الأب د. فادي ضو: خوف المسيحي من الإسلام السياسي أكثر منه من الإرهاب

حوار: رحيل دندش

عاني المسيحيون في العالم العربي أوضاعاً صعبة، جراء انبعاث جماعات التطرّف والتشدّد الإسلامي من العراق إلى مصر وسوريا، ما دفع العديد من hiwar logo islمسيحيي الشرق إلى هجرة أوطانهم، ومن بقي منهم، فهو أمام رهانات وتحديات وجودية.  كما يرى المسيحيون أن ما يحصل اليوم يهدّد النسيج الوطني والإنجاز الحضاري المشترك الذي بناه المسلمون والمسيحيون طوال 1400 سنة، والذي أسهم في بناء المشرق العربي على قواعد المحبة والإخوة والسلام. فنزعات التطرّف، إن نجحت في مشروعها الإقصائي، ستلغي كل مساحات التعايش بين الأديان، في منطقة كانت مهد الرسالات السماوية السمحاء.
حول أوضاع المسيحيين في الشرق، التقينا رئيس مؤسسة أديان، الأب الدكتور فادي ضو، وكان هذا الحوار:

 شهدنا أخيراً انعقاد عدة مؤتمرات تناولت أوضاع المسيحيين في الشرق. ما هي أبرز  أسباب القلق والإحباط المسيحي، علماً أن القلق والخوف يساوران الجميع من مسيحيين ومسلمين ولا سيما في هذه الظروف؟

إن القلق الأكبر لدى المسيحيين في المشرق العربي، والذي يشغل بالهم هو أن يصلوا إلى وقت يشعرون فيه أن البلد الذي يسكنون فيه والمجتمع الذي هم جزء منه، قد أصبحوا ضيوفاً فيه وأنهم أصبحوا غرباء في أرضهم. هناك خوف من أن ينهار المشروع المشترك والحضارة المشتركة التي تم بناؤها مع المسلمين عبر 1400 سنة كما عبر عن ذلك البطريرك الراعي. ففجأة يجد المسيحي الذي بنى بيتاً مشتركاً مع المسلم طوال هذه القرون أن هناك من يقول له: “هات المفاتيح، لم يعد هذا بيتك، يمكنك أن تكون ضيفاً إذا أحببت”! هذا الشعور بفقدان الشراكة أو انهيار مكوناتها وأسسها شكّلت عامل قلق وجودي عند المسيحيين. وهناك قلق من نوع آخر يتشارك فيه المسيحيون مع كل الناس، وهو القلق على المستقبل والأمن الذاتي والمعيشي في ظل مجتمع لا تتوافر فيه حالياً مقومات الحياة من تعليم جيد وعمل وطبابة وأمان وسلامة…

هل هذا الخوف المسيحي من كل المسلمين، أم من فئات متشدّدة ومتطرّفة؟

الأكيد إن الفئات المتشدّدة من المسلمين، سواء تمّ التعبير عن هذا التشدّد والتعصب سياسيًّا أو عنفيًّا، هي سبب هذا القلق بشكل أساسي. يخاف المسيحي من الفئات العنيفة من الإرهابيين الذين يمارسون الإرهاب وهم يرفعون شعار الإسلام، ولكن الذي يخيف المسيحي أكثر هو التشدّد السياسي، فكل الحركات والمنظمات التي تدعو إلى إقامة دولة إسلامية -حتى لو جاءت هذه الدعوة عبر الوسائل السياسية والسلمية- تخيف المسيحي وتجعله يعتبر أن هذا البيت أصبح ملكاً للمسلم وحده، وهو أصبح ضيفاً أو مواطناً من درجة ثانية، في حين أن هذا البيت بناه والمسلم سوية. فالمسيحي يخاف أكثر من المسلم الذي بجانبه إذا كان يتبنى العنف الفكري الإقصائي. الإرهابي يقتل بعض الناس بإرهابه، بينما السياسي الذي يبني فكره على إقصاء الآخر وإلغائه، هو يقوم بتدمير 1400 سنة من الشراكة، وبالتالي هو يقتل تاريخ!fady daou

