بحث نقدي بقلم: الكاتب ناصر المَلا
من المغالطات وتشتت المفاهيم في ما يتعلق بتعريف الرواية، أنها رواية تتخذ لنفسها ألف وجه، وترتدي في هيئتها ألف رداء، وتتشكل أمام القارئ تحت ألف شكل، مما يعسر تعريفها تعريفًا جامعًا مانعًا ( 1).
فإذا أخذنا في ما جاء بهذا التعريف فأننا من دون شك سوف نصل إلى نتيجة مفادها أن النقد الروائي في العالم العربي – على أعتبار أن كتاب “في نظرية الرواية” للدكتور “عبد الملك مرتاض” والذي أُصدر عبر المجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت، وتحت إشراف هيئة تحرير سلسلة عالم المعرفة، والتي ضمت كلٍ من “د. محمد الرميحي” و”د. فؤاد زكريا” و “د. خليفة الوقيان” و “د. سليمان الشطي” و “د. سليمان العسكري”، وأخرين، وهم من الأسماء اللامعة في عالم النقد وبالتحديد النقد الخليجي لم يصلوا مع “د. عبد الملك مرتاض” إلى تعريف في ما يخص الرواية؛ وكأن الرواية “جنس قادم من عالم الأرواح صعب على أي ناقد تعريفه”، وهذا من دون شك يعكس واقع الرواية والنقد في دول الخليج العربي، إذ أن هناك تفاوت في أحيان وتخبط في أحيانٍ أخرى تمارس من قبل المشتغلين في الرواية، والقارئين لها وليس الناقدين لها!.
بينما يقف “د. عبد الملك مرتاض” واثنا عشر دكتوراً أكاديمياً حائرين أمام تعريف الرواية، فماذا ستكون قيمتها بالنسبة إلى الروائي الخليجي أو للناقد؟ بينما الرواية كتعريف: “هي سرد نثري طويل تصف شخصيات خيالية وأحداث على شكل قصة متسلسلة، كما أنها أكبر الأجناس القصصية من حيث الحجم وتعدد الشخصيات، وتنوع الأحداث، وقد ظهرت في أوروبا بوصفها جنسًا أدبيًا مؤثرًا في القرن الثامن عشر، والرواية حكاية تعتمد السرد بما فيه من وصف وحوار وصراع بين الشخصيات، وما ينطوي عليه من تأزم وبدل وتغذية الأحداث.
أنواع الرواية
الرواية أنواع منها: الرواية العاطفية، والبوليسية، والتاريخية والسياسية والوطنية والواقعية، وسلسلة أخرى من العناوين و المصطلحات (2 ) ولا يترك فراغ، أو تكتب تعاريف خيالية لا تمت إلى هذا الفن الأدبي العريق من قبل النقاد في أوروبا. إذن نكون متفقين منذ البداية على أن الأكاديميين من أولئك الأسماء اللامعة “إعلاميًا” في الكويت و الخليج لم يصلوا إلى تعريف يحدد معنى الرواية بدليل موافقتهم على ماجاء في كتاب “نظرية الرواية” من تعريف لا يمت إلى الرواية، لا من قريب ولا من بعيد.
من جانب آخر يلاحظ من قبلنا أن حركة النقد الروائي في الخليج هي حركة “مراوحة في مكانها”، والسبب هو سيطرة مجموعة من الأكاديميين والصحافيين على النقد والإعلام المتعلق بالرواية والأجناس الأدبية الأخرى؛ وهذه الأسماء ظلت متداولة على مرّ أربعين عامًا في عالم النقد والإعلام، ومع كل أسف لم تجدد في مفهوم الرواية ولم تصدر دراسات نقدية مستقلة بالرواية، والملتقيات أو الندوات والندوات في معظمها ما هي ألا “ثرثرة” بين صاحب الندوة وجمهوره.
الرواية في الخليج العربي تنقسم من وجهة نظري إلى قسمين:
الأول: يسجل ما يشاهده الكاتب أمامه ويصدره من ثم في رواية، وهذا هو الحادث الأن.
