“اســـــــمــه يـــوحـنّــــا” (لو 1: 63)
1. تحتفل الكنيسة اليوم بعيدَين: عيد مولد يوحنّا المعمدان السابق لميلاد الربّ يسوع، وعيدِ أمّنا مريم العذراء سلطانة الحبل بلا دنس. ويمكننا جمع العيدَين، من حيث المعنى، بعيد واحد هو تجلّي رحمةِ الله. فاسم “يوحنّا“، ألذي أعلنه الملاك لأبيه زكريا يعني، حسب اللفظة العبرية، “يهو حنان”، “الله رحوم“. لقد سبق أن تجلّت “رحمةُ الله” في عصمة مريم العذراء من دنس الخطيئة الأصلية، منذ اللحظة الأولى للحبل بها. وهذه عقيدة إيمانية أعلنها رسميًّا الطوباوي البابا بيوس التاسع في 8 كانون الأول 1854. بتجسّد إبن الله الغنيّ بالرحمة لفداء الجنس البشري وخلاصِه بلغت الرحمةُ الإلهية ذروتَها، واتّخذت إسمًا في التاريخ هو يسوع المسيح.
2. إنّ رحمة الله فاعلةٌ في حياة الكنيسة ومؤسساتِها، وفي حياة الكثيرين من أبنائها وبناتها. فنُحَيّي اليوم معنا مؤسسة أخذت على نفسها خدمة رحمة الله لأخوتنا الفقراء والمعوزين، “أخوةِ يسوع المسيح الصغار”، هي مؤسسة بيت الضيافة الخيرية في مدينة جونيه. نُحيّي مؤسِّسَها ورئيسَها الأول الأب أنطوان عطالله، ورئيسَها الحالي الأب أنطوان سلامه، وكلاهما من الرهبانية اللبنانية المارونية الجليلة، وكلَّ العاملين فيها والمحسنين، وكلَّ أسرتها من أخوتنا وأخواتنا الذين يختبرون، في رحابها، محبةَ الله ورحمتَه. نحتفل اليوم مع مؤسسة بيت الضيافة، بيوبيلها الفضّي، يوبيل خمسٍ وعشرين سنة في خدمة العطاء منذ تأسيسها. فنرفع ذبيحة الشكر لعناية الله ولرحمته التي تجلّت في “بيت الضيافة” على مدى ربع قرن. ونرفعها ذبيحة تشفّع من أجل كلِّ القيّمين على المؤسسة والمحسنين إليها لكي يفيضَ اللهُ عليهم نعمَه وبركاته غزيرة، من أجل المزيد من خدمة المحبة.
ونُحيّي أيضًا معنا اليوم الشاب مايكل إسبر حداد، الحامل في جسده الشلل وفي يديه عكّازان، الذي مشى حاملاً غرسة أرزٍ على ظهره، من أرز الرب في بشرّي إلى أرز تنورين، طيلة ثلاثة أيام، 12 ساعة في كلّ يوم. أراد بذلك أن يقول لنا نحن اللبنانيين وللعالم: لا شيء مستحيل، ولا إعاقة، ولا “يا حرام”، بل الإعاقة الحقيقية هي في القلوب المتحجّرة والعقول المنحرفة عن الحقيقة والإرادات الميتة الجبانة. وليقول أيضًا أن أرزة لبنان هي علامة لبنان الحضارة والرسالة، ونحن وغيرُنا مدعوّون لنحافظَ عليها وننشرَها.