يبرّر البعض هذا التوجه بالقول إن أهل الذمة في النظام الإسلامي مكرّمون وحقوقهم محفوظة. ما رأيكم؟

بالنسبة لي هذا مصطلح من العصور الوسطى تخطاه الزمن، وأعتقد أن الكثير من المسلمين من الذين يمتلكون الوعي الثقافي يرفضون أن يدخلوا في هذا المنطق السياسي الفئوي، لأنهم يعرفون أن الإنسانية تطوّرت باتجاه حفظ كرامة كل الناس، والتي لا تتحقق سوى بقيم المواطنة والمساواة…

 هناك من يرى أن مشروع الإسلام السياسي سقط، ويستدل على ذلك مشيراً إلى التجربة المصرية على سبيل المثال. ما قولكم؟

التحدي لا يزال قائماً، وهنا أهمية طرح التجربة اللبنانية كمثال، حيث تدعو بعض المرجعيات الروحية إلى استكمال بناء الدولة المدنية أو إلى تجديد العقد الاجتماعي على أساس أن نقول لبعضنا البعض هل لا زلنا مقتنعين بما كنا قد اتفقنا عليه تدريجياً خلال التاريخ بأن هذا البلد هو دولة مدنية يتفيأ تحت ظلها الجميع، ويستحيل أن يقام فيه مشروع إسلامي أو مسيحي؟ فلا سبيل للعيش إلا في إطار مشروع وطني جامع. وهنا أود أن أسلّط الضوء على أمر هو في غاية الأهمية وهو أن لدى المسيحي قلق من كلمة “اليوم” حيث يقول بعض المسلمين بأن “اليوم” الظروف غير مؤاتية والشروط غير متوفرة لإنشاء دولة إسلامية! هنا عندما نربط إقامة هذا المشروع بالظروف الراهنة هذا معناه أن المشروع موجود بالخلفية وهو ما يشكّل قلقاً كبيراً عند المسيحي، فطالما أن الفكرة موجودة كهدف هذا يعني أن الشراكة لم تعد قائمة ولم تعد متينة وأصبحت مؤقتة. وأعتبر أن هذا تحدي للفكر الإسلامي اليوم، وكما نعلم فإن هناك نقاشاً ثقافياً ودينياً عند الإسلاميين حول هذه المسألة، فليس كل العلماء والمفكرين الإسلاميين يقرأون موضوع الدولة الإسلامية في الطريقة نفسها، وحبذا لو يتطوّر هذا النقاش أكثر وأن يتوصل إلى نتائج أوضح، ويكون فعلاً نقاشاً دينياً وثقافياً مجرداً عن السياسة التي يجيرها الزعماء بالاتجاه الذي يخدم مصالحهم، وبرأيي أن هناك بوادر إيجابية على هذا الصعيد، وهناك قاعدة مسلمة عريضة لم تعد مستعدة لأن تنضوي تحت هذا الشعار.
وكمثال على ذلك، ليس صحيحاً عندما يصوّر الصراع في مصر اليوم على أنه صراع بين إسلاميين وليبراليين إذا قصدنا بالليبراليين الناس اللادينيين، فأكثر المصريين الذين هم ليسوا مع الإخوان، هم مسلمون يمارسون دينهم ومتعلقون به، ولكنهم ليسوا مع خيار دولة إسلامية أو حكم إسلامي، وهذا لا يعني أنهم غير مسلمين وإنما لديهم رأي آخر في هذا الموضوع، حتى الأزهر الذي يشكّل مرجعية إسلامية كبيرة يعبّر بشكل غير مباشر عن رفضه لمشروع الدولة الإسلامية، وهذا يدل على أنه نقاش داخل الإسلام.