الثاني: وإن كان محدوداً جدًا، يحاول إعادة صياغة التحول الذي شهده مجتمعه رابطًا الإنسان بمصير الخلاص. الخلاص من الطقوس المعتادة أمر التخلق المتراكم عبر الأجيال، ولدينا مبدعين في هذا الجزء لابد لنا من ذكرهما، وهما “عبد الرحمن منيف” و”عبده خال”.
لعل هناك مغالطة أو عدم دراية من قبل واضع السؤال، حول الرواية الخليجية “هل من الممكن أن تفرض نفسها عربيًا وعالميًا؟” إن لم يصل النقد الروائي إلى تعريف للرواية من قبل الأكاديميين الخليجيين فكيف بالرواية أن تصل إلى مطار الشارقة مثلاً؟ ثم بينت أن ما يصدره كثر من “الكتبة” في تعريفي لهم، أنهم ينقلون الواقع، والدليل على ذلك نتاجهم الرديء. وليس معنى ذلك أن الروائيين القدماء أو إن صحت تسميتهم “بالحرس القديم” هم الأنجح، وإنما رداءة إنتاجهم أوصلت الرواية الخليجية إلى ما هي عليه من نقل وليس إبداعًا.
أذكر أنني سألت الروائي “حنا مينا” في هذا الموضوع ووافقني في ما ذكرته، وذلك مُسجل في كتابي “تسابيح في معبد الألهة”، وهو السؤال ذاته الذي وجهته إلى الأكاديمية د. ليلى محمد صالح حول “نجيب محفوظ”، لماذا لم يُشر الأستاذ محفوظ إلى الرواية الخليجية، علمًا بأن الروائيين أو الكتّاب الخليجيين من الحرس القديم، كانوا ينتهزون الفرصة لمقابلته وأخذ الصور معه.
أخبرتني أن “نجيب محفوظ” لا يكتب عن أحد؛ وأنا بدوري ذكرتها أن “نجيب محفوظ” كتب تقديم للروائي اللبناني “سهيل ادريس” حول روايته “الحي اللاتيني” ولـ “يحيى تقي” في “قنديل أم هاشم” وآخرين، فلماذا لم يشر إلى أحد الروائيين في الخليج؟! ما عدا “عبد الرحمن منيف”، ذلك سؤال نظرحه عليكم جموع الحاضرين.
لا ننسى في جانب آخر أن الرواية والفنون الأدبية والفنية الأخرى لا تأخذ حاصلها في المؤسسات والهيئات الإعلامية، ولا يسلط الضوء على المبدع الروائي أو الناقد الروائي؛ وإنما يسلط الضوء على أولئك الكتاب ممن يملؤون جيوبهم وكروشهم بالمال، وهذه قضية أخرى متفشية في الخليج عبر كتابة الرواية!.
كاتب أو كاتبة يملكون آلاف الدنانير كيف بهم يصبحون روائيين؟ هل هؤلاء المزيفين عايشوا المعاناة، هل جاعوا؟ هل ناضلوا لقضاياهم العربية والإسلامية وللإنسانية؟! … مع كل أسف هؤلاء بسبب من أسباب فشل الرواية في الخليج، ولديهم من دون أدنى شك من يدعمهم معنويًا ويشد على أيديهم، وهذه كارثة الكوارث مع كل أسف؟ والسبب غياب النقد الأدبي الرزين في الخليج إلا في ما ندر من أقلام رصينة.
نماذج مضيئة
مَن منا لا يتذكر د. عبد القادر القط، ورجاء النقاش و د. غالي شكري، و د. نبيل راغب وأخرين، هذه الكوكبة هي من نتاج الثورة. ثورة 1952 في مصر، تلك الثورة التي أفسحت في المجال أمام مبدعيها ليطلقوا، تارةً عبر الاتفاق مع مبادئها، وأخرى بالرفض، وهذه هي المعادلة الطبيعية في أي نظام ثوري جديد، المهم أنها ثورة اشتركت مع المبدعين والنقاد في إعادة المد الجماهيري من جديد، فشقت مصر، رغم ما حدث من حروب وخلافه من أمور سياسية حينها في الوطن العربي، صف الحرب بين مؤيد ومعارض.
