“من إيحاء الرّوح”، للأخت جوديت هارون، كتابٌ لإحياء الرّوح!

بقلم: الأديب إيلي مارون خليل

elimaroun-1“من إبحاء الرّوح”! كتابٌ جديد للأمّ الرّئيسة جوديت هارون، صدر حديثًا يتضمّن مقالاتٍ ومحاضراتٍ، سبقَ نشرُ بعضِها في جرائد ومجلاّت لبنانيّة، في مناسبات مختلفة “منذ سنة 1977 حتّى أيّامِنا الحاضرة”.

   بَدءًا بالعنوان: (من إيحاء الرّوح). إنّه عنوانٌ لافتٌ، مؤثِّرٌ، موحٍ.                                        لافتٌ إذ يذكّر أنّ للرّوح مكانةً، بعدُ، في هذا العالم المادّيّ اللاّهث أبدًا، وراء المال، اللّذائذ، التّرف، عند فئة، في مقالات من مثل: “اَلشّهادة لإنجيل الخلاص”، أو “اَلعالم الحديث وقوى الإنجيل”، أو ” اَلقداسة والمواهب”، أو ” اَلقداسة والجَمال”، أو سواها الكثير، وكلّها تخاطبُنا بصفاء ذهن، وتوقُّد عاطفة، وحسّ إنسانيّ رهيف؛ ووراء العمل الشّريف والرّغيف النّظيف، عند فئة، من مثل: “لا تدعوا أحدًا أبًا لكم في الأرض”، أو “إنّ الجمال سيخلّص العالم”، أو: “اَلإنسان والألم”، أو سواها، وهي تخاطبُ منّا العقل والعاطفة والوِجدان، بوعي ونضج ومسؤوليّة؛ ووراء المصالح الشّخصيّة: سياسيًّا، اجتماعيًّا، اقتصاديًّا، وعلى أيّ صعيد مادّيّ آخر، عند فئة، من مثل: ” لنولد ثانية”، أو: ” كفى الأرض دماء”، أو سواهما، مخاطبة فينا ما تبقّى لنا من إحساس وتربية وضمير، بمحبّة واحترام وأمل.              ومؤثّر لأنّه يهزّ، منّا الكِيان، وفينا الفكر. يطرح علينا أسئلة مهمّة، يخضّ وِجداننا، فنعود إلى ذواتنا متأمّلين، متفكّرين، في مقالات من مثل: ” أزمة المعنى”، أو: “وليمة الفقراء”، أو: “مدلولات الإرشاد الرّسوليّ…”، أو: “الرّجاء الّذي فينا”، وسواها، وجميعها تواجه بلطف وإيجاز، بصراحة ووضوح وبساطة، من دون جرح أحد، ولا إحراج أحد.                                                                         وهو موحٍ إذ إنّه، بكلماته ـ المفاتيح: “الله، الكنيسة، الإنسان، الحُرّيّة، المحبّة، الرّجاء”…، وعناوينه النّاجحة: ” اَلسّلام هو الأقوى، وليمة الفقراء، القداسة والجمال، إنّ الجمال سيخلّص العالم”… (لاحظ، هنا، إنّ التّأكيديّة)، يوحي إلى القارئ الرّصين، فيتّجه ذهنُه في مختلف الاتّجاهات، ليلقى في كلّ اتّجاهٍ، ما يثير، وما قد يكون رابضًا في الصّدر يجعلنا نتنفّس فنرتاح.

   اِنتقالا إلى الغلاف. هو أخضر يتموّج، يتدرّج، فيه، فوقُ، كوّةٌ نورانيّةٌ تُشير إلى الرّوح، في وسطها العنوان، بالأسود المُشرِق، وفي أسفله باقة أشجارٍ خضراء باسقة، توحي إلى القِدَم والصّلابة، وفوقها، مباشرة،. اسم المؤلّفة خجول يكاد أن لا يبين، لتواضع في الطَّبْع، رصين. إنّه غلافٌ متقَنُ البَساطةِ الفنّيّة الجميلة. أليست البساطة الأسلوبيّة المتقَنةُ الجمال، دليل مقدرة كتابيّة حقيقيّة أصيلة!؟

  أمّا المقالات، أو المحاضرات، أو الكلمات ـ الخِطَبُ القصيرة، وإن كانت جميعها، من وحي مناسبة محدَّدة، فهي كلُّها، تتجاوز المناسبة، تتخطّاها، لتقول ما هو أبعد، ما هو أعمق. تقول ما يستمرّ في القلب والعقل، فوق أيّة مناسبة، فوق أيّ زمن، إلى الأزمنة جميعها. فالرّوح “يهبّ” حيث شاء، متى شاء، على مَن شاء. على المُتَلَقّي أن يكون “قابلا” كلام الرّوح، عارفًا إيحاءات الرّوح، محاولاً العمل بإيحاءات الرّوح. وإلاّ، فالكلام “طبْلٌ يطنّ أو صنج يرنّ”.