إلى أن يتم التوصل إلى قراءة جديدة تحفظ حقوق جميع المواطنين على اختلاف دياناتهم على أساس المواطنة والمساواة. في رأيكم، ما هو الحل المجدي مرحلياً؟ هل هو في قيام دولة علمانية غير معادية للدين؟

هذا تحدي للعالم العربي وللعالم الإسلامي بشكل عام، ونحن مع الأسف غير ذاهبون في هذا الاتجاه إنما يبدو أننا ذاهبون في الاتجاه المعاكس. ليس صحيحاً بأن الإسلام السياسي قد انهار بل العكس إننا ذاهبون باتجاه الأسلمة السياسية أكثر فأكثر أو التشرذم الطائفي وتفكك الكيانات الوطنية الجامعة، وكمثال على ذلك ما يحصل في تركيا، فتركيا كانت دولة علمانية صحيح أنها كانت متطرّفة بعلمنتها، ولكن انتقلت تدريجياً إلى نظام أقرب إلى النظام الإسلامي، طبعاً إلى الآن هو نظام هجين مختلط بين العلماني والإسلامي، ولكن الأكيد نحن ذاهبون في اتجاه أسلمة  هذا النظام، وما حصل في مصر هو ليس نهاية الإخوان وإنما هو ظرف مرحلي وضع العسكر فيه يدهم على السلطة، أو كما يحصل اليوم في سوريا، فواضح أن الإسلاميين لديهم دور أساسي فيما يحصل، أو حتى الصراع السني الشيعي في العراق حيث يدفع ثمنه المسيحي، فلم يعد الأفق وطنياً، ولم يعد السؤال المطروح أي بلد نريد نحن كمواطنين عراقيين، بل صار الأفق سنياً شيعياً كردياً، وبات المسيحي فعليّاً على هامش كيان هذا البلد في حين أنه من أساس تكوينه. لذلك أعتقد أن الحل وذلك يعبر عن وجهة نظر شخصية هو في قيام الدولة المدنية، وأستعمل هذا المصطلح لأنه الأكثر رواجاً كي لا نقول دولة علمانية، ولكن عندما نقول دولة مدنية معناه ليس لديها مرجعية دينية، فهناك لغط حول هذا الموضوع لا بد أن أشير إليه، إذ يعتبر الإخوان مثلاً أن الإسلام يعني دولة مدنية، وهذا كلام غير صحيح وفيه التباس كبير، هم يعتبرون أن الدولة تكون مدنية طالما لم يحكمها رجال الدين وهذا أيضاً كلام غير صحيح، فيمكن ألا يحكم الدولة رجال دين ولكن تكون مرجعيتها دينية عندها تصبح تلقائياً دولة دينية. لذلك فالدولة المدنية هي الدولة التي تستمد سيادتها من الشعب ولا يكون لها مرجعية دينية.

هم استمدوا سلطتهم أو شرعيتهم من الشعب عبر الانتخابات؟

ليس كل الشعب، هذه المشكلة التي حصلت في مصر. وفي رأيي، إن الإخوان المسلمين أخطأوا عندما لم يفهموا أسس الديمقراطية، واستخدم تعبيرهم عندما تحدثوا عن “ديمقراطية الصناديق”، في حين أن الديمقراطية هي ثقافة، وهي تبنى على أساس العقد الاجتماعي، ومن ثم بعد ذلك نرجع إلى صناديق الانتخابات. أما عندما لا يتوفر عقد اجتماعي وهو الذي يعني أن هناك توافقاً اجتماعياً يُعبر عنه الدستور عندها لا يمكن أن نتحدث عن ديمقراطية. هم لم يفهموا هذا الأمر وبنوا الديمقراطية على أساس الصناديق.