لنقارن بين تلك الأسماء وعطائها الذي امتد عقوداً طويلة وبين الأكاديميين وليس “النقاد” في الخليج العربي، بل فلنقارن الكتبة ونتاجهم في الخليج وبين مبدع واحد في مصر مثلاً. أيضًا لا يوجد وبه مقارب، مع إحترامنا الشديد لكتابنا وعطاءاتهم اللا محدودة!.
كيف يواكب الناقد فن الكاتب الروائي؟ فلنأخذ نموذج من أمزجة كثيرة للدكتور “غالي شكري” في كتابه “المنتمي” وهو دراسة في أدب نجيب محفوظ. يقول الدكتور غالي شكري حينما فاز “نجيب محفوظ” بجائزة نوبل الآتي: “فاز نجيب محفوظ أخيرًا ربما؟ هل يعني ذلك أن الغرب قد أعترف بقيمة ثقافتنا ولو متأخرًا؟ ربما. هل يعني ذلك أن “الغرب” يريد أن يثبت “إنسانيته” و “عالميته” بمنح الجائزة في السنوات الأخيرة لبعض أعلام ما يسمونه “العالم الثالث”؟
ولكن المؤكد أن وطن نجيب محفوظ قد أكتشفه قبل الغرب وأن أمة نجيب محفوظ قد اعترفت به قبل الغرب، ومن المؤكد كذلك أن إنسانية نجيب محفوظ وعالميته قد حظيت من قرائه ونقاده بالتقدير والعرفان العميق، و”المنتمي”، أول كتاب عن نجيب محفوظ صدر عام 1964 وكنت في التاسعة والعشرين من عمري.
أشعر الآن بعد حوالي ربع قرن على ظهور الطبقة الأولى، انني وغيري كنا نعايش رؤيا بلغت من جلالها وجمالها أن البعض لم يستطع أن يتلمس أبعادها.. كأنه يحملق في عين الشمس. هذه الرؤيا هي التي أدعوها “المنتمي” ويسميها غيري… نجيب محفوظ( 3).
هذه هي علاقة الناقد بالكاتب الروائي علاقة ليست محدودة، إنما هي مشتركة من عدة وجوه وفي أكثر من مجال، فالنقد هو البوابة الذي يمر عبره العمل الروائي أو الأدبي، ومن دون هذا المرور لا يصبح العمل الروائي إلا صورة باهتة، سرعان ما تتلاشى مع الأيام. وكأن الجنس الروائي يعكس الحالة الإنسانية عبر جملة من الصراعات، فهي في الخليج لا تعدو كونها صراعات “كينخوتية”، فأمام بيئات منغلقة في المعظم عن الركب الحضاري ومُعلق مصيرها بأيدِ المنظومة السياسية أو السلطة السياسية الحاكمة لها، ماذا يمكننا أن نستنتج من العمل الروائي، وقد طوقته السلطات بأجهزة “رقابية”، وسنّت قوانين لتجريم الكاتب الروائي أو الفنان، إن خرج عن السياق المنغلق في مجتمعه؟ بالإضافة إلى مد التيارات الإسلامية الأصولية من قبل السلطات السياسية الحاكمة بالمال والمراكز القيادية في الدول الخليجية، وربط ذلك بجملة قوانين لعل أوضحها “إدارة الفتوى والتشريع” في الكويت؟
هذه الإدارة متغلغلة في كل هيئات هذا البلد ولا يمرر أي شيء يتعلق بالموظف أو مطالبته إلا عبرها، أضف إلى ذلك اشتراكها أيضًا في إيجازة الأعمال الفنية التلفزيونية وغيرها! ليكون المبدع الروائي والفنان الملتزم بالمعايير الفنية المتزنة في “عزلة”، فإما يذعن للسلطة السياسية و قوانينها وإما ينشر فنه وأدبه خارج الكويت والخليج. بالإضافة إلى ذلك تراجع دور المؤسسات الثقافية الرسمية ولتكن الكويت كمثال، فقد زخرت الخزينة الثقافية في هذا البلد وعلى مر ثلاثة عقود متتالية، منذ الستينيات وإلى أواخر الثمانينيات، في دعم وتشجيع المنتج الثقافي وإفساح المجال أمامه للانطلاق، ليعود متخلفًا عن الركب في ما بعد وليكون دور “المجلس الوطني للثقافة” في الكويت سلبيًا في دعم المبدعين، بل لا توجد فيه إدارة تعمل لدعم إنتاج المبدعين الكويتيين والخليجيين، إلا عبر الوجود الشكلي! فأمام سلطة الرقابة الحكومية، والتيار الإسلامي الأصولي ووضع قياديين غير مناسبين في الأماكن المناسبة في البيئات الثقافية والإعلامية في الكويت وباقي دول الخليج ماذا يمكننا أن نستنج أو أن نأمل، مثلاً، في تقدم الرواية الأدبية؟ أضف إلى ذلك غياب دور المسرح و السينما والأوبرا والموسيقى بأشكالها الحقيقية وتأثيرها بالجماهير لا إيجادها في المناسبات والمهرجانات و تسليط أضواء الإعلام عليها!
