بقلم: كلود أبو شقرا
إذا كانت السينما هي مرآة تعكس الواقع من الطبيعي أن يكون للسيدة العذراء مساحة كبيرة فيها كون مريم هي في صلب هذا الواقع، كيف لا وعبادتها تطاول ليس الدين المسيحي فحسب بل الأديان الأخرى أيضاً. لذا تطرقت السينما العالمية في الشرق والغرب إلى هذه الشخصية التي تبقى على مرّ الدهور منبع الحياة تأخذ بيد الضعيف وتستعمل البسطاء لنشر رسائل الله إلى البشر…
من هوليوود إلى فرنسا إلى ايطاليا إلى مصر… تصدرت الظاهرة المريمية الأفلام، مع أنه ليس من السهل إنجاز فيلم عن مريم، باعتراف كل من يتعاطى صناعة السينما، لأن العذراء تجمع في شخصيتها بين الإنسان والرمز والكائن الفائق الطبيعة، بالتالي أي صورة من هذه الصورة يجب دراسة أسلوب تجسيدها في السينما بدقة نظراً إلى التيارات والعصبيات التي تسيطر على المجتمعات والتي قد تؤدي إلى فهم خاطئ لرسالة الفيلم ولحضور مريم فيه… في كل الأحوال تبقى مريم الشخصية الأكثر استقطاباً لجمهور السينما في العالم، وسجلت الأفلام التي تتناول حضور مريم في العالم أعلى الإيرادات وحصدت جوائز الأوسكار وتبقى إلى اليوم من اهم كلاسيكيات السينما.
صورة مريم في هوليوود
لا يمكن درس الفيلم المريمي كظاهرة منعزلة في هوليوود، إنه جزء أو من أبرز الخطوط العريضة من تاريخ السينما وتحديداً السينما الدينية. في البداية، أي في الفترة الممتدة من 1895 إلى 1915، كانت الأفلام المريمية تكتسب طابع الخبر، وتصور المواقع التي تظهر فيها السيدة العذراء على غرارمونتسيرات ولورد… وفي الفترة نفسها، انطلقت الأفلام عن حياة المسيح في السينما الصامتة (1897-1927)، صورت بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وإيطاليا وألمانيا… وهي مستوحاة من الكتاب المقدس، وقد بدت مريم فيها ساكنة وبعيدة وصلبة.
في سينما الثلاثينيات والأربعينيات ومع سيطرة المدرسة الرومنسية ظهرت صورة مريم محببة ولطيفة وقريبة من الناس، من أبرز الأفلام في تلك الفترة: Intolerence (1916) لدافيد غريفيث وفيه تبدو مريم في مشهدي عرس قانا وعلى أقدام الصليب بصورة أم حنونة تعاني من الظلم والوحشية، Ma Madonne (1915 ) لأليس غي بلاشيه، يتمحور حول رسام تظهر عليه العذراء مريم ولشدة تأثره بها وانبهاره بجمالها يبحث طوال حياته عن موديل يستطيع أن يعبر بواسطتها عن روعة هذا الظهور.
بين 1930 و1950، كان العصر الذهبي للسينما، وسيطرت ظاهرة الفيلم المريمي الروائي الطويل. الفيلم الأشهر في تلك الفترة كان Song of Bernadatte (1943)، مع حنيفر جونز بدور برناديت، صور حضور العذراء مريم الفائق الطبيعة على شكل نور عظيم يحيط به صوت الريح، وجهها واضح وتبدو مبتسمة لكنها بعيدة. عام 1945 أخرج روبرتو روسيلليني فيلم Le miracle الذي يجمع بين الواقعية والنقد الإجتماعي، وفي عام 1950 كان فيلم Notre Dame de Fatima (جون براهمز)، وأبرز المقومات التي أظهرها فيلم برناديت أي الطهارة والبراءة. وفي عام 1959 أخرج إيرفينغ رابر فيلم The miracle بطولة كارول بايكر وروجر مور وفيه يتأنسن شخص العذراء مريم الموضوع في باحة الدير ويتقمص شخصية الراهبة التي هربت من الدير وانغمست في حياة المدينة إلى أن تصحو في يوم على واقعها الأليم وعندما تعود إلى الدير يعود التمثال إلى مكانه.