مَنِ القادر على أن يأخذ زمام المبادرة من أجل إنجاز مشروع الدولة المدنية، ووضع حدٍّ لكل هذا التخبّط والتنافر في المشاريع، وخصوصاً أن قراءات تجديدية لمسألة الدولة في الإسلام تبدو صعبة التحقق على المدى المنظور؟

طبعاً كي لا نكون طوباويين فالسياسة هي صراع، صراع على النفوذ وصراع على السلطة، هو من المفترض أن يكون صراعاً بهدف من يقدم خدمة أفضل للناس، ولكن الأمر ليس دائمًا هكذا… كيف نستطيع أن ننجز خطوات إلى الأمام هذا برأيي يكون من خلال تضافر عدة جهود تأتي من أماكن مختلفة، ومن تلك الجهود التي نحتاج إليها اليوم والتي تساهم في قيام دولة مدنية هو وجود الإنسان الحر المسؤول في مجتمعاتنا، كما نحتاج إلى علماء دين يمتلكون الجرأة والشجاعة والحرية الكافية -حرية شخصية ومادية- كي يقفوا ويقولوا إن استغلال الإسلام بهذا الاتجاه خطأ، وأن يعملوا على تحرير الإسلام ممن يستغله في المعترك السياسي، هذا ما نحتاج إليه اليوم بشكل أساسي، والأمر الآخر الذي نحتاجه هو مجموعات نخبوية من المجتمع من مثقفين وقيادات اجتماعية قادرة على تعزيز ثقافة المواطنة والعيش المشترك والمساهمة في تثقيف الناس على احترام التعدّدية وإدارة التنوّع، بالإضافة إلى أهمية بروز وجوه سياسية نظيفة تعمل على خدمة الناس وهذا من أصعب الأمور.. ولنتذكر أن الثورات قامت في أساسها من أجل المطالبة بحياة كريمة على كافة المستويات، وليس من أجل المطالبة بإقامة حكم ديني. نحن في العالم العربي مع الأسف ننسى شقاً أساسياً يحتاجه كل الناس على اختلاف انتماءاتهم وهو تأمين الحقوق الاجتماعية الأساسية أي كل الحقوق المرتبطة بكرامة الإنسان.

 هل تظنون أن وضع المسيحيين وغيرهم من الأقليات على اختلافها، كان أفضل في كنف الدول الديكتاتورية. وعلى كل حال، هذا الكلام سمعناه يتردّد مؤخراً؟

في رأيي، خطأ أن نتحدث بهذه الطريقة رغم أنني أعرف أنه فكر سائد، فكثيرون يعتقدون أن الأنظمة الديكتاتورية كانت أكثر أماناً بالنسبة للمسيحيين بشكل خاص ولعامة الناس بشكل عام. في رأيي، إن إيديولوجية الأنظمة السابقة تشبه الإيديولوجية الدينية، ولها مساوئها الخطيرة، وأعتقد أن “العيش معاً” كان أمراً ظاهرياً لأنه كان مفروضاً وليس أمراً اختيارياً، لذلك نسمع الكثير من السوريين يقولون بحرقة بأن كل ما كنا نعيشه كأنه كان كذبة، اليوم اكتشفنا بأننا لا نعرف بعضنا البعض! هناك أنظمة لديها القوة الكافية لكي تفرض أمناً معيناً في المجتمع وممنوع لأي أحد أن يخرج عن هذا السياق، وموضوع التعدّد والتنوّع غير مطروح، لذلك نجد أن الناس يقولون كنا لا نعرف بعضنا البعض، من منا مسيحي ومن منا مسلم، اليوم حصل العكس. من المساوئ بأن نقع في الفخ المذهبي والطائفي وهذا شيء خطير ولكن الخطير أيضاً أن نرفض الاعتراف بالتنوّع، وهذا الذي نحصده في سوريا اليوم هو نتيجة رفض الاعتراف بالتنوّع وأن لكلٍ خصوصيته، واعتبار أن إلغاء الخصوصية أو ما نسميه في اللغة العربية “الانصهار” أمر إيجابي للحفاظ على أمن المجتمع! أعتبر أن كلمة انصهار كلمة سيئة جداً وهي مع الأسف كثيراً ما تستعمل في السياسة، لأن الانصهار يعني إلغاء الخصوصيات وعدم الاعتراف بالتنوّع، وخاصة اليوم فلا يمكن أن نبني مجتمعاً على أساس منطق الانصهار لأن الانصهار دائماً يستهدف الأضعف أما القوي فيفرض نفسه على الباقيين. فالشعور بالأمان كان ظاهرياً قبل الثورات العربية، كان هناك أمان أمني، نعم لم يكن يوجد مئة ألف قتيل في سوريا، ولكن لم يكن ذلك كافياً لأنه كان مبنياً على منطق الانصهار، وطبعاً نظام غير ديمقراطي يفرض نفسه على المجتمع، الأكيد أنه لا يمكن أن يستمر على هذا الشكل…
ونحن نتمنى الأمان لكل بلد، فهو عنصر أساسي لقيام الدول والمجتمعات، ونحن غير راضون بتاتاً عما يحصل اليوم من صراع ودمار، ولكن لست مع استعمال هذه المقارنة والقول إن أفضل ما يمكن أن نصل إليه هو ما كنا عليه. يليق بالإنسان العربي التائق إلى الحرية وإلى الكرامة أن يعيش حياة حرة عزيزة وكريمة ضمن أنظمة مشرّفة تكون حقاً ديمقراطية وعادلة للجميع دون تمييز.