  ما أريدُ الإشارة إليه، في هذه العجالة الإيجازيّة السّريعة، هو أنّ الأخت جوديت، الدكتورة في الفلسفة، استطاعت أن تناغم، بنجاح، بين الفكر الفلسفيّ والأسلوب الأدبيّ، بعيدًا من ادّعاء الفلسفة والأدب معًا. كتبت بأسلوب سهل، فصيح، بليغ، يوصل المعاني إلى القارئ، لتستقرّ في ذهنه، يتفكّر، يتأمّل، يستوحي. إنّها الكتابة الفنّيّةُ، الجميلة، البسيطة، النّاجحة.

   يبدأ الكتابُ بمقدّمة قصيرة تنمّ عن خبرة روحيّة وفكريّة، كما عن روح فرِحة برسالتِها، لأنّها مؤمنة بها، عاملة في سبيل تطوّرها الدّائم. ثمّ تلي الفصول، وقد قدّمت للفصول، ولكلّ فصلٍ عنوانه اللاّفت، بجملة مقتضَبة، تشير إلى صاحبِها، وتوحي إلى القارئ، بما هو أبعد من العنوان. أوَليس القارئ الجيّد، كاتبًا آخر للنّصّ!؟ من ذلك، مثلاً، الفصل الأوّل وعنوانُه: “من قداسة الكلمة”، قدّمت له بهذا التّعبير: “كلام اللّه هو أوّل نبع لكلّ روحانيّة مسيحيّة”، مشيرة إلى مصدر الجملة: (الحياة المكرّسة عدد94). وفصل ثانٍ عنوانه: “من وحي الكلمة”، قدّمته بهذه: “إنّ الحياة الرّهبانيّة معلَّقةٌ بين قمّتين: كلام اللّه والإفخارستيّا”، والمرجع: (نور الشّرق عدد 10). وفصل ثالث عنوانه: “من نور الجمال الإلهيّ”، ومقدّمته (آية من يوحنّا): “فامتلأ التّلاميذ فرحًا لمّا رأوا الرّبَّ”. ورابع: “من وحي السّماء”، مقدّمته: “أن نرجو، إنّما هو أن نلتزم”، والمصدر: (رجاء جديد للبنان عدد 29). وهكذا… فعنوان الفصول يتضمّن ألفاظًا روحيّة مثل: قداسة، وحي، روح… وتتكرّر في الكتاب كلّه، وبشكلٍ أساسيّ ألفاظ ثلاث هي: وحي/روح/رجاء، ما يشير إلى أنّ الكتاب، بمُجمله، مستَقى من عالم الرّوح العُلْويّ ليزرع في النّاس، ما هو أهمّ من الأمل، إنّه الرّجاء؛ ما يجعل الإنسان القارئ مسلّمًا نفسَه لهذا الرّجاء، لأنّه مؤمن به، وللسّعادة الّتي هي غاية اللّه، وغاية كلّ إنسان. بهما: الإيمان والرّجاء، نقترب من عالم المِثال، فنرتفع عن “الصّغائر”، ونرقى إلى ما يداني المِثال الأعلى. فمَن لا يطمح إلى المستحيل، يعجز عن تحقيق الممكن!

    هذا، وإنّ ما يمكن قوله، بعدُ، عن هذا الكتاب، كثير، لكنّي أكتفي، الآن، بما ذكرت، وأُضيف أمرًا واحدًا، إذ أترك الدّراسة الوافية لمناسبة أخرى. ما أريد إضافته، هو أنّ “من إيقاع الرّوح” لا يقتصر الكلام فيه على كلّ ما هو روحانيّ، إنّما نرى أمرَين متلازمَين: عالم الرّوح وعالم الأرض، فنجد أنّ الرّوح في خدمة عالمنا الأرضيّ، نحيا حياة أرضيّة راقية، فنلج عالم الرّوح، حيث الرُّقيّ التّامّ.

 ختامًا أقول: إنّ “من إيحاء الرّوح” كتابٌ للإكليروس: رهبانًا وراهبات وكهنة رعايا ومطارنة… وللعلمانييّن: فتيات وشبابًا من كلّ جيل واتّجاه. إنّه كتاب يمكن لك أن تعتبره رفيق يومك، تقرأ فيه، كلّ يوم، مقالة، أو محاضرة، أو خطبة… فتجد فيها ما يغذّي الفكر، وما يُسمي النّفس، فتصبح إنسانًا سائرًا في طريقه نحو الكمال.

اترك رد