في الثمانينيات من القرن الماضي أخرج جان لوك غودار فيلم “السلام عليك يا مريم” وفيه أظهر العذراء مريم في شخصية تعكس واقع المجتمع الحديث، هي إبنة إطفائي ويوسف سائق تاكسي، تربط بينهما علاقة سامية ومثالية مع أنهما يعيشان وسط ضجيج الحياة المعاصرة، أراد المخرج أن يظهرها بابهى صورة لها، وهي تعيش في مجتمع معقد تسيطر عليه الغرائز والمصالح والسياسة التي لا ترحم…
في العام 2009، أخرج أيان ودومنيك هيغينز فيلم The 13 th day عن ظهورات العذراء مريم في فاتيما، مستنداً على ظهور العذراء في 13 تشرين الأول 1917 حيث شاهد 70 ألأف شخص معجزة الشمس وهي تقترب من الأرض، وشارك الفيلم في “مهرجان كان” في 13 ايار 2009.
يشكل مسلسل “مريم المقدسة” الذي أنتجه الفنان الإيراني شهريار بحراني في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في السنوات الأخيرة، محطة مهمة في سلسلة الأفلام حول مريم. ترجم إلى الإسبانية والعربية والإنكليزية والألمانية، وعرض على شاشات العالم من فنزويلا إلى ألمانيا وإنكلترا وزيمبابوي وصولاً إلى البلدان العربية ولبنان.
يتحدث عن سيرة مريم العذراء شارحاً حياتها المقدسة منذ الولادة وكيف تربّت على القيم والأخلاق والإيمان بالله الواحد، وعن كيفية حملها بالسيد المسيح والمتاعب التي واجهتها . يعتمد هذا المسلسل في مضمونه على ما ورد في القرآن الكريم والروايات الإسلامية حول حياة مريم العذراء.
آخر ما سجل من أفلام حول العذراء مريم، في السنوات الأخيرة، الفيلم الذي صوّره المخرج السينمائي الإيطالي جيدو كيازا في عنوان “لتكن مشيئتك” في قرية زراوة التابعة لمنطقة مطماطة الصحراوية جنوب العاصمة تونس، وهو ناطق باللغة العربية. يروي قصة السيدة مريم العذراء “برؤية أنثروبولوجية” ويطرح تصوراً سينمائياً للأمومة وعلاقة الأم بالابن (السيد المسيح) انطلاقاً من حياة طفلة عاشت في الجليل في فلسطين منذ 2000 عام.
اختار المخرج الإيطالي قرية زراوة لتصوير الفيلم لتشابه المناظر الطبيعية فيها مع مدينة الجليل في فلسطين في تلك الفترة، وذكر أن البطلة التي تجسد دور مريم العذراء هي فتاة “هاوية” من منطقة مطماطة، تدعى نادية خليفي (14 عاماً) وأن نخبة من الوجوه السينمائية التونسية والأجنبية تشارك في الفيلم الذي يستغرق تصويره ثمانية أو تسعة أسابيع.
في هوليوود اختارت شركة “ألوا إنترتينمنت”، منتجة فيلم “ماري، والدة المسيح”، الممثلة الشابة كاميلا بيل لتجسد شخصية مريم، ويشارك في البطولة جوناثان ريس مايرس الذي يؤدي دورين: الملاك جبريل والشيطان، بيتر أوتول في دور سايمون الرجل الذي سيقابل مريم وعائلتها بعد أن تضع طفلها مباشرة، أل باتشينو في دور الملك هيرودس وجيسيكا لانج في دور آنا. الفيلم من إخراج المخرج الأرجنتيني Alejandro Agresti، وجرى التصوير في المغرب.
الأفلام الوثائقية
للعذراء مريم حصة الأسد من الأفلام الوثائقية في العالم ، من بينها حوالى 224 فيلماً عن المواقع التي شهدت ظهور السيدة العذراء، بينها 30 فيلمأً وثائقياً عن لورد، 21 عن فاتيما، 11 عن غوادلوبي، 3 عن غارابندال، 4 عن كونييرز، 33 عن ميديوغورييه… يتضمن هذا النمط من الأفلام الكنائس على إسم مريم (شارتر، سيدة باريس، بازيليك الحبل بلا دنس.. ) بالإضافة إلى أفلام حول عقيدة الحبل بلا دنس (1950)، أو زيارات البابا يوحنا بولس الثاني إلى لورد (1983)، بالأخص المسبحة العالمية التي صلاها البابا في السنة المريمية (1987 ) بمشاركة الحجاج في المزارات المريمية من فاتيما إلى سيزتوكوفا إلى بومباي إلى مانيلا.
يعود تاريخ الأفلام الوثائقية إلى العام 1899 مع الفيلم القصير حول لورد إخراج E. Thevenon، من ثم صور فيلم عن سيدة باريس (1911) مخرجه مجهول. كذلك شهدت عشرينيات القرن الماضي ظهور5 أفلام وثائقية، الثلاثينيات 7 أفلام، الأربعينيات 15 فيلماً، الخمسينيات فيلماً30، الستينيات 7 أفلام،، السبعينيات 5 أفلام ، أما في الثمانينيات فارتفع العدد إلى 35 فيلماً وثائقياً مع بروز ظاهرة ميديوغورييه.