ولكن كم يؤلمنا أن تتعرّضَ للاعتداء مؤسّسة مماثلة لمؤسسة بيت الضيافة تخدم المحبّةَ والرحمة، هي دير وميتم راهبات القديسة الشهيدة تقلا في معلولا التي تتعرّض للقصف. أنّنا نناشد مندوبي الأمم المتّحدة عندنا التدخّل من أجل إرجاع الراهبات إلى ديرهنَّ أو إلى دير آخر، لكي يواصلن حياتهنَّ المحصّنة للصلاة وخدمةِ محبةِ الله ورحمتِه. ونُكرِّرُ النداء إلى الدول المعنيّة بالحرب في سوريا مُطالبين بالعمل الجدّي للإفراج عن المطرانَين يوحنا إبراهيم وبولس اليازجي، مطرانَي حلب للروم الارثوذكس والسريان الارثوذكس، والكهنة الثلاثة الأب ميشال كيّال من كنيسة الأرمن الكاثوليك، والأب اسحق (ماهر) محفوض من كنيسة الروم الأرثوذكس، والأب اليسوعي Paolo Dall’oglioالمخطوفين منذ ما بين ثمانية وتسعة أشهر، باسم كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، التي تنادي بها هذه الدول، إلا إذا كانت هذه مجرّد شعارات لتبرير الحروب. في كلّ حال، إنّنا نحمّلهم ونحمّل ضمائرهم أمام الله والتاريخ هذه المسؤولية الخطيرة.
3. “إسمه يوحنّا“(لو1: 63). يذكّرنا هذا الاسمُ بأنّ الله رحوم بطبيعته، كما تُبيّنُ اللّفظةُ العبرية “رحاميم“، أي أنّ رحمته تنبع من أحشائه، كمِن رَحِم الأمّ. ويذكّرنا أيضاً أنّه أمين دائماً لذاته أي، حسب اللّفظة العبرية “حِسِدْ“، أمين لرحمته. فمهما كبُر شرُّ الإنسان تبقى رحمةُ الله أقدرَ وأعظم، فتغفرُ للتائب الحقيقي من فيض الرحمة. ومهما كثرت حاجةُ الإنسان والبشر، المادّية أو الروحية أو المعنوية أو الثقافية، تبقى رحمةُ الله أكبرَ وتستمر فاعلةً عبر الذين تمرّ على أيديهم محبتُه والمبادرات.
4. الرحمة هي حاجة عصرنا، فيما عقليّةُ العصر الحاضر تسعى إلى القضاء على فكرة الرحمة، في كلّ وجوهها: أكانت مصالحةً أو غفرانًا، أكانت خدمةً لفقير أو مريض، أكانت إعلانًا لحقيقةٍ أو إحلالاً لعدالة. هذا ما نشهده، بأسفٍ شديد، عندنا في لبنان وفي بلدان الشرق الأوسط، حيث، إلى الآن، لا مكان للرحمة والمصالحة والعدالة والسلام. أمّا الكنيسة فمن واجبها المناداةُ بالرحمة الإلهيّة الظاهرة في المسيح المصلوب والقائم من الموت، وممارسةُ الرحمة تجاه جميع الناس. أظهرَ الربّ يسوع رحمةَ الله في محبته التي جعلها حاضرةً في هذا العالم، وفاعلةً. فمحبّته ورحمته تتّجهان إلى كلِّ إنسان، ولا سيّما إلى مَن هم في حالةِ مرضٍ أو ظلمٍ أو فقرٍ أو استبداد أو حرمان. وتناول يسوع الرحمة كموضوعٍ أساسيّ في تعليمه. وقد نقلَ لوقا الإنجيليّ معظم هذا التعليم، حتى سُمّي إنجيلُه بحقّ “إنجيلَ الرحمة”. وعندما كشف المسيح عن محبّة الله التي هي الرحمة، طلب من الناس أن ينقادوا، في حياتهم، لما تلهمهم إليه هاتان المحبة والرحمة (البابا يوحنا بولس الثاني: في الرحمة الإلهية، 3). وبارك مُطوِّبًا الذين يُمارسونها: “طوبى للرحماء فإنّهم يُرحمون” (متى 5: 7).