هل نحن ذاهبون في هذا الاتجاه؟

أعتقد أن المسار التاريخي يذهب في هذا الاتجاه حكماً، ولكن سيأخذ تضحيات ووقتاً طويلاً، إذ ليس الأمر بهذه السهولة لأنه كما سبق وقلت أن الديمقراطية هي أولاً ثقافة؛ ثقافة قبول الآخر والحوار معه وليس قتاله، ولكن نحن لم نصل إلى هذه المرحلة بعد. لقد سقط نظام ديكتاتوري في مصر ولكن لم تنشأ بعده ثقافة ديمقراطية، وبالتالي حلّ مكانه استبداد من نوع آخر، ولذلك نحن نحتاج إلى فترة زمنية طويلة لكي نبني هذه الثقافة بعقول الناس ووجدانهم.

 هل تشعرون بأن ثقافة الإلغاء تترسخ أكثر فأكثر في مجتمعاتنا العربية؟

الأكيد أن لها نوع من الانتشار في مجتمعاتنا، وللأسف أنها تأخذ مظهراً دينياً، ومن وجهة نظري هذه هي الجاهلية، والسياسي غير الديمقراطي يستغل تخلّف الناس، وهو يحتاج إلى أناس متخلفون كي يبقى حاكماً عليهم، بينما السياسة الديمقراطية تقتضي وعياً من أجل قيام هذا النقاش الديمقراطي السياسي لتطوّر المجتمعات… وهنا أريد أن أسأل سؤالاً بسيطاً لماذا هناك بلاداً نامية متخلفة وأخرى متقدمة؟! لذلك أعتقد أن الثقافة عامل كبير جداً على طريق تحقيق التقدم الاجتماعي والسياسي للدول.

هناك دعوات من قبل بعض الدول الغربية للمسيحيين، لأن يهاجروا من بلادهم، فما رأيكم بهذه الدعوات؟ وإلامَ تدعون المسيحيين اليوم؟

