بقلم: الباحث خالد غزال
لم تكن ايران يوماً عنصراً مقرراً في العالم العربي كما هي اليوم. لقد صارت جزءاً لا يتجزأ من أحداث أساسية تعيشها المنطقة العربية بعد الانتفاضات التي ضربت بنى مجتمعاتها خلال الأعوام الثلاثة الماضية. ويستند التدخل الإيراني في الوضع العربي الى جملة عناصر تتصل بنظرة ايران الى موقعها ودورها في المنطقة، وإلى نظرة جيوبوليتيكية ترى المنطقة العربية واحداً من مدارات المدى الحيوي لإيران ومصالحها، كما تستند الى عنصر طائفي مذهبي ترى إيران فيه دوراً «رسولياً» عليها القيام به دعماً لأبناء الملة التي ينتسب اليها ملالي النظام وضرورة ان تكون لهم اليد الطولى في تقرير المصير تعويضاً عما فات أبناء المذهب منذ خمسة عشر قرناً، وانتقاماً لما أصاب «أهل البيت» في ذلك الزمان الذي لا يزال متواصلاً حتى اليوم ويتفاعل في الوجدان الطائفي.
وبما ان العلاقات الايرانية-العربية تمثل وجهاً أساسياً في السياسات الحالية للعرب والإيرانيين، فإن الدراسات التي تصدر مواكبة لهذه العلاقات تسعى إلى تبيان السلبيات أو الإيجابيات في العلاقة وكيف ينظر إليها كل طرف. من الدراسات التي ظهرت في هذا المجال كتاب المفكر اللبناني رضوان السيد بعنوان «العرب والإيرانيون، والعلاقات العربية–الإيرانية في الزمن الحاضر»، وهو صادر عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» في بيروت.
يشير السيد الى «أن الدراسات المنشورة في هذا الكتاب، كتبت خلال عقد ونصف العقد. وقد قصدتُ فيها المتابعة النقدية والاستطلاعية للسياسات الايرانية تجاه العرب، وللعلاقات الايرانية–العربية منذ أوائل أيام خاتمي وإلى الربع الأول من العام 2013. ومنهج هذه الدراسات الواقعية هو المدخل القومي والجيواستراتيجي، والذي يستخدم القوة والدين والمذهب والثقافة، سواء في التحشيد او في فرض الوقائع على الأرض».
ويتحدث السيد عن «العرب وإيران، الدولة والإسلام، والمجتمع المدني»، فيقدم عرضاً تاريخياً للمبادئ الدستورية التي حكمت الدولة الايرانية على امتداد القرن العشرين وصولاً الى الثورة الايرانية عام 1979. لم يكن المجتمع الايراني ساكناً طوال هذا القرن، فقد شهد حراكاً واسعاً في النصف الاول من القرن العشرين ضد حكم آل بهلوي ذوي الصلة الوثيقة بالاستعمارين البريطاني والاميركي. اما النصف الثاني من القرن فقد شهد حركة محمد مصدق التي كانت أكبر تحول ايراني ضد حكم الشاه والخارج، والتي لم يتح لها الاستمرار بسبب تآمر الغرب لإسقاط مصدق. لكن الحراك سيتجدد مع التيار الإسلامي الذي قاده الخميني، خصوصاً حراك العام 1963 الذي انتهى بقمع حركة الاحتجاج ونفي الخميني الى الخارج. ستتوج الثورة الايرانية عام 1979 مرحلة من النضال ضد الشاه وحكمه لتنتج نظاماً إسلامياً بقيادة الخميني من أهم صفاته انه كان «نظاماً كوربوراتياً جمعياً يشبه في سياسته وطرائقه في التصرف الأنظمة الشمولية المعاصرة الى حد بعيد».
يحتل التوتر القائم بين الشيعة والسنّة موقعاً في كتاب رضوان السيد، هذا التوتر المتصاعد اليوم له جذوره التاريخية الممتدة منذ الانشقاق الذي قام داخل الإسلام في سياق الصراع على السلطة والخلافة، واستمر طوال العصور العربية–الإسلامية وصولاً الى العصر الحديث الذي شكلت الثورة الايرانية عنصر توتره الأكبر، خصوصاً ان الصعود الشيعي أعاد طرح المرجعية الأساس للمسلمين، وعبر اعتبار ولي الفقيه هو ولي أمر المسلمين جميعاً. يشير في هذا المجال الى «ان الأبرز والأكثر لفتاً للانتباه هو طرائق ايران في عصر ولاية الفقيه في التعامل مع الشيعة خارجها، في ديار العرب والإسلام، وفي العالم الأوسع. فهي ما اكتفت بكسب تأييد هؤلاء وحماستهم (ومعهم كثيرون من شبان السنّة)، باعتبارها مرجعية شيعية وثورية. بل اقتضت دعوى القيادة الأوحد للشيعة في العالم من خلال ولاية الفقيه اقامة تنظيمات داخل كل الجماعات الشيعية في العالم، تتبع الولي الفقيه، في المسائل الدينية والحياة الشخصية والعامة».
خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وقبل حصول الانتفاضات في بعض العالم العربي، عرفت العلاقات العربية-الايرانية مزيداً من الاضطراب ساهمت فيه الحرب الاميركية على العراق واعتبار ايران نفسها المستفيد الأول من هذه الحرب، وترجمته تدخلاً سافراً في الشؤون العراقية عبر دعم موقع الشيعة وتغليبه على السنّة. خارج العراق، وجدت ايران ان في امكانها مد نفوذها في أكثر من مكان في المنطقة العربية. تدخلت في القضية الفلسطينية فدعمت حركة حماس في وجه السلطة الفلسطينية، وتدخلت في اليمن لمصلحة الحوثيين، واعتبرت البحرين مقاطعة ايرانية وسعت الى زعزعة الحكم فيها. اما التدخل الذي زاد التوتر فهو المتصل بالهيمنة على الحكم السوري وإلحاقه، الى حد كبير، بالسياسة الايرانية (هو ما لم يكن عليه زمن حافظ الأسد). أما في لبنان فاعتبرت ان نفوذها محفوظ ومتين من خلال تبنيها «حزب الله» في كل الميادين المادية والعسكرية. خلال هذه السنوات تدخلت عوامل متعددة لتجعل العلاقات الإيرانية-العربية مقيمة في التناقض والصراع، منها تفاقم المذابح الداخلية بين السنّة والشيعة في العراق، ومقتل رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري، وحرب تموز (يوليو) 2006 في لبنان وما تبعها من عملية 7 أيار (مايو) التي قام بها «حزب الله» والتي اتخذت عملياً طابع صراع سنّي– شيعي، ومنها قيام حماس بدعم من إيران وسورية بالاستيلاء على قطاع غزة، ومنها أيضاً تردي العلاقات بين ايران والسعودية وبعض دول الخليج.
يمكن القول ان ظاهرة التدخل الإيراني في شؤون بعض الدول العربية، خصوصاً في العراق ولبنان والبحرين واليمن «تجمعها جوامع او عناصر عدة: الجاذبية الغلابة لإيران في الأوساط الشيعية في سائر إنحاء العالم، وبخاصة في المشرق العربي والخليج، ووجود مشروع ديني– سياسي للثورة الإسلامية، يرمي الى إلحاق كل الشيعة في العالم بالزعامة والمرجعية الايرانية، وغلبة الطابع الأمني– السياسي على علاقة ايران بشيعة المشرق العربي والخليج». لكن مسار العلاقات العربية-الايرانية لم يكن مفصولاً عن الصراعات الدولية لإيران، خصوصاً في جملة ملفات، فموقع ايران ودورها الاقليمي هو مسألة مركزية في علاقات الغرب مع ايران وفي علاقات الغرب مع الدول العربية في الآن نفسه. لم يكن الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة يوماً في موقف إسقاط النظام الإيراني، بل على العكس، وخلافاً لما يراه كثيرون، ظل النظام الإيراني منذ قيامه حاجة أميركية في وصفه فزاعة ضد العرب، بما يجعل الدول العربية بحاجة ماسة الى الوجود العسكري الأميركي في الخليج. اما الملف الآخر فهو المتصل بالبرنامج النووي الايراني، حيث تسعى ايران الى الرد على التعنت الغربي بمد نفوذها خارج حدودها واستحضار مواقع قوة في اكثر من مكان، بما يمكنها من المقايضة مع الغرب في مجال اي تسوية قد يتم الوصول اليها في هذا المجال.
لا شك في ان التوتر في العلاقات الايرانية-العربية مسؤولية مشتركة، فالحرب العراقية، المباركة غربياً، على ايران بعد قيام الثورة تركت جروحاً عميقة من الصعب ان تندمل، هذا اذا ما كانت هناك إرادة لاندمالها. وهي لا تزال تشحن الصراع السنّي-الشيعي بمقويات هائلة. كما ان العداء التاريخي وإصرار كل من الشيعة والسنّة على البقاء مقيمين في التاريخ القديم الذي يعود الى خمسة عشر قرناً، لا يساعد في إطفاء نار العداء بين الطرفين، وتحوله حروباً بين الدول وبين الشعوب الإسلامية نفسها. وهو أمر يستدعي تكوّن مقومات سياسية وثقافية وفكرية مختلفة يمكنها ان تخرج هذه العلاقات من أتونها الملتهب.