من أبرز الأفلام الوثائقية: “مريم إبنة الناصرة” (1962) لجاك سيليف، “رسالة سلام” (1984) لستانالي كارمينسكي، “حول ميديوغورييه”، “سيدة ميديوغورييه” (1987) لجون بيرد،.
شهدت التسعينيات سلسلة من الأفلام الوثائقية ( حوالى 32 ) عن لورد وفاتيما ومواقع جديدة مثل سان نيكولا (الأرجنتين)، أكيتا (اليابان)، ناجو (كوريا).
حياة مريم
تنقسم الأفلام حول حياة مريم إلى أقسام ثلاثة: الأول يبرز سيرة مريم والثاني يبرزها فائقة الطبيعة، والثالث يصوّرها كرمز للسلام. في القسم الأول يندرج حوالى 72 فيلماً بينها 62 فيلماً ضمن حياة المسيح وتؤدي فيها مريم دوراُ ثانوياً، و9 أفلام حول سيرة مريم من بينها: The Nativity ( 1978) لبرناركوالسكي، “مريم ويوسف: قصة إيمان” (1979) لإيريك تيل، “مريم من الناصرة” (1993) لجان دولانوي، “مريم ام يسوع” (1999) لكيفن كونير…
أما الأفلام التي تبرز مريم فائقة الطبيعة فأبرزها: Bernadette de Lourdes (1919)، “معجزة لورد” (1926) لـ B. Simon ، “حياة برناديت” (1929) لـ R. Chiti ، ثم الفيلم المكسيكي Morena LaVirgen (1942) لغابريال سوريا حول عذراء غوادالوبي، “أغنية برناديت” (1943) لهنري كينغ، “أعجوبة سيدة فاتيما” (1952)، “سيدة غوادلوبي” (1977)، سيدة فاتيما (1978)، برناديت (1988) لجان دولانوي، ظهورات فاتيما (1994)،
يضمّ القسم الثاني أي مريم الرمز ودورها في حياة الأشخاص حوالى 209 أفلام تبرز فيها المسبحة الوردية، تمثال مريم، موسيقى، صلاة… من بينها: “أسطورة الأخت بياتريس” (1922) لبارونشيللي، “يوميات كاهن في الريف” (1950) لبريسون، A bridge too far (1977) لأتينبورو…
الأزهر وصورة مريم
في مصر أنهى الكاتب فايز غالي سيناريو فيلم “المسيح والآخر” عام 2010 وكان من المفترض أن يخرجه أحمد ماهر، وعلى الرغم من حصوله على موافقة الكنيسة القبطية إلا أن الأزهر الشريف أوقف التصوير بحجة أنه لا يجوز ظهور الأنبياء في السينما. يتناول الفيلم ميلاد السيد المسيح ورحلة العائلة المقدسة على مرحلتين الأولى غلى غزة والثانية إلى مصر.
أوضح الشيخ فرحات المنجي، أحد علماء الأزهر الشريف، سبب رفض ظهور السيد المسيح والسيدة العذراء في عمل فني، في أن الشخص الذي يتقمص شخصية المسيح أو الفنانة التي تؤدي مريم العذراء ستظل صورتهما في ذهن المشاهد حينما يراهما في أعمال أخرى قد يكون فيها لهو وشرب خمر، وهو أمر غير جائز في الإسلام.
أضاف أن “السيدة العذراء ينطبق عليها ما ينطبق على الأنبياء والمبشرين في الجنة، ويكفي أنها من أطهر نساء الأرض، ومن ستؤدي دورها يمكن أن تظهر في عمل آخر بدور شخصية ساقطة، ولذلك لا بد من رفض المسلمين لظهورهما حتى لو وافق الأخوة النصارى؛ لأن المسيح والعذراء جزء من ديننا الإسلامي أيضا، وقيمة كبيرة لنا”.
في المقابل، أكد القس صليب متى ساويرس عضو مجلس الملي العام للأقباط موافقة الكنيسة في مصر على ظهور الشخصيات الدينية في الأعمال الفنية، شرط أن يتفق هذا التداول مع تعاليم الكتاب المقدس، مؤكدا أن رواية فيلم “المسيح والآخر”، الذي يتناول حياة المسيح منذ حدث تبشير الملاك للعذراء مريم لا يوجد خلاف عليها في القرآن أو الإنجيل.
كلام الصور
1- ملصق فيلم Te song of Bernadette
2- ملصق فيلم مريم المقدسة
3- ملصق فيلم Le miracle de Fatima
4- ملصق فيلم The miracle
5- ملصق فيلم The 13 th day