مراحل قمعية
الثقافة والفن الروائي بالتحديد يمران في مراحل قمعية لإزالتهما من على الخارطة بل والتعمد عن سابق إصرار في إلغاء أي دور تنويري لهما في الدول الخليجية. فالروائي يؤلف عمله الإبداعي، يطبع على حسابه الشخصي، يسوق منتجه، يتعرض للبطش من نظامه السياسي إن أشار إلى سياسته أو إلى أحد أشخاصه من العظماء؛ وبالتالي يخبر، بطريقة غير مباشرة، بأن طلبه مرفوض.
هذه العوائق يعاني منها المثقف والكاتب الروائي والفنان في الكويت، علمًا بأن دخل هذا البلد من مبيعات النفط بشكل يومي يفوق مئات الملايين، وهو الأمر ذاته الحاصل في دول الخليج الأخرى.
تركز الأنظمة السياسية في الخليج على المعايير الرئيسية في ما يتعلق بسياستها والتي تنعكس على الثقافة من دون شك، والروائي والفنان المتوقع منه ألا يحرص على هذا المفهوم، إنما يصب جهده على تفكيك هذه المعايير وخلق معايير فنية جديدة في عمله الروائي، أو هذا ما لمسته في أعمال: “عبد الرحمن منيف، وعبده خال” من العربية السعودية، فالذي يرصد إحداثيات “مدن الملح” للروائي عبد الرحمن منيف، بدءًا من التيه ومرورًا ببادية الظلمات، وسلالة “متعب الهذال” وأبنائه “الجازي” و”فواز”، وكذلك “إبراهيم العون” جد الوادي وادي العيون، وهو أقوى شخصية، كما يذكر المؤلف، وهذا ما نلمسه بالرواية علمًا أن الشخصية وجدت كذكرى وهي ليست موجودة أصلاً في الأحداث، والصراع الذي يحتدم مع أبناء الراشد الذي يتعامل مع الأميركيين والأمير من أجل التنقيب عن النفط وما ينشأ من فرقة وخصام بين النسيبين بسبب الثروة والسلطة (4)
أما رواية “الموت يمر من هنا” وهي من مجموعة روايات للكاتب “عبده خال” فتعد من أجمل وأنضج الروايات التي قرأتها في السنتين الأخيرتين على المستوى الخليجي، وهي تحمل أحداثاً شيقة من حيث السرد والبحث عن كشف السر الغامض المتعلق “بالسوادي”. خال لم يحدد الأماكن بعينها ولم يُلحق شخصيات حيّة أو لها أي بذور بالوقت الحالي بالشخصيات الأساسية في الرواية، إنما أكتفى بالتدليل على المهزلة التي تمحق الإنسان وتجعله كالحشرة بعين من يقود ركب الجماعة، وهو “السوادي” فالسوادي لم يقف بوجهه أحد كأنه سيد “قربة السوداء”، فسطوته صادرت كل مقدراتها، فهو باستطاعته قتل من يشاء، بل إن له مائة روح كما يصفونه تطارد كل من يقف بوجهها أو على الأقل تختاره هي للبطش به!. ثمة أمل في راود شباب يعول عليهم مستقبل القرية(4 ). ومن هنا يبدأ الصراع بين السوادي وتابعيه من “الحرس القديم” والشباب الذي يطمح أن يعيش خارج تلك المفاهيم البالية وذلك التفكير الذي يتعامل مع أي ردات فعل بالعنف بل والتصفية الجسدية إن دعى لذلك داع.