لقد خسر العالم، في هذه الأيام، رجلاً سياسيًا آمنَ بالرحمة والمصالحة والأخوّة، هو المغفور له رئيسُ جمهورية أفريقيا الجنوبيّة السابقنلسون منديلاّ. لقد اختمر في قناعاته الإنسانية والاخلاقية والوطنية الرفيعة خلال السبع والعشرين سنة التي قضاها في السجن بسبب هذه القناعات. كم نتمنّى لو يقتدي المتخاصمون عندنا بشجاعة هذا رجل الدولة الحقيقي، ويختبرون جمال المصالحة والتعاون والمساواة وشرفها وكِبَر النفس فيها. إنّ لنا في جنوب أفريقيا جالية لبنانية ومارونية كبيرة. إنّنا نُعزّيهم ومن خلالهم نُعزّي رئيس البلاد وقادتَها ومواطنيها الكرام.
5. نرفع أنظارنا وقلوبنا إلى أمّنا مريم العذراء في عيد عُصمتها من وصمة الخطيئة الأصلية، وهو عيدُ الحبل بلا دنس، الذي أعلنه الطوباويّ البابا بيوس التاسع عقيدةً إيمانية، بهذه الكلمات: “إنّ الطوباوية مريم العذراء، في اللّحظة الأولى من الحبل بها، وبنعمةٍ وإنعامٍ خاصَّين من الله الكلّيّ القدرة، واستباقاً لاستحقاقات يسوع مخلّص الجنس البشري، حُفظت بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية” (راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 491). ولهذا حيّاها الملاك جبرائيل بالـ “ممتلئة نعمة” (لو 1: 28). ما يعني أن ابن الله المتجسّد منها قد افتداها قبل إجراء عمل الفداء، وملأها حضورًا إلهيًّا ثالوثيًّا. ولهذا السبب امتلأت إليصابات من الروح القدس فتنبّأت على أنّها المباركة بين النساء، وأمُّ الإله، وامرأةُ الإيمان الثابت.
هو الله اختار مريم، من قبل أن تولد، لتكون أمّ الإله ، يسوع المسيح، فادي الإنسان ومخلّصِ العالم.
6. نتعلّم من مولد يوحنا المعمدان، الذي بشّر بمولده الملاكُ، ومن سرّ الحبل بلا دنس، أنّه كما كان يوحنا ومريم معروفَين من الله قبل تكوينهما في حشا الأمّ، وبالتالي مُرادَين من الله، ومُختارَين لرسالة معيّنة في تاريخ الخلاص، هكذا كلُّ إنسان يولد لامرأة معروفٌ من الله ومُرادٌ منه. وبما أن يوحنا ومريم كانا من اللّحظة الأولى للحبل بهما ما سوف يكون كلُّ واحد منهما، هكذا كلُّ جنين يتكوّن في حشا أمّ هو، من اللّحظة الأولى للحبل به، ما سوف يكون. إنّه كائن بشري له كلُّ حقوق الشخص، وفي طليعتِها حقُّه في الحياة. ولذلك الاعتداءُ عليهبالإجهاضِ المباشر، أي الذي يُراد كغايةٍ ووسيلة، هو جريمةٌ مِثلُ أيّ جريمة قتل، ومخالفة صارخة للوصيةِ الإلهية: “لا تقتلْ”، وبالتالي تُوقِع صاحبَها وكلَّ شريكٍ له ومساهِم وكل مشجع في الحُرم بذات الفعل وفي خطيئةٍ مميتة محفوظٌ الحلُّ منهما لمطران الأبرشية بموجب القوانين الكنسية (ق 1450 و728).