إن كل إنسان من حقه أن يعيش في بيئة سليمة، لذلك وبالرغم من أنه سابقاً ولسنوات خلت كنت دائماً أرفض منطق الهجرة، وفي حال علمت أن أحداً ممن أعرفهم كان يفكر في الهجرة كان موقفي حازماً ضد هذا القرار. دائماً كنت أشجع على البقاء والتمسك بالأرض وبالوطن، ولكن اليوم قد غيّرت قناعتي وأصبح لدي قناعة أخرى، وهي أنه من حق الإنسان أن يعيش في بيئة سليمة، وخصوصاً إذا كانت مجتمعاتنا لا تستأهل الناس الفاعلين، لأن الذي يسافر عادة هم أصحاب العقول “هجرة العقول” والمفكرين ومن لديهم ما يقدموه إلى المجتمع، إضافة إلى أصحاب رؤوس الأموال. مجتمعاتنا في تراجع اجتماعياً وثقافياً ودينياً إلى درجة أن بعض الناس ينبذون هذه المجتمعات ويرفضون البقاء فيها، وهم يبحثون عن بيئة سليمة تتحقق فيها شروط  الأمان الاجتماعي كي يعيشوا فيها ويعملوا على تربية أولادهم وتنشئتهم على فكر سليم… أنا أفهم هؤلاء الناس. لا أدعو إلى الهجرة وأشجع كل من عنده استعداد للتضحية ولديه القناعة بأن بقاءه هنا هو رسالة للحفاظ على مفهوم العيش معاً بين المسلمين والمسيحيين والحفاظ على هذا الإرث الذي بُني طوال هذه السنين وإن كان على حسابه أشجعه على البقاء والتشبث بهذه الأرض. الأكيد أن كل من يختار أن يعيش في لبنان أو بالشرق هو يضحي، كل إنسان يبقى في هذه المنطقة اليوم هو يضحي، وجوده في هذه الأرض هو خيار ثمنه بعض التضحيات ولكن في المقابل هو التزام برسالة، ولهذا أقول للناس يجب أن نعطي معنى لوجودنا في لبنان أو في المشرق العربي لأن هذه الدول وهذه المجتمعات لم تعد حافزاً للبقاء ولذلك نحتاج إلى حافز آخر، هذا الحافز هو الرسالة التي التزم بها وأتبناها، ورسالتنا هي وخصوصاً بالنسبة للمسيحيين وأعتقد بالنسبة للكثير من المسلمين هي الحفاظ على هذا الإرث وثقافة العيش معاً وتقديم نموذج أسماه البابا يوحنا بولس الثاني “رسالة للشرق والغرب”، هذا قد يعتبر بالنسبة للكثير من الناس كلاماً شعرياً، ولكنه بالنسبة لي واقع يجب أن نحافظ عليه، لأن هذا الواقع مهدّد مع الأسف.

 ماذا عن الدور الغربي، ونحن تاريخياً نعرف أنهم لطالما اتخذوا من حماية الملل المسيحية ذريعة لاستهداف المنطقة واستعمارها. كيف للمسيحي تحديداً أن يتصرف في هذه الحالة، فمن جهة واقعه سيئ وغير محفز، وهو من جهة أخرى، مستهدف وربما يُستغل لمآرب معينة؟

أعتقد أن المعادلة تغيّرت منذ نهاية القرن التاسع عشر، آنذاك حينما كانت الدول الغربية العظمى تستغل نظام الملل وتدّعي حماية الأقليات وخصوصاً المسيحيين. اليوم في القرن الواحد والعشرين لم تعد الدول الغربية تكترث بما يعني الوجود المسيحي في الشرق، ونحن نسمع هذا من قيادات هذه الدول مباشرة عندما تقول بأنه لا يعنينا وجود مسيحي أو غير مسيحي في المنطقة، ما يعنينا هو مصالحنا. وأصلاً هذه الدول لا تقول عن نفسها بأنها دول مسيحية.
ومن الضروري أن نميّز بين الغرب كحكومات والغرب كمجتمعات، فالمجتمعات الغربية تشكل أهم سند اليوم لنا ليس كمسيحيين وحسب، وإنما لكل المجتمعات العربية التي تستند إلى الدعم الذي يأتي من تلك المجتمعات، فهناك دعم كبير  للمجتمع المدني؛ دعم مادي يأتي من أجل تعزيز الديمقراطية والعيش المشترك وكل المبادرات الإيجابية، لذلك برأيي هناك دور إيجابي كبير يلعبه الغرب في الشرق، وهناك دور سلبي تلعبه الحكومات لأنها تسعى إلى تحقيق مصالحها، فإذا كانت مصالحها ذاهبة في هذا الاتجاه تذهب معه، وإذا ذهبت فيما بعد في اتجاه آخر سوف تذهب إلى غير اتجاه، ولا يعنيها إذا كان هذا يؤثر في وضعنا وفي مسألة العيش المشترك.

اترك رد