بالإضافة إلى ذلك وجود وسيطرة “الجنس الأجنبي” ممثل بالعثمانيين وفرض سيطرتهم الإقتصادية والعسكرية على القرية؛ لتكون الأداتين والتفكيرين بل والطموح المبني على الزيف قد عبأ القرية التي هي انعكاس حي وملموس لما هو حادث في دول الخليج، وإن كان بمفاهيم مختلفة عما كان يجري في تلك الحقب التي شهدتها القرية ومنطقة الحجاز؛ وكأن “عبده خال” يؤكد ع فرضية قمع الشعوب عن طريق “الأجنبي” الذي قدم بمباركة وموافقة سيد القرية! كما وأن لرجل الدين مشاركة مصيرية مع السوادي لتكتمل المعادلة في فرض جميع المبادئ والمفاهيم على سكان القرية، وليكون أي “متمرد” أو “مختلف بالرأي” مع السوادي أو تابعيه معرض للإبتلاع من ذلك الثالوث “الحاكم والقوة الأجنبية ورجل الدين”. يصف لنا “عبده خال” جانبًا من ذلك في روايته: “ومن يجرؤ على المساءلة؟ الشيخ “موسى” إمام مسجد القرية يدعم سطوة “السوادي” (5). ولكن لِمَ أخرج المصلّون ذلك الشاب الطموح والذي يدعى “درويش” من المسجد؟.
يسرد “خال” هذه الحادثة: “صوت الشيخ موسى المشروخ يذكرني بأنني لم أدخل المسجد منذ أمد بعيد؟ منذ ذلك العهد الذي دخلت فيه للصلاة فأخرجني المصلّون بتحريض من الشيخ موسى الذي صرخ محتدًا: “المجانين لا تقبل لهم صلاة ودرويش سيخرب صلاتنا – فأقبلوا عليّ يدفعونني للخارج، وكأنني كلب نجس، وقلت لهم لقد حضرت عابدًا لله وخائفًا منه ألم أخلق للعبادة أم أنكم ترونني خلقت عبدًا “للسوادي”، وأن مهمتي الوحيدة في الحياة هي أن يكون ظهري متسعًا لحمولته وجرائمه”( 6).
“درويش” هو ردات فعل أولئك الجياع.. المساكين في القرية، درويش وشبرين وعبد الله الشاقي أكتشفوا كم الأغبياء بليدين، ألم يصف واقع الحال في هذه الكلمات: “نضع أيدينا داخل جيوبنا وكأننا نخبئ كنزًا فيها بينما الجيوب فارغة لا تطبق على شيء سوى أيدينا… آووه كيف لو خرجت هذه الأيدي من جحورها … هل يبقى “السوادي” سقفًا لها إنها ملّت الانحناء.. كيف توسوس لهذه السواعد المختبئة خلف الجوع والخوف أن تخرج من مخابئها(7 ).
الجوع والخوف والتحسب لردة الفعل العنيفة من قبل السوادي هي الأدوات المتبعة في طريقة حكمه، والجوع ليس المعني به خواء المعدة من الغذاء أو الماء، وإنما الجوع معنيٌ به جوع العقول والقلوب التي أُحكم قفلها من قبل “السوادي ومجتمعه” وانبنت منظومة من الأعراف والتقاليد المبتدعة من قبلهم من أجل تحديد “دور العقل” في التعاطي مع هكذا مسائل.
رقابة إعلامية
ولو رجعنا قليلاً إلى منظومة الرقابة الإعلامية في الخليج لوجدناها هي المنظومة ذاتها الذي أتبعها “السوادي” مع قريته وسكانها؛ فأي عمل روائي أو مسرحي أو كتاب، يختلف طرحه مع المنظومة السياسية في الخليج يكون قراره بالمنع ومحاسبة “مُؤلفه”. ونحن نسأل في أي عصر نعيش؟ أفي عصر “محاكم التفتيش في أوروبا” أم عصر الصوت الواحد؟ وإلا ما معنى أن تشدد الأجهزة الرقابية في وزارات الإعلام والثقافة مع هذه الأعمال الطليعية؟! هل لأن الروائي أو الفنان أو الكاتب المثقف استطاع إعادة قراءة هذه المنظومة السياسية بطريقة غير محبذة من الرقيب؟.