7. يأتي يوبيلُ الخمس والعشرين سنة من حياة “مؤسسة بيت الضيافة الخيرية“، في زمنٍ شبيه جدًّا بسنة 1988، عندما أسّسها الأب أنطوان عطالله، وكان آنذاك رئيسًا للمدرسة المركزية في جونيه بموافقة السلطة الرهبانية. فجمع الأب أنطوان حوله كوكبةً من المحبّين، وفي مقدّمتهم مَن جُرح في صميم بيته بمقتل ابنته، وهي في ربيعها السادس والعشرين، وكانت الانطلاقة. وراح الأب أنطوان يجوب العالم من أوروبا إلى أميركا فأوقيانيا يجمع المساعدات مالاً وأدوية ومساعدات غذائيّة وسواها.
فكان المطعم المجّاني الذي يقدّم وجبة الظهر، أربعة أيام في الأسبوع، والطعامَ الساخن للمسنين والمرضى في بيوتهم. وكانت المساعدات المالية للمحتاجين لسدّ حاجاتهم، وللمرضى لتأمين الاستشفاء والدواء لهم، وللتلامذة للتمكّن من دخول المدرسة والجامعة، وللعائلات الفقيرة لدفع أجور منازلهم، وللعاطلين عن العمل لإيجاد الفرص. وكان الاهتمامُ الخاصّ بالشبيبة على الصُعُد الروحية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية.
8. معك، أيها الأب العزيز أنطوان، ومع كل معاونيك والمحسنين، نتمنّى للمؤسسة، المولودة من صميم رحمة الله وعنايته، ومن قلوبكم المُحِبّة، الديمومةَ والاستمرارَ بمزيد من الإمكانيات، لأنّ عدد الفقراء عندنا قد تزايد، ويا للأسف، أضعافَ أضعافِ ما كان عليه من خمسٍ وعشرين سنة. وما القول عن النازحين من نيران الحرب والحقد والعنف في سوريا، الذين تجاوز عددُهم المليون في لبنان.
9. ومعًا نصلّي لكي يَمَسَّ اللهُ ضمائر المسؤولين في لبنان، الذين يتسبّبون، من دون أيّ رحمة، بإفقار المواطنين وحرمانِ العديد العديد من العائلات المسكنِ الآمن والمأكلِ والدواء، ويعبثون بمصير شبابنا وأجيالنا الطالعة، من خلال إمعانهم في شلّ المؤسسات الدستورية، ومنعِ تأليف حكومةٍ جديدة تكون على قدر التحدّيات الكبيرة والمخيفة، وعرقلةِ الحياة الاقتصادية، وومن خلال إغراقِ البلاد في الديون المتنامية، وتغطيةِ الفساد وسرقةِ المال العام، وتفشّي السلاح غير الشرعي، والتحريضِ على القتال، وممارسةِ العنف والاعتداءِ على المواطنين الآمنين العزّل. والكلُّ، من أجل أهدافٍ وحساباتٍ سياسيةٍ ومادّيّةٍ رخيصة. إنّنا نُحيّي جهود الجيش اللبناني وتضحياته في سبيل توفير الأمن لأهل طرابلس ووقف القتال وإعادة الحياة الطبيعيّة إلى المدينة.
ونصلّي من أجل السلام في سوريا والعراق ومصر، وفي بلدان الشرق الأوسط عامةً، سائلين الله أن يُحرّك ذوي الإرادات الحسنة من قادة الدول لكي يتوافقوا على إيجاد السبل السلميّة لإحلال سلامٍ عادلٍ وشاملٍ ودائم في منطقتنا.
فيا مريم، سلطانةَ السلام وسيدةَ لبنان، نسألك أن ترفعي دعاءنا إلى عرش ابنك السماويّ. ومن أرضنا ومن قلوبنا ترتفع أناشيدُ المجد والشكر والاستغفار، للآب والابن والروح القدس، إلى الأبد، آمين.
**************
(*) عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي أحد مولد يوحنّا المعمدان / وعيد الحبل بلا دنس واليوبيل الفضّي (25سنة) لمؤسسة “بيت الضيافة” – بكركي، الأحد 8 ديسمبر2013.
كلام الصور
1- 2- البطريرك الراعي خلال ترؤسه القداس الإلهي