يسعدنا أن نُطلقَ اليوم الكتاب الذي أعدَّه الخوري اسطفان ابراهيم الخوري: “وثائق البطريرك الحويك السياسيّة”، ونشره المركز الماروني للتوثيق والأبحاث. فأوجِّه شكري وتقديري لحضرة الخوري اسطفان على هذا العمل الكبير الأهمّية، والذي يأتي في وقته، ولبنان يستعدّ للاحتفال، بعد ستِّ سنوات، بالمئوية الأولى لإعلان لبنان الكبير واستقلاله في عهد البطريرك الياس الحويك الذي قاد المسيرة نحو هذا الإعلان. وأحيِّي شاكراً على هذا الإنجاز سيادة أخينا المطران سمير مظلوم رئيس المركز، والمونسنيور سعيد الياس سعيد مديره العام.
ويطيب لنا بالمناسبة أن نكرِّم سيادة أخينا المطران كميل زيدان، رئيس أساقفة انطلياس، تعبيراً عن الشُّكر والتقدير للسنوات التي قاد فيها المسيرة التأسيسيّة للمركز الماروني للتَّوثيق والأبحاث، كمدير عام. وقد أصدر المركز في عهده العديد من الدراسات والمنشورات في مواضيع متنوّعة.
2. كتاب “وثائق البطريرك الحويك السياسيّة” يعود بنا إلى الجذور، إلى الأصول التي كوّنت هوّية لبنان بكيانه وصيغته ورسالته، وإلى مبرِّرات دور البطريركيّة المارونيّة على المستوى الوطني. ويشكّل الكتاب أساساً يوجَّه للاحتفال بمرور مئة سنة على ولادة لبنان الكبير واستقلاله وسيادته، ولتجديد ميثاقه الوطني بعقدٍ اجتماعيٍ جديد مرتكز على الكيان والصيغة والميثاق، من شأنه أن يُزيل الشوائب التي عابت هذه الثلاثة. وكلّنا يقين بأنّ ذكرى المئوية الأولى هذه، وما ستوفّر لنا من وعي والتزام وطنيَّين، ستشكّل لبلدان الشَّرق الأوسط، الباحثة عن ربيعها، النموذج الأفضل للتنوّع في الوحدة والعيش معاً بالتعاون والتضامن والمشاركة.
3. لكنّني أسارعُ وأقول إنّ إنجاز إعلان لبنان واستقلاله ما كان ليتحقّق لولا انبثاق ذاتيّة لبنانيّة في مرحلة أولى، منذ بداية القرن السادس عشر حتى منتصف التاسع عشر، وهي حقبة عُرفت بعهد الإمارة الإقطاعيّة، التي توالى على قيادتها عددٌ من الأمراء المعنيّين والشهابيّين، ونخصّ بالذكر منهم الأمير فخر الدين الثاني المعني الكبير الذي امتدّت إمارته من سنة 1590 إلى 1633، وتعاون بشكلّ فعّال مع البطريرك الماروني يوحنا مخلوف والمطران جرجس عميره الذي خلفه فيما بعد على كرسي انطاكيه؛ والأمير بشير الشهابي الكبير الذي حكم منذ 1788 إلى 1840. فكان لهما الفضل الأهمّ في إبراز الذاتيّة اللبنانيّة كياناً وشعباً.
4. مرّت هذه الذاتيّة اللّبنانيّة بأزمة انقسام مع نظام القائمقاميّتين الدرزيّة والمارونية (1843-1860) الذي قضى بتقسيم جبل لبنان وانتهى بثورة شعبيّة كان آخرها حرب 1860. ثمّ استُعيدت الذاتيّة اللبنانيّة مع النظام الدولي المعروف بالمتصرفيّة تحت إشراف الدول الأوروبية الخمس (فرنسا، انكلترا، النمسا، روسيا، بروسيا التي حلّت محلها المانيا بعد توحيدها)، التي جعلت لبنان بإدارة حاكم مسيحي يعيّنه الباب العالي العثماني. نَعِم لبنان بجوٍّ من الهدوء والحرّية، إذ أصبح في حينه مضرب مثل، حتى اندلاع الحرب الكونيّة الأولى ومحنة المجاعة التي أودت بثلث سكّانه.
5. هذه الذاتيّة اللّبنانيّة راحت تتبلور في أوائل القرن العشرين في عهد البطريرك الياس الحويك الذي انتُخب في 6 كانون الثاني 1899، حتى أصبحت فكرة لبنان الكبير المستقلّ في حدوده التاريخيّة بإعادة الأراضي التي سلختها عنه الدولة العثمانية. وفي 16 حزيران 1919 أصدر مجلس الإدارة اللّبناني قراراً بتشكيل وفد برئاسة البطريرك الياس الحويك إلى مؤتمر الصلح في فرساي – باريس.
قدّم البطريرك “مذكّرة الوفد اللّبناني إلى مؤتمر السلام”، موقّعة منه بتاريخ 25 تشرين الاوّل 1919 (راجع النص الفرنسي في وثائق البطريرك…، ص120-130) وفيها أربع نقاط:
1) إقرار استقلال لبنان عن أيّ دولة أخرى، الذي أعلنته الإدارة اللّبنانيّة والشعب في 20 ايار 1919، لاعتبارات تاريخيّة وسياسيّة وثقافيّة وحقوقيّة.
2) إعادة لبنان إلى حدوده التاريخيّة والطبيعيّة، باستعادة الأراضي التي سلختها عنه تركيا (لبنان الكبير)، عند رسم حدود المتصرفيّة سنة 1861.
3) إصلاح الأضرار التي أنزلتها تركيا بلبنان وشعبه.
4) القبول بمبدأ الانتداب الذي أقرّته اتّفاقية السلام بفرساي في 28 حزيران 1919، من دون أن يخلّ بمبدأ سيادة لبنان.
6. وتوالت رسائل البطريرك الحويك في كلِّ اتِّجاه ما بين 8 تشرين الثاني 1919 و30 آب 1920، حتى الاحتفال بإعلان لبنان الكبير المستقلّ في أوّل ايلول 1920 (من صفحة 131 إلى 170). ففي قصر الصنوبر، وسط الألوف من اللّبنانيّين المحتشدين، وقف الجنرال غورو المفوَّض السامي للجمهوريّة الفرنسيّة، محاطاً برؤساء الطوائف وشخصيّات البلاد وأعلن لبنان الكبير، من النهر الكبير إلى أبواب فلسطين إلى قمم لبنان الشَّرقي.
7. ثمّ بدأت المصاعبُ الداخلية، ولا سيّما بروز لغط وهمس حول الوحدة السورية والاتحاد مع سوريا. فقاد البطريرك الحويك حملة واسعة برسائله، مؤكِّداً أنّه ينطق بلسان جميع اللُّبنانيين الذين هم أشدّ تشبّثاً بالاستقلال. وأكّد في خطاب تاريخي وجّهه إلى الجنرال غورو في بكركي، في كانون الأوّل 1921 قال فيه: “إنّ لبنان لم يرضخْ يوماً من الأيام لحكم أجنبي. إنّ جدودنا وآباءنا ما ارتضوا بهذه الجبال الجرداء ينزلونها معتصمين، إلّا وهمُّهم الوحيد حماية حريتهم وحقوقهم، فلا تصل إليها وإليهم يد الغزاة الفاتحين.” وأنهى خطابه بالقول: “يا حضرة الجنرال، نحن نثق بك وبفرنسا. لكن يجب أن لا تُمدَّ يدٌ إلى استقلال لبنان. وإذا مُسَّ يوماً، فأنا أؤكِّدُ لكم أن البلاد تهبّ بل تشتعل على مسّه احتجاجاً” (راجع النص الكامل صفحة 185-187).
8. وانطلقت رحلة ثانية برسائلَ ومساعٍ من البطريرك الياس الحويك لدى الدولة الفرنسيّة وسواها، مع دراسات قانويّة ومشاورات، وصولاً إلى صدور الدستور اللُّبناني في 23 أيار 1926 (راجع كلّ هذه الوثائق من صفحة 190 إلى 239).
9. ثمّ بدأ البطريرك الياس الحويك حتى وفاته سنة 1931، وقد سبقها صدور رسالته العامّة بموضوع “محبة الوطن”، مرحلة المطالبة بسيادة لبنان الناجزة، وأكملها من بعد البطريرك انطون عريضه. ففي سنة 1936، تحرّكت المطالب الإسلاميّة القديمة بالوحدة السورية،والمطالب المسيحيّة الجديدة بالاستقلال والسيادة. فكان الاتّفاق التاريخي بين فريقي الشعب اللّبناني سنة 1943، المعروف بالميثاق الوطني،واعترافهما بلبنان السيد الحرّ المستقلّ.
وانطلق في ضوئه مشروع تعديل الدستور، علماً أن تعديلات حصلت عليه في العامَين 1927 و1929. أمّا التعديل الذي حصل في 9 تشرين الثاني 1943 فقد أدخل في المادّة الأولى مبدأ السيادة إلى جانب مبدأ الاستقلال، فأضحى نصّ المادّة الأولى: “لبنان دولة مستقلّة ذات وحدة لا تتجزّأ، وسيادة تامّة…” كما أزال التعديل جميع معالم الانتداب.
من المعلوم أنَّ الاستقلال يعني الدولة المحدَّدة بأراضيها وحدودها؛ أمّا السيادة فتعني خضوع الحكم لإرادة الشعب اللّبناني، لا لإرادة خارجيّة أخرى. وما بين سنة 1943و1950، استكملت جميع مقوّمات السيادة التامّة والناجزة، فلا مجال لذكرها الآن. ونَعِم لبنان بسيادته هذه واستقلاله الشامل، بدون أي قيد أو ارتباط، إلّا بما تفرضه أحكام القانون الدولي، بالمساواة مع سائر دول العالم.
10. وهكذا دخل لبنان في ضمير المسلمين، ونفذت العروبة في نفسيّة المسيحيّين على أساس مبدأ السيادة للبنان والانتماء للعالم العربي، وبات لبنان يحتلّ مكانته في المجموعة العربيّة، ويتولّى دوره في جامعة الدول العربيّة، بكلّ فعاليّة ونشاط وحضور.
وكان الفضل لرئيس الجمهورية بشاره الخوري ولرئيس الحكومة رياض الصلح في هذا التطوّر وفي وضع الميثاق الوطني الذي كرّسلبنان وطناً سيّداً حرّاً مستقلّاً.
ويجدر بنا التذكير بنقاط الميثاق الوطني الخمس:
1) استقلال تامّ ناجز تجاه كلّ دول الشّرق والغرب.
2) لا وصاية ولا حماية ولا امتياز ولا مركز ممتاز لأي دولة كانت.
3) التعاون إلى أقصى الحدود مع الدول العربيّة الشقيقة.
4) لا وحدة ولا اتّحاد مع أيّ دولة كانت.
5) الصداقة مع جميع الدول التي تعترف باستقلالنا الكامل وتحترمه.
11. من بعد هذا الميثاق الوطني الذي ميّز لبنان بنظامه وشكّل الأساس لانطلاقته الناجحة ولاقتطاع مكانة له مرموقة في الأسرتَين العربيّة والدوليّة، جاءت نكبة فلسطين سنة 1948 وتداعياتها السياسيّة والأمنيّة على لبنان، حتى اندلاع الحرب اللّبنانيّة بسببها سنة 1975 التي انتهت بوثيقة الوفاق الوطني في الطائف وتعديل الدستور. لكن هذه الوثيقة لم تُنفّذ بالكامل نصّاً وروحاً، وظهرت ثغرات في الدستور على مستوى صلاحيات رئيس الجمهورية وغياب سلطة عليا ذات صلاحيّة لحلّ الأزمات السياسية الدستورية. وكانت جولات الاعتداءات الاسرائيليّة على لبنان واحتلالات بعض مناطقه، ثمّ دخول الجيش السوري إلى لبنان سنة 1976 بقوّاته المؤلّفة من أربعين ألف جندي، منتشرين على كافة الأراضي اللّبنانية، تأمر وتنهي في كلّ كبيرة وصغيرة، حتى خروجه من لبنان في ربيع 2005.
ونشأ في أعقاب ذلك “حزب الله”، مع مشكلة سلاحه، وصولاً إلى النزاع السنّي – الشيعي في المنطقة مع تداعياته الحالية في لبنان.
12. يجدر باللّبنانيّين، قادة سياسيِّين وشعباً، في عهد الرئيس الجديد الذي سيُنتخب في موعده الدستوري، العودة إلى كلّ هذه الجذور، لإعداد الاحتفال بالمئويّة الأولى لتأسيس دولة لبنان (1920 – 2020) السيّدة المستقلّة المميّزة بميثاقها الوطني، بحيث يتجدّد في عقد اجتماعي جديد، يعيدنا إلى تجديد ميثاقنا الوطني، ويسير بنا إلى انطلاقة جديدة تعيد لبنان إلى دوره الفاعل في منطقته كعامل استقرار وسلام، وإلى نموذجيّته الديموقراطيّة في العيش معاً مسيحيِّين ومسلمين على قاعدة التنوّع في الوحدة والمساواة في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة.
*******
كلمة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في إطلاق كتاب “وثائق البطريرك الحويك السياسية” – بكركي، الجمعة 17 كانون الثاني 2014
كلام الصور
1- 2- 3- من حفلة إطلاق الكتاب في بكركي