ذلك هو التفسير الوحيد بالنسبة إلينا حيال ما يجري مع المنتج الروائي والثقافي. عدم تسليط الضوء عليه مطلقًا. تهميش كاتبه. عدم التعاطي معه في المؤسسات الإعلامية الرسمية وبالتالي إحاطته بطوق مربع ووضعه به كي لا يخرج عن المفاهيم والأعراف والتقاليد التي تعتمد على “ثالوث الحكم: السوادي، القوة الأجنبية، رجل الدين”، وهذا هو حكم الاستغلال والقوة، القوة التي تقمع الحريات وتكبّل الأيادي ويبقى صوت “السوادي” هو المسموع!. لمَ حُورب “درويش” و “شبرين” و “عبد الله الشاقي” ومن هم على شاكلتهم؟ ومن المستفيد من ذلك. العثمانيون مثلاً…. أم “أبو قبضة” صاحب القداسة في القرية أم “الشريف حسين”، أم “نوار العجوز” أم “محروس” و “علي يحيى” ورئيسهم!. يصف “خال” جانبًا من معايشته للحقيقة:
“في المقبرة كل شيء مهيأ كأن يفاتحك بالصمت، ويحث عينيك للبحث عن بقايا الإنسان، والذي لم تتبق منه إلاّ عظام نخرة تحدق بك باشتهاء، فتهرب منها من خلال دعاء مرتبك، وتنفث الخوف من رئتيك بوجل وتعتصم بوحشة عارمة شبّت بداخلك بغتة.. كانت كوات القبور القديمة قد لفظت ما بأحشائها إثر فيضان السيل الفائت، فتجندلت الجماجم والسيقان، وبرزت عظام الصدور التي تناقلتها كلاب المقبرة إلى أماكن متفرقة”(8 ). ذلك هو الإنسان في قرية “السوادي” وهو في الحياة يعيش تابعًٍا ومذلولاً، وهو في الممات أيضًا يكون جسده وعظامه تحت تصرف الكلاب وأيًا كانت النتيجة أو الهدف من وراء إذلال الإنسان فإن لدورة الزمان إنقلابة أكيدة عبر المُخلصين والمُضحين في طلب الحرية، و تحطيم ذلك “التابوه” الذي صنعه “السوادي” بينه وبين سكان القرية. المبدع الروائي والفنان الأصيل في الخليج من دون شك تقف في وجهه مشكلات لا حصر لها حينما ينجز عمله الروائي أو الفني أو الفكري، ومن أولى هذه العقبات:
1- الرقابة: إذ الرقابة ترفض إيجازة أي عمل روائي أوفني أو فكري يناقش الوضع السياسي أو الديني في الدولة ذاتها أو في دول الخليج، لأن الأشخاص العاملين في السياسة استصدروا القرارات لهم لتكون محمية في بنود الدستور أو القانون، وقد يتعرض الكاتب للسجن متى ما تطرق إلى المحاذير لمدة تزيد عن العشرة سنوات، أما الدين فيمنع التطرق لرموزه أو الخوض في تاريخه.
2- المؤسسات الثقافية والإعلامية في الكويت وباقي دول الخليج العربي لا تدعم المنتج الروائي الكويتي أو الخليجي حسب الأسس العلمية، والتسويقية المتعارف عليها في عالم النشر.
