفتين العربية والفرنسية، فهو مولود في الجزائر، وعاش في المغرب لفترة من الزمن ثم في مصر ولبنان، وتركزت كتاباته على الإسلام، فترجم القرآن الى الفرنسية، وأنجز دراسات مهمة عن بعض البلدان العربية. كان يحلو له ان يشرح شغفه العلمي بالقول: “كل ما في الأمر، انني وقعت يوما في هوى منطقة وشعوبها وتاريخها، فانكببت على دراستها، من دون اي رغبة في ان أكون يوما مستشرقا، او مستعربا بالمعنى المهني للكلمة. انا بالأحرى مناضل في سبيل التقريب بين الضفتين، بين فرنسا والعالم العربي، وفي سبيل افهام قرائي الفرنسيين منهم بخاصة، ما هي حقيقة الإسلام، بعيدا عن الكليشيهات والتعصب والأفكار الجاهزة”.

يحتل مكسيم رودنسون الأهمية نفسها التي احتلها جاك بيرك في تعاطيه مع العالم العربي، خصوصا في نتاجه الغزير حول الإسلام، فسعى ايضا الى تقديم صورة موضوعية عن هذا العالم: “ان العالم الإسلامي يوفر لي الكثير من التنويعات، والكثير من الذكريات التي تربطني، بحيث لن يمكنني بسهولة ان أفصل نفسي عن دراسة عالم الإسلام هذا. إن إعمالي، تتخذ انطلاقتها، في معظمها من مجال حياة الشعوب التي أسلمت أمرها للفكر الاسلامي طوال أكثر من ثلاثة عشر قرنا”. اذا كان رودنسون قد أعطى العالم الاسلامي الكثير من نتاج علمي وقدم بذلك خدمة لهذا العالم، فان أثره لن يكون قليلا على الضفة الفرنسية التي تعلّم كثير من الباحثين الغربيين من منهجه في البحث والتحليل. كان للضفة العربية موقعها في تلاقح الثقافتين الغربية والعربية، ولعل أبرز ممثليها في عالم الأدب إثنان من لبنان وآخر من المغرب هما جورج شحاده وأمين معلوف والطاهر بن جلون، من دون نسيان كثيرين غيرهم. كتب هؤلاء أدبهم باللغة الفرنسية، وفازوا بجوائز أساسية واحتل اثنان منهم مقعدا في الأكاديمية الفرنسية هما آسيا جبار وامين معلوف. يتحدث الأديب الفرنسي جول سوبرفيال عن الشاعر والكاتب المسرحي اللبناني جورج شحاده قائلا :”كنت معجبا بنتاجه قبل ان اصبح صديقا له. وكان مسرحه قد فتح أمامي أكثر من باب من أبواب شعره. ولا شك بالنسبة الي ان مسرحيته “حكاية فاسكو” هي أكثر مسرحياته نجاحا. آه ما أسعد جورج شحاده الذي يجمع بين مواهب أفضل القصاصين العرب، ومواهب الشاعر الفرنسي الأكثر أصالة”.

اما أمين معلوف فركّزت كتاباته في مضمونها على قضايا الهوية والإنتماء، والتواصل بين الشعوب والحضارات والأزمنة القديمة والجديدة، وهي لا تزال معلما يشير الى الموقع الحضاري للضفة العربية ودورها في رفد التراث الإنساني بإبداعات لا تقل أهمية عن النتاج الغربي. اذا كان من تقييم لكتاب العريس وما تضمنه من مواضيع أخرى تتصل بالعلاقة بين الشرق والغرب، فانه يؤكد أهمية العلاقة المركبة بين العالمين، بحيث لا تختلط المواضيع السياسية الخلافية بالتراث الإنساني الحضاري بما يؤدي الى نفي الآخر من كل جهة، بل اعتبار هذا التراث المتبادل عنصرا أساسيا في الحضارة الإنسانية الشاملة الواجب على العرب خصوصا، الإفادة مما تقدمه من معارف وعلوم.

اترك رد