البعد الصوفي في شعر طوني الحاج

بقلم: د.ناتالي الخوري غريب

“دعوتني ..فلبّيت النداء”  عنوان ديوان شعري، للدكتور طوني الحاج، في 303 صفحات من القطع الصغير، هو أقرب إلى أحدوثة إيمان، وأفعولة nataalieتوكّل وتسليم كلّي لله، آن عيشِ اختبارٍ لاختيارِ فتاة عشرينيّة الانضمام إلى مؤسسة رهبانيّة عند الإصغاء إلى صوت الإلوهة الكامن في دواخلها، ووهب ذاتها بالكليّة، تلبية لدعوة نداء من سماء.

هذا الديوان هو أقرب إلى التأمّل الإيمانيّ اليقيني، عند أب، هو الشاعر، استطاع تقمّص فكر الراهبة الابنة وروحها، أوان سلوكها طريق الرهبنة، مصوّرًا لحظات وجدها وشعشانيّة طريقها وتجذّر إيمانها وديمومة شوقها وعشقها للمعشوق الذي لا يفتر عشقه ولا يزول، في استباق عيشِ استمرارِ ملكوت الله وأبديّته، على وضوحٍ في الرؤية والقرار بُعيد تروٍّ وانتظار، وترسّخ تلهّفٍ لوهبِ ذاتٍ لإله لا يموت.

وقد صوّر الأب-الشاعر عيشَ هذه الخبرة بفرح، والفرح هو علامة قلب يحبّ الله كثيرا، إذ أنّنا قلّما نجد في يومنا هذا، أبا وأمّا يفرحان بتكرّس ابنتهما راهبة-عروسًا للمسيح-، علّه (الديوان-الخبرة-الحالة) يكون أمثولة فرح وإيمان لكثير من الأهل الذي يشكّلون إرباكات وعقبات أمام أبنائهم السّالكين إلى الله عبر الرهبنة. وتاليًا، يتمكّن هذا الديوان من نقل عدوى الحالة النفسيّة عند الشاعر(الأب-العائلة-الراهبة)، فتؤدّي إلى خلق حالة وجدانية عند المتلقي ذات صلة بالحالة الشعرية ما يتيح للذّائق فرصة نادرة في التماهي بموضوعه إلى أقصى درجة، لتدرك حينها كيف استطاع أبٌ أن يتقمّص وجدان ابنته في عشقها المسيح والأحوال التي تدرّجت بها، وصولًا إلى التسليم الكلّي، وهذا التماهي الكلّي لا يمكن أن يتمّ لو أنّ الشاعر لم يعش خبرة روحية خاصّة مع المسيح، مع مخزون معرفي لاهوتي عميق، فتعيش كقارئ معهما، مدركًا كيف يمكن لمن ألبس ابنته الحياة، أن تلبسه المسيح وتكون طريقه كما العائلة إليه.hajj-1--3

جاء الديوان في صوتين: صوت الابنة-الراهبة في مهبّ العشق الإلهي، وارتضائها التزام الطاعة لرئيستها، وصوت الأب في تسليمه للمشيئة الإلهية وفي مناجاته مع ابنته.

 قد لا نستطيع في هذا السياق الا الكلام عن مقام المحبّة، أن يهب الإنسان كلّه لمن أحب، والمحبة هناك الأسار() (كشف الأسرار)، والبحث عن الله أيضًا يعني أن نكتشف أنّ الله هو أحبّنا أوّلاً() وهو يبحث عنّا()،”ولأنّك مددت يديك/ فرفعتني/ وكنت أغوص في أعمق الأعماق/ وأطال السحابَ/ باحثة/ عن حبيب/من هنا جاء العنوان، “دعوتني”، في إشارة إلى مبادرة الله في السؤال، ومن ثمّ، “فلبّيت النداء” كرضوخ وطاعة كليّين في إيجابية تلقي الدعوة. فيقول الشاعر على لسانها:” دعوتني فلبيتُ النداء/ إنّ روحي وأعماقي ونشوة العشق فيّي/ سحرتها نداءاتك يا حبيبي/ ولهانة أعدو إليك/ تسابق عيناي سحب الفضاء)26/ دعوتني هذي منيتي/ رغبة الشوق تؤججها رناء أزاهير رباك…/ص27). يأخذ النداء في هذا السياق بعدًا  صوفيًّا بشكل المناجاة، والحياة مع الله هي حوار حب(). وقمّة الحب الإلهي تتجلّى في شخص يسوع المخلّص والتضحية بكلّ شيء في سبيل اتباعه. من هنا يكون الإنسان موضوع حبّ الله من دون حدود()، فيكون التحليق عند الابنة في سموات النور لهفة الى اللقاء واشتعالا بالشوق”واحتراقا بنوره نحو مطالعة الجمال الأزلي”. والإذعان للحبّ الإلهي ليس موضوع تواجد جسدي، أو برهنة عقليّة، بل بانقياد الروح حيث تزداد معرفة الإنسان عمقاً()، حيث  يتجلّى مقام المعرفة من خلال صوت الابنة في مناجاتها، من دون انفصال المعرفة عن الإيمان، فليس الايمان هنا إيمانًا تقويًا بسيطًا، بل هو مقرون دومًا بالمعرفة، التي تصل بها إلى مرحلة الأمان واليقين، لأنّ معرفة الله هي النداء الأوّل الموجّه إلى قلب الإنسان، فالحياة الأبديّة تقوم على “معرفة الإله الحق وحده”()، وفي ذلك بعض التأثّر بفكر القديس اغسطينوس فيسلوف العصور الوسطى في الربط بين المعرفة والإيمان، مع نفس واضح لنشيد الأناشيد، كما في هذا المقطع:

دعوتك فأجبتني/ عشقت المعرفة/ واخترتُ مخافة الرب/…/ أسمع صوتك فأسكن في الأمان./يميل قلبي إلى الفهم/ ولكنّه صعب عليّ من دونك/…فيا حبيبي، /اعطني الحكمة/ من فمك/أقبل العلم والفطنة/..اقبلني متّكلة عليك / وعلى قلبك/ دعني أعرف بعلمي/ المتواضع سبيلك/…..251./ وأنا السائرة نحو الكمال/ نحوك.(248-249).

وهنا تعبير عن الشخصيّة الإنسانيّة  عند شعورها باكتمال ذاتها على الصعيد الإيماني التي تحاول أن تكتسب اكتمالًا معرفيًّا من أجل تحقيق سموّ إنساني في الحضور الإلهي، وزوّادتها حكمة من تعاليم الله، ودوام التأكيد على صحبته الروحانية، واتكال لا يخيب عليه، سيرًا نحو الكمال على غرار القديسين الذين سبقوها، وصولا إلى غاية الغايات، محطتّها في بحثها وترحالها:” طافت عيناي عبر العصور/ فكنتَ انت المحطة”ص.230 لتكون المعرفة في هذا السياق هي “الدخول في مجرى عظيم من الحياة والنور، يتفجّر من قلب الله وإليه يعود”()، لأنّ المسيح هو الألف والياء، البداية والنهاية، وتاليًا يحتوي العصور أجمع ليكون المحطة التي يُنطلق منها وإليها العودة المحتّمة.

الصوت الثاني، هو صوت الأب الذي يخاطب ابنته، في تعبير عن عيش النعمة وتقديرها، ووعيها، وقد اختارت ابنته-صغيرة البيت ومدلّلته، طريق النور والزهد، ما بعث في نفسه الاستقرار والطمأنينة ليصبح  مدينا لابنته بولادته الجديدة.فيقول:

 “يا طفلتي وسيّدتي:/ غدوتِ راهبةً/ في عمري،/وأنت لم تكبري بعد/وأنتِ طفلة البيت/صغيرته/عرفت شغف الحبّ/ حين رنوت إليه/فالحبّ في كتابك/ سفر في المساحاتِ/حزمتِ حقائب الماضي/وجلتِ في مستقبل آتٍ/ كأنّ العبور يتحقّق في عالمك/ بكرّ حبّات مسبحة العذراء/ فاستعرتُ دفتر الشمس/أسجّل على صفحاته/ أفيء إلى ربي/ أملأ من قلبي/ حبرَ دواتي/.صرتِ مكاني الأفضل/ أسعى لنفحة الطيب فيه/أفيء من يباس كرمي إليه/فيسحرني لأكون نقطة في حرفه الأطهر/ رأيتك بخورًا في حمأة الأيام/ يضوع عطرًا/ فيجذبني.”/290 ص -291-

لقد غدت طفلته سيّدة له، لأنّها عبرت من بنوّة الجسد إلى أمومة الروح الهادية التي ستعبر بأبيها نحو الخلاص، وفي ذلك تماه مع أدبيّات ما افرام السرياني حين خاطب المسيح على لسان والدته:”يا ولدي وسيّدي”،  وكأنّه أراد التعبير عمّا  هو كائن في فرحه بها، فهي، قدّيسته الأحلى،”يا قديستي الأحلى””وصغيرته” و”حبيبته” “والتي تعيش في ضميره”، وهذا التوكيد الندائي يصبح جزءاً صميميا من الدلالة على اختصارها جمالات حياته، ماضيًا بطفولتها وبنوّتها، ومستقبلًا بالعيش في رضى الله وجنابه. لتصبح ضوع عطر سماوي في بخورية صلواتها وبراءتها وطهرها، وطريقه إلى الاستظلال برحمة ربّه فيء استراحة من تعب الأيام، فيكتب حرارة إيمانها على دفتر من شمس بأحرف من طهر ليتمّ لها الخلود في كتاب السماء في اخضرار التجلي الدائم أمام يباس الكروم الأرضيّة. من هنا طمأنينته إلى غد لم يعد يأبه بما يأتيه، يستقبله بملء الغبطة بعد إتمام الكتابة-التجربة-الفرح:haj-1-2j

أصغيرتي/ يا التي عاشت وتحيا في ضميري/أتراه لو دعاني صوب رحلته/ مصيري/ لمضيت مغتبطًا أغني/ شرط ان أنهي هذا النقل من عينيك/ في دفاتري وأبياتي/ص 294.