3- تضييق الخناق على الكاتب في الاستحصال على التفرغ الأدبي لممارسة عمله الأبداعي، ولدي أنا شخصيًا تجربة “مريرة” مع “المجلس الوطني للثقافة” في الكويت – إذ منحني “إجازة تفرغ لمدة ستة شهور لإنجاز” مسرحيتي التاريخية والتي حملت إسم المأمون” وحينما انجزت جزءًا من المسرحية وطالبت بتمديد طلب التفرغ من المجلس الوطني للثقافة رفض طلبي، ومن المنطقي أن كتابة مسرحية تاريخية تحتاج على أقل تقدير لمدة سنة أو يزيد لإنجازها؛ وفوجئت بأن مدة تفرغي قد قُلصت لكي أنصرف عنهم؛ وقد انجزت المسرحية بجهدي الشخصي، وطبعتها أيضًا من حسابي الخاص، من دون أي اهتمام يذكر من المجلس الوطني للثقافة تجاهي
4- المؤسسات الثقافية في الخليج، وعلى رأسها “المجلس الوطني للثقافة في الكويت لا يهتمون اطلاقًا بالإنتاج الروائي الخليجي أو كما في دور النشر الخليجية عبر دعمها أو مشاركتها في تسويق المنتج الثقافي، إنها مؤسسات وكما يبدو لي موجودة من أجل محاربة الثقافة في الخليج لا دعمها، وإلا لماذا ينشر الأدباء والروائيون والمفكرون المحليون خارج دول الخليج؟!
5- وضع المسؤول والقيادي غير المناسب على هرم المؤسسة الثقافية والإعلامية في الكويت معظم دول الخليج، وهذه كارثة الكوارث مع كل أسف، وهذا ما جعل دورنا يتراجع بل وينكفئ في بلداننا.
6- دور النشر في الكويت والخليج نادرًا ما تدعم المنتج الروائي الخليجي، والذي يكون منتجًا متميزًا في طرحه، كأن مردود المؤلف الخليجي لن يكون بذلك المردود الذي تعول عليه الدار وبالتالي يُرفض منتجه الروائي.
وحينما يضع المبدع الروائي أو الفنان عمله في الأدراج بسبب جملة القوانين الرافضة لعمله، سيكون بلا شك قد أوضع المجتمع الخليجي هو الآخر بالدرج ذاته، كأن شهادة الروائي المبدع هي شهادة ميلاد لمجتمعه، ميلاد جديد، والجديد أو الحديث في الكويت والخليج يُرفض من قبل المعسكر القديم.
النقد الرتيب كنموذج:-
اسم الكتاب: الذاكرة القومية في الرواية العربية. إصدار: مركز دراسات الوحدة العربية.
تأليف/ د. فيصل درّاج.
يقول المؤلف مبينًا فحوى كتابه النقدي الآتي: إذا كان صعود الرواية قد ارتبط نظريًا بصعود القومية، فما هو وضع القومية العربية في شرط تاريخي يفصح عن هامشية الجنس الأدبي المنتمي إليها؟..
رأي المحاضر: د. دراج هو من يجيب وهو من يسأل وهذا بتصوري كلام بمجمله “حشو”، وكلام لا مستند نقديًا طليعيًا له بدليل أن “درّاج” ربط الديموقراطية بالرواية، وربط صعود “القومية” بالرواية، وتناسى التفاعل الذي بذلته النخب المتعلمة مع المد الغربي، ناهيك عن أدباء المهجر، وأدباء شمال إفريقيا الذين كتبوا بلغات أجنبية وآخرين.
*********
المصادر والمراجع
(1 ) د. عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية البحث في تقنيات السرد. سلسلة عالم المعرفة. المجلس الوطني للثقافة. الكويت. الإصدار 240.
(2 ) ويكيبيديا – الموسوعة الحرة.
(3 ) المنتمي. د. غالي شكري، دراسة في أدب نجيب محفوظ. الطبعة الرابعة 1988. إصدار دار أخبار اليوم. مصر العربية.
( 4) تسابيح في معبد الآلهة، ناصر الملا. دار العلوم العربية – بيروت.
( 5) تسابيح في معبد الآلهة، ناصر الملا. دار العلوم العربية – بيروت.
(6 ) عبده خال، الموت يمر منهنا ص 206، منشورات الجمل – الطبعة الثانية، كولونيا – ألمانيا 2007.
(7 ) تسابيح في معبد الآلهة، ناصر الملا. ص 127.
( 8) عبده خال، الموت يمر من هنا – ص 216.
*********
(*) القيت في ملتقى الإمارات للإبداع الخليجي في 9 ديسمبر 2013 النادي الثقافي العربي – الشارقة