وهنا يظهر تشديد الشاعر على اختراق ناموس الكلمة(دفاتري أبياتي)، في بناء عالم معنوي أخروي يتماهي في لطفه غبطة وغناء نتيجة استغراق روحاني في بهاء أحوال ابنته، ويتضّح لنا كيف أنّ اللحظة المحرّضة على إيقاد العمل الشعري كانت نتيجة أمرين:”اللحظة الداخليّة، وهي المستقرّة في ذاته بما هي روحيّة صوفيّة مسيحيّة متشبّعة من اللاهوت، واللحظة الخارجية وهي واقع الابنة-الراهبة، ما جعل الداخلي يتطابق مع الخارجي،”إذ تعمل النفس في تزويد الذات المبدعة من القاموس اللغوي المختزن من مرحلة التثقيف السابقة ما يناسب الموضوع”، وما هيّأ في هذا الديوان انسياب مخزون الذاكرة، أن روحيّة الشاعر المسيحيّة في تجدد دائم، فجّرها شعرًا تجسّدُ هذه الروحية في اختيار الابنة، فكانت هذه القصائد عنها حكاية سنوات من عمره:

حكاية السنوات من عمري/تمرّ/ أنشودة حبٍّ/لحن مهجةٍ/ نشوة ثمالة/ ولهَ مجنون/ تأجّجًا نحو الغيب/ في سحب الهوى/ تذوب في التّحنان/ تسطّر بذهب ورد الله/ من إشعاع طيفه/ كلمات في أجمل اللحظات/ من حياتي/ 287-288

فمفردات الحبّ والوله والنشوة والذوبان والتحنان والإشعاع في تصوير هذه الحال العرفانية في ارتقاء تصاعدي من كثيف تلطّف فسما نحو فضاءات نورانية، تجاوزت وصف حال الابنة إلى حال الأب، لأنّه تصوير لهذا الحبّ الإلهي الذي يجوهر عناصر الروح الإنسانية ويمنحها صفاءها الوجودي، من أجل الغياب في الحضور الأبدي.

واللافت في هذا الديوان غياب مفردات الحزن والكآبة واليأس وهيمنة مفردات الحب والشوق الإلهيين والسلام والزهد مع التسليم لمشيئة الله الحاضر دوما في حياة الأب-الشاعر وابنته، مع ترداد عبارات الشكر التي ختم بها ديوانه:

……لم أعد آبه/ لآتٍ تخفيه/ أيامي/لأنّكِ النسيم في ربيعي/ شكرا يا سيّدي/ شكرا إلهي/ إنّك وضعتَها في/ حياتي.299 هذا التكرار”شكرا يا سيّدي” شكرا إلهي”، نداء وجوديّ يعبّر عن كينونته الروحانية في مظهر التوسّل السكوني للنفس البشرية التي عرفت معنى الطمأنينة بمعرفة مصيرها، فالشكر شكل من أشكال الصبر والتفويض، وقد جاء في ختام الديوان  شكرا قلبيا وعيًا بعطايا الله وجوابًا عن النعمة، في توق نحو نعمة أكثر ارتفاعًا “كردّة فعل على إشارة من الله”، فيكون إيمانه بصوابيّة قرار ابنته، اعترافًا بالعطيّة الإلهيّة في إطار الشكر، ورقيًّا روحيًّا في عمليّة الاستجابة الزمانية والمكانية في حضوره الكوني المرتقب.

ويبقى أن نقول أنّ قصائد هذا الديوان مجبولة بالصوفية المسيحية المتجسّدة بالحبّ، فهي تعكس تلك الغبطة السماوية بالتوق إلى اللقاء بالله، ذلك الشكر على النعمة ووعي العيش فيها، وبخاصة في تصويره توق الابنة المترفة على جمال ملائكي، التي تركت كل شيء لتتبع المسيح، تركت ما يتمناه كثيرون وكثيرات زاهدة به، لتكون مع من تبعه قليلون وقليلات، حبًّا به.

*********

(*)  الدكتور طوني الحاج، أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية، رئيس قسم اللغة العربية وآدابها، من أعماله المنشورة، الأدب في الصحافة، ثمار أدبية على موائد فارسية، ثمار فارسية على موائد العامية اللبنانية، لبنان في مرآة رحّالة إيرانيين، وله مجموعة شعرية تحت عنوان شعر إنساني عاطفي.